من أحدث المقالات المضافة في القسم.

سجن النفس ﴿3098﴾.
متعة الفشل ﴿2726﴾.
مفاهيم ملحة ﴿3659﴾.
شذوذ وخلل ﴿5302﴾.

اسمُ الكاتب : د. أكرم محمد مليباري.
عدد المشاهدات : ﴿3101﴾.
عدد المشـاركات : ﴿27﴾.

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأكملين على نبي الرحمة المهداة محمد بن عبدالله الأمين، وبعد.
الحديث عن الحياة وتنوع أشكالها وأنماطها حديث ذو شجون؛ إذ هو لا يقتصر على اختلاف أحوال البشر ومستوياتهم الاجتماعية والمادية وغيرها وحسب، بل يترتب بناء على ذلك؛ اختلاف أدوارهم وواجباتهم تجاه أنفسهم وأهليهم ومن له صلة مباشرة وغير مباشرة بهم.
ونحن إذ نقف على مسرح الحياة - حيث أُطلق ذلك المصطلح على ثمة حال - من الكثير من الكتّاب والواصفين وغيرهم ممن لهم اهتمام بشؤون الناس وأحوالهم ومن درسوا علم الإنسان وما إلى ذلك، وأرى أن ذلك وصفاً دقيقاً؛ فإن كُلَّ واحدٍ منا له الدور الذي حُدد له ليقوم بأدائه، أو ربما يكون للواحد منا أكثر من دور في هذه الحياة؛ وطبعاً بعد تقدير الله تعالى وتوزيعه للأرزاق بين عباده، وذلك أمرٌ مفروغٌ منه، وهو ليس الشاهد هنا، وإنما الشاهد في هذا المقال يأتِ فيما بعد.

■ حقيقة دورك أنت.
في تصورٍ شخصيٍ بحت، معظم المشاكل والصعاب التي يعاني منها الإنسان في هذا العصر بتركيبته وعجلته السريعة؛ تنبع من جهله بدوره الذي يؤديه في مسرح هذه الحياة؛ وإذا أردنا أن نتحدث عن رب الأسرة ابتداءً، فقد نلاحظ بوضوح جهل الكثير من أرباب الأسر بدورهم تجاه أفراد أسرهم وأهميته، وكذلك أهمية توصيف ذلك الدور ومعرفة الحقوق والواجبات الملقاة على عواتقهم، فكم من رب أسرة لا يدرك أهمية دوره وما يمكن أن يؤدي التقصير في أداءه على الشكل المطلوب ؟ بل يكون الأمر أكثر سوءاً؛ عندما يعم الجهل حياة رب تلك الأسرة، وليس الجهل المقصود هنا بذلك الذي يكون خلاف القراءة والكتابة أو الحصول على أعلى الشهادات؛ بل هو عدم الشعور والتحسس بالمسؤولية الملقاة على كاهل الكثير من الآباء والأمهات معاً !
في إخفاق أرباب الأسر بالقيام بالدور المطلوب منهم قدر المستطاع؛ هو في حقيقة الأمر حالة من التيه عن توصيف الدور، أو الجهل به وعدم توفر الكفاءة المطلوبة للقيام به، وأضرب هنا مثالاً للتوضيح؛ فدور إمام المسجد أو خطيب الجمعة، هو القيام بإلقاء الخطبة على مسامع المصلين قبل صلاة الجمعة؛ حيث يكون ذلك الإمام ملتزماً بوقت محدد وبخطبة الجمعة من حيث الترتيب كالخطبة الأولى، ثم الجلسةُ الخفيفةُ بين الخطبتين، ثم الوقوفُ لإلقاء الخطبة الثانية وهكذا، فكلُ ذلك من ضمن المسؤولية الملقاة على عاتق ذلك الخطيب؛ وليس هناك مجال للتقصير في ذلك؛ وإلا فإنه لن يقوم بالدور المطلوب وعمله سيصبح ناقصاً وغيرَ مقبول والركن الواجب في صلاة الجمعة سيكون غائباً؛ مما يترتب عليه التفريط في أداء شعائر صلاة الجمعة.
وقد نلاحظ في حياة الكثير من الناس؛ عدم الرضا والقبول بالدور الذي أُنيط بهم في هذه الحياة؛ وتلك حالةٌ قد لا ينجو منها إلا من رحم الله؛ فكم من أناس لو سألهم سائل : هل أنت سعيد وراضٍ عن حياتك ووضعك الاجتماعي أو المادي أو غير ذلك ؟ لكان الجواب في أغلب الأحيان بالنفي !

