من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

مجرد كلام ﴿2242﴾.
متعة الفشل ﴿2820﴾.
مفاهيم ملحة ﴿3715﴾.
شذوذ وخلل ﴿5369﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. أكرم محمد مليباري.
إجمالي القراءات : ﴿5238﴾.
عدد المشــاركات : ﴿26﴾.

لا يدري أكانت تلك صدفة أم أنه قد عمل على ترتيب لقاء مع نفسه؛ ليختل بها وقد شعر أنه ابتعد مسافة ليست باليسيرة عن أنوار المدينة، وأصوات ضجيج سياراتها وازدحام أكثر شوارعها بالمحال والأسواق والبيوت، وما إلى ذلك، لكنه راق له الهدوء الذي يبحث عنه من بين فينة وأختها، ليشعر بروحه ونفسه ويتلذذ بالحديث معها، حديث ليس كحديثٍ لصديق أو زميل عمل؛ ولكنه حديثٌ من نوعٍ مختلف، وأول ما لاح في أُفق عقله تساؤلٌ ذاق معه نكهة مُرّةً "هل أنا دائماً أُخفق في تقدير الأمور وفهمها أو إعطائها قياساً أو حجماً ليس بالصحيح ؟!"
هو يعرف في قرارة نفسه أنه ليس هو الوحيد الذي ربما أتعبه ثمّ سؤال ولم يجد له جواباً مقنعاً أو حتى شافياً؛ فهناك ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى من البشر الذين يعانون الأمر نفسه - إلا من رحم الله - وهو سبحانه يعلمهم وحده وقد أكرمهم ربما بأعطيات وهبات؛ منها الحكمة ووضع أكثر الأمور في نصابها، قال تعالى : (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتيَ خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب) (البقرة : 269).
وفي مصارحة مع النفس، وبعد أن قطع شوطاً في رحلةٍ داخلية، توغل فيها بالدخول إلى