ولا ضير فإن الإنسان تواق للحصول على كل شيء، مع عدم القناعة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لو كان كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له ثالث ولا يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب) صدق صلى الله عليه وسلم، ففي مسرح الحياة وهو مشاهد وملموس لدى الكثير منا؛ أن هناك بعض الأثرياء لدى الواحد منهم الكثير من المال والخير، ولا يكتف بما عنده؛ بل يلهث للمزيد، وفي مضمون حديث أنس رضي الله عنه فيما سبق؛ لا يُستثنى أحد من ذلك إلا أنه صلى الله عيه وسلم قال : ويتوب الله على من تاب أي أن الله يقبل التوبة من الحرص المذموم وغيره من المذمومات (صحيح مسلم).
ودور أرباب الأسر كما هو معروف ليس بالدور السهل؛ ونحن هنا لا نقف موقف الناقد أو المحاسب على كل صغيرة وكبيرة أو تقصير؛ ومن ثم نوجه أصابع الاتهام واللوم على الدوام، فليس ذلك هو الهدف ولكن الهدف هو أن نساعد على خلق أفقٍ أرحبٍ نصل من خلاله إلى نوعٍ من الفهم والتوصيف الصحيح لدورنا في هذه الحياة؛ مما يساعد على تحسين أوضاعنا وتصحيح بعضٍ من أنماط الحياة لدينا؛ بغية أداء الرسالة على الوجه الصحيح، أو الأقرب للصحة.

■ وفيما يلي بعض الاستنتاجات التي ربما تساعد على تقريب الوصول إلى الأهداف :
أ- الكل منا يحتاج إلى راحة واستجمام من معاناة وضغوط الحياة المختلفة، مما يعين على إعادة شحن الطاقات والقدرات، وتخصيصُ وقت الراحة وكيفية قضائها؛ يعود للشخص بحيث لا يأخذ قضائها جل الوقت؛ وتُهمل فيه الواجبات، ولا تكون غير كافية ومشبعة للرغبات؛ فيعود المرء لعمله متثاقلاً متململاً.
ب- العيش داخل فقاعة الآمال والأحلام، من غير العمل وبذل الأسباب؛ هو شر الشرور ! فالتخيل والتأمل طوال اليوم قد لا يكلف المرء طاقة وجهداً إضافيين؛ ولكنهما قد يؤديان إلى نهاية الحياة بصورة ليست مأمولة، فالوقت لا يقف لأحد والحالم طوال عمره؛ سيكبر ويهرم وربما لا تنتهي أحلامه وأمانيه !
ج- (القناعة كنزٌ لا يفنى) قال لي أحد الأصدقاء ذات يوم : (لا يكاد يوجد من رضي بحاله) فقلت له : وكيف ذلك ؟ فقال : (الكل - ما عدا القليل جداً - الطبيب يتذمر من مهنته ورجل الأمن كذلك، والمهندس والموظف والبائع و.. فكل مهنة و وظيفة لها من المتاعب وما يمكن أن يكون من المنغصات أو ما يُدرج ضمن العيوب؛ ولا عجب فالكمال لله وحده، ولكن نحن من نؤدي الدور الذي كُلفنا به فنحن أحوج إلى نوعٍ من التثقيف الخاص الذي يساعدنا على استيعاب وفهم مشاكل المهنة ومتطلباتها وتبعات الالتحاق بها وجعلها كمصدرٍ للعيش؛ ومن الطبيعي أن ندرك ما يترتب عليه تركها أو الاستمرار في أدائها !).
د- التضحية مثل تجرع الدواء مر الطعم؛ بغية الاستطباب من المرض ! فلو أن مريضاً آثر آلام المعدة الشديدة مثلاً على أخذ الدواء لأن طعمه غاية في المرارة؛ فلربما أدى ذلك إلى حدوث مضاعفات خطيرة؛ قد لا تُحمد عقباها بعد إرادة الله تعالى بالطبع، ولكن ذلك خلافاً لهدي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ في التداوي من الأمراض بالدواء المشروع وليس بالدواء المحرم طبعاً، والتضحية تكمن في تحمل الدور الذي نؤديه مهما كان؛ في سبيل أداء رسالة الحياة إلى آخر يوم في عمر الإنسان.
العازب لا يتساوى مع الشخص الذي يحمل على كتفيه مسؤولية القوامة والتربية تجاه عائلته وأبناءه؛ ومشكلُ كثيرٍ من المتزوجين أنهم يريدون نوعاً من الحرية المطلقة أو الكاملة من غير التقيد والالتزام بالرعاية الضرورية لعوائلهم، فكم من زوجٍ لا يعرف شيئاً في بيته سوى وقت الطعام والنوم، فتجده حاضراً لذلك وحسب ! وكأن المنزل هو محطة استراحة للمسافرين، وكذلك بعض الزوجات لا يعرفن سوى محاسبة الخادمة على أي شيئ من تقصير؛ بعد إلقاء كل المهام على عاتقها من نظافة وطبخ و.. حتى شؤون الزوج ! أصبح الكل - عدا القليل جداً - جل اهتمامه بنفسه ومتعتها وراحتها بأي شكل من الأشكال، من غير تحمل لمسؤولية تجلب الكدر والضيق لصاحبها !
وليس هناك اختلاف على أن النفس تمَل وتركن للراحة وتميل للهروب من المسؤولية عند أكثر الناس؛ ونحن نعيش عصراً طغت الماديات فيه بشكلٍ يجعل المرء لا يكاد يرى أمامه سوى العمل والجري وراء إمتاع النفس قدر الإمكان؛ مع غض الطرف عن الكثير من الواجبات، أو إيكالها للغير كما أسلفنا لأن لسان الحال يقول : (متّع الروح قبل أن تروح !)، وحقيقة الدور عند الكثير من الناس مغيبة؛ فهي إما أن تكون غير واضحة لدى الشخص، وتلك مشكلة عظمى، أو أنها تواجه بالتجاهل المتعمد، والذي يظهر على عدة صور؛ منها الهروب من المسؤولية، أو القذف بها على الغير بكل بساطة؛ والمشكلة هنا أعظم بل هي كارثة !

■ قتامة.
ولطالما نحن نتحدث عن محاولة خلق أفق أرحب؛ من الضروري أن نتطرق إلى ذكر بعض الصور التي يظهرها الواقع، ويخفيها بعض الناس أو يتجاهلها من لا يهمه أمرها، أو من يريد أن يتعمد إظهار الصورة المغايرة لها؛ لحاجة في نفسه ربما، ولتوضيح المقصد، أضرب مثالاً؛ فمعظم المساجد في صلاة المغرب وصلاة العشاء في بلادنا، تكاد تكتظ بالمصلين على الرغم من الملهيات والمشغلات عن العبادة والصلاة في هذا العصر، عصر العولمة الذي يسرق الإنسان من نفسه، ويعيده محملاً بكم هائلٍ من منتجات التقنية الحديثة بأنواعها؛ حيث مع الأسف يصبح هذا الإنسان أسيراً ومقيداً لها أي لوسائل التقنية، ومهملاً لغاية وجوده في هذه الدنيا وهي عبادة الله تعالى - إلا من رحم الله - والشاهد هنا هو أن الصورة التي نريد تركيز بؤرة النظر أو ما يعرف بـ (الزوم) مجازاً عليها؛ هي خلاف من يقول في الغالب بأن الإسلام أصبح غريباً على الإطلاق ولم تعد بيوت الله يٌرى فيها الكثير من المصلين والعابدين هذه الأيام، أو أنها فَرغت منهم؛ لأن الواقع يخبر خلاف ذلك.
ولكي نكون منصفين، لابد من ذكر الجوانب الأخرى التي تظهر في أرض الواقع؛ فلا يعني أن نجد شخصاً يكذب ليصل لهدف ما مثلاً، فنجزم على اليقين بأن الناس كلهم كاذبون وانتهازيون ! ولا يعني أن من اعتاد السهر بالليل هو شخص غارقٌ في المعاصي والشهوات !
فإذا أردنا أن نقتاد القارئ بالتركيز على الجانب المظلم في قضية ما أو في ذات الموضوع الذي نتحدث عنه؛ فمن الإنصاف أن لا نتجاهل عن عمدٍ أو جهلٍ الجانب الذي يمكن أن يُعد مشرقاً فيه، أي إذا كنا نجهل جانباً في قضية ما وأردنا التحدث عن جانب نعده مظلماً فيها، لإيجاد حلول مثلاً، أو لمجرد إثارته على الساحة مع جهلنا بالجانب الجيد الذي يوجد به؛ فعلينا التوقف قبل الخوض فيه؛ للرؤية الشاملة والكلية لجميع أبعاده لنتجنب أن نغمط الحقَ أو أصحابه، وإلا فإن الجهدَ سيكون مهدوراً، والنظرة بدلاً من أن تكون ثاقبة فستكون مبتسرة.
والنظرة إن كانت قاتمة وسوداوية على الدوام؛ فستؤثر على النفوس والحياة؛ ومعها سيفقد الكثيرُ الأملَ والواقع لا يُنبئ بذلك، بل من الضروري أن نستبشر بالخير - وهو موجود - ونتفاءل به على الدوام، فالنبيُ صلى الله عليه وسلم كان يحبُ الفأل ويكره التشاؤم، والكلُ يحتاج إلى من يبثُ في نفسه الأمل وأن يشجعه للوصول إلى الأهداف، وتحقيق الآمال؛ من غير العيش في الخيال المطلق، والكف عن العمل، بل بفعل الأسباب بعد التوكل على الله تعالى.
وقد قلت في مقال سابق : إن الذي يفحص عينةً بواسطة المجهر؛ سيدقق في جزءٍ محددٍ، قد يكون هو المطلوب فحصه وحسب، وستتلاشى أمام عينيه الأجزاءُ الأخرى في نفس العينة !
وفي مذكرات (ماوتسي تونج) ذكر الضفدع الذي كان في البئر؛ فنظر إلى فوهة البئر في أعلاه، فظن أن الفُتحة أي فتحة البئر، هي السماء وحسب ! ذلك لأنه يرى في أُفقٍ محدود جداً، بينما الأفقُ أرحبُ بكثير من مجرد المساحة التي يراها ذلك الضفدع.

■ ولكي لا يكون ما نكتبه للقارئ مجرد حروف مسطّرة، لا تسمن ولا تغني من جوع؛ نذكرُ بعض الأساليب التي ربما تكون مفيدة، تجاه ردود الأفعال؛ حيال بعض المواقف :
1- لا يكاد يخلو الحديث عن الأشخاص أو الأشياء؛ من غير ما مبالغة، فمعظمنا يميل لتنويع الأساليب في الحديث، واستخدام الوصف والعبارات أو الكلمات التي لم يستخدمها من نقل لنا القصة منذ البداية؛ علاوة على اختلاف الرواة في طريقتهم وطباعهم في الكلام، والأساليب في الإقناع والتشويق؛ وطريقة تلقينا للرواية، وطبيعة الظروف.
وفي ذلك الحال يختلف النَّاسُ في استجابة عواطفهم أو انفعالاتهم، تجاه بعض المواقف؛ فمنهم من يتعاطف بدرجة كبيرة ويبني على ذلك عدة مواقف، قد لا تكون بالضرورة صحيحة على الإطلاق، وربما لتعرضهم لمواقف معينة تجاه قضية ما أو موقف ما أو شيئ ما ! ولإزالة اللبس أضرب هذا المثل : فبعض الناس لهم شيئٌ من تجارب سيئة مع نوعٍ معين من السيارات؛ فتجدهم في كل مرة يتطرق أحدهم للحديث عن مزايا تلك النوعية من السيارات؛ يبادرون بالحديث عن عيوبها التي لا تعد ولا تحصى، بل وربما يحذّرون كُلَّ من في ذلك المجلس من اقتناء تلك السيارات لأنها في نظرهم؛ سيارات فاشلة بكل المقاييس ! وربما يكونون محقين في بعض ما يؤمنون به، بيد أن الحقيقة خلاف ذلك في نظر من له مواقف مغايرة أو مختلفة.
والمستحسن في تلك الحالة؛ عدم التسرع في الحكم على موقف ما أو شيء ما، كقضية السيارات تلك، فقط من خلال رأي واحد بل الواجب أخذ آراء مختلفة ومتنوعة، من عدة أشخاص لهم باع طويل في الأمر، إن أمكن و هكذا.
2- نحن مجتمعٌ مع الأسف، الأغلبية الساحقة فيه لا يقرأ ! والمصاحبة للكتاب تكاد تكون معدومة؛ فمن الطبيعي أن يحل محل الثقافة الشائعاتُ والمبالغاتُ والتجاربُ الشخصية التي ليست كلها تتمتع بالشفافية والصدق، أو حتى أحياناً تبعد عن الانحياز لشيء ما.
والغرب له قصب السبق في الاضطلاع والقراءة، فمثلاً هناك من يريد شراء سلعةٍ ما؛ فتجده في الغالب يذهب لقراءة التجارب العلمية التي تختص بمزايا وعيوب تلك السلعة بعينها، وما آلت إليه نتائج التجارب عبر الزمن لتلك السلعة أو ذلك المنتج؛ وما كانت نتائج الاستهلاك؛ من خلال لجان علمية مختصة تبحث في ذات المجال، وتقدم دراسات مطولة وافية.
وبذلك يكون رد الفعل أو الانطباع العام عن تلك السلعة، أو ذلك المنتج؛ أبعدَ ما يكون عن المبالغة المقيتة أو الخرافة الممجوجة - إن صلح التعبير - وعندها تتكون صورةٌ رمزيةٌ في الذهن عن تلك السلعة ربما تمتاز بالاعتدال والوسطية، والموازنة بين الثقافة الشعبية وآراء الصفوة؛ قد يكون هو الصواب تجاه بعض الأمور كالتي ذكرناها؛ لأنه لا يمكن عزل أحدهما والاعتداد بشكل كامل بجانب واحد؛ لطالما نحن نعيش مع الاثنين في مجتمع واحد، فليست كل آراء الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية، أو العوام غير دقيقة أو خاطئة، وليست كذلك كل تجارب وآراء الصفوة محل ثقة مطلقة.
وفي نظري فإن الكثير من الانطباعات عن بعض الأشخاص أو الأشياء تتكون من تقييم ذاتي، يتكون في أنفسنا بواسطة خبرات سابقة وصور ذهنية محددة تكون قد بُنيت بناءا على مواقف وحوادث؛ ولكن قد يسهل تغييرها إذا حلّت محلها تجارب مضادة أو تغيير لقناعات معينة؛ ولكن قد يكون هناك فرق كبير بين أن نكوّن نحن صوراً ذهنيةً في عقولنا، عن أشياء وأشخاص عن طريق مواقف وخبرات مررنا نحن شخصياً بها، وأن يخبرنا الغير عن تجاربهم الشخصية التي مروا هم بها ! فكم من أناس حذرهم الغير من التعامل مع فلان وفلان مثلاً؛ ولكن بعد أن وُضعوا قيد التجربة؛ وجدوا خلاف ما حواه ذلك التحذير ! أو كان مصحوباً بمبالغة بعض الشيء.
كذلك الأمر يمكن أن ينطلي على الأشياء واستخداماتها؛ فأعرف شخصاً قد غير رأيه في نوعٍ معين من الهاتف الذكي، بعد أن وجد مديحاً هائلاً في طريقة الاستخدام والمزايا؛ ولكن المفاجأة كانت حين قام صاحبنا بالتجربة الفعلية لذلك النوع من الهاتف، فوجده مملاً وغير جيد !
وخلاصة القول في هذه الفقرة؛ إن عواطفنا وخبراتنا تلعب أدواراً غاية في الأهمية في تشكيل شخصياتنا، وطريقة تفكيرنا وردود أفعالنا و .. إلى آخره، فلا نتعجب إذاً من اختلاف الأذواق بين الناس في المحبوبات والمرغوبات، والاختيارات.

■ مِرجلٌ يغلي.
لا يكاد يستقر ربما ولو للحظة واحدة؛ وهي حالة من الاضطراب المستمر، حتى ولو لم يكن ملاحظ على الشخص الحاسد أنه كذلك ! والحسد والعياذ بالله مرضٌ فتّاك أقل ما يترك في صاحبه؛ فقدان راحة البال والطمأنينة لطالما أن الشخص الذي يحسده، ينعم بنعمة ما، أو أن لديه ما يفتقر إليه هذا الحاسد أو غير ذلك.
وهو نوعٌ من الاعتراض على قضاء الله وقدره، وتوزيعه الأرزاق على العباد والعياذ بالله؛ وكأن لسان حال الحاسد يقول : "لا يغمض لي جفن حتى أسمع أن فلان أو فلانة قد حل بهم بعضُ المصائب أو النوازل ليستريح قلبي !".
وقلّ في هذا الزمن مع الأسف من يغبِط الآخر على نعمة أو موهبة مثلاً؛ بدلاً من أن يتمنى زوال النعمة بالكامل، وذلك نوع من المرض والعلة في القلب، وبعدٌاً عن الله عياذاً بالله تعالى.
ولما كان الهدي النبوي والتوجيه من سيد البشر، صلى الله عليه وسلم في قوله : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه، كان لقوله صلى الله عليه وسلم أبلغ المعاني في نفي كمال الإيمان عن العبد حتى يحب من الخير لأخيه، كما يحبه لنفسه - كما ورد في بعض الروايات - ولا يتسنى ذلك إلا لمن كان قلبه قد بلغ من الطهر والصفاء ما بلغ به الأصفياء والمؤمنون الذين نحسبهم من أولياء الله الصالحين، والله حسيبهم، ومن كانت صفة الكرم والإيثار ظاهرةً على سلوكهم في الغالب، والله تعالى أعلم بما في قلوب العباد.
ولمجرد أن نتخيل الشكل العام لمجتمعٍ يسود فيه الحسدُ والحقد، بين أفراده تجاه بعضهم البعض؛ لنتصور ما هو حجم الفساد والهدم الذي يعمل على نخر أساسه وبنيته الأولية، فلا أحدٌ يحب الخير لأحد، والكل يغلي قلبه حقداً على الآخر - والعياذ بالله - إنه وضعٌ محزنٌ وخطير للغاية !

ولعلي أطرح بعض النقاط التي ربما توضّح بعض الأسباب لانصراف الإنسان عما وهبه الله تعالى إياه من المعطيات، والتفرّغ لعباد الله والتركيز على ما لديهم من النعم والعطايا، مع الضجر والإحساس بالنقص الذي يقود إلى الشعور بالحقد أو الحسد.
أ- فقدانُ الثقة بالنفس وعدم معرفة إمكانياتها والقدرات التي حباها الله تعالى للإنسان، وفي رأيٍ شخصي اجتهادي، فإن الشخص الحاسد هو شخصٌ منهزم داخلياً، ويحاول تعويض ذلك الانهزام بالحسد.
ب- الركون إلى الراحة والدعة، ورفض العمل والبذل، وتدريب النفس وتأهيلها على العمل والإنجاز، فالشخص الحاسد يريد - في الغالب - أن يستولي على مميزاتٍ وأعطيات أو امتيازات؛ دون أن يبذل جهداً في الحصول عليها، وإذا رأى شخصاً يعمل ويجتهد فإنه يشعر بالضيق والتذمر؛ ولكن ذلك لا يحمله على خلق دافعٍ في نفسه، يحرضه على العمل والمنافسة المحمودة، بل على العكس تماماً؛ إذ ربما يستطيع فعل شيء يُرضي به ذاته، إلا أنه يعمد - بقوى من الشيطان - إلى حمل شعور سلبي ضد ذلك الشخص، أو ربما ليس لذات الشخص؛ بل للمبادرة وروح العمل والاجتهاد؛ وكلا الأمرين أسوء من بعضهما !
ج- الإحساس بالنقص والدونية بشكل عام، أو عدم الأهلية والتي تقود في أكثر الأحيان إلى السوداوية وضيق الأفق - إن صلح التعبير - وبعض الناس لديه ضيقٌ في الأفق؛ مما يجعله يرفض الجديد أو ما يميّز شخصاً دون الآخر؛ حتى ولو كان ذلك الشخص يستحق ثمة تمييز أو تقدير، أو اتخاذ موقف سلبي بشكل عام تجاه ذلك ونحوه.
وفي رأيٍ شخصي - قد لا تتفق معي فيه أخي القارئ - فإن التعامل مع شخصٍ حاسد؛ قد يكون ليس سهلاً أو هو أمرٌ يسبب القلق والتوتر بعض الشيء؛ ولكن هو ليس بالمستحيل (مع الأخذ في الحسبان عدم المبالغة في التفكير المطلق، أو الاعتقاد بأن الآخرين عندما يكونون جلفاء في التعامل مثلاً؛ بأنهم كلهم حاسدون !) فذلك لا يصح قطعاً.

■ ولكن أورد بعض الاقتراحات، علّي أصل إلى طرف خيط يساعدُ في توضيح بعض الأمور :
1- إذا أحسسنا مثلاً بأن الشخص الذي نتحدث معه هو شخصٌ حاسدٌ، فأول شيئ يستحسن أن نفعله؛ قراءة الأذكار الشرعية والرقى، بيننا وبين أنفسنا، ثم علينا الإيمان بالله تعالى بأنه هو النافع والضار، وإن الأمر كله بيده سبحانه وتعالى، وأن البشر كلهم والجن وسائر المخلوقات؛ ضعافٌ لا حول لهم ولا قوةٌ إلا بالله عز وجل.
2- تجنب ذكر ما نمتلكه من مزايا أو مواهب؛ بل إذا كنا فعلاً نملك مواهب أو مهارات أو حتى مالاً؛ نتظاهر بأننا أشخاص عاديون تماماً، وليس لدينا شيئ مميز !
3- محاولة عدم قضاء جل أوقاتنا مع شخصٍ نعتقد أنه حاسد أو حاقد، وهكذا.
وربما هناك الكثير من النقاط التي "ضاق أفقي" في ذكرها ! واترك لها حرية تفكير القارئ؛ وبحر خياله ليبدع في نسج الأفكار والاختيارات التي يراها مناسبةً له؛ للتعامل مع هذا الموضوع.

■ رياح وأمواج.
في اليوم العاصف شديد الاضطراب، وفي عرض البحر الذي تتلاطم أمواجه بجسم السفينة التي تطفو على سطحه؛ وكأنها تندفع للخلف من شدة تأثير الهواء ومقاومة الأمواج الهائجة وربما زخات المطر تزيد من صعوبة الوضع؛ إلا أن السفينة ذاتها ومن عليها يملأهم الأمل، والثقة تزوّدهم جرعاتٍ وجرعاتٍ من طاقاتٍ وثبات تعينهم على تكملة المسير بكل إصرار وعزم؛ دون تردد وتذبذب.
تلك سفينة الحياة، ولكن هناك من يملك تلك السفينة التي ذكرنا وصفها ووصف من يركبها، وهناك سفينةٌ مختلفةٌ، ضعيفة لا يملأها العزيمة والصبر و.. بل من أول تغيير في الطقس؛ يستسلم ربانها قبل الركاب ! فيكون مصيرها معروف لديك أيها القارئ ! نعم الغرق.
ونحن نفضّل أن نكون في السفينة الأولى وفي مقدمتها، بل في ساريتها بكل إصرار وعزيمة، لا نعبأ بما نواجهه مهما كان؛ لطالما وضعنا التوكلَ على الله تعالى نصب أعيننا، والثقة هي وقودنا فلا يوجد في خارطة طريقنا سوى المرفأ وشاطئ الأمان، والله ولي الأمر والتدبير.
image الفلسفة التطبيقية : فن المقاربة.
|| د. أكرم محمد مليباري : عضو منهل الثقافة التربوية.

التسلسل الزمني: 1434/04/01 (06:01 صباحاً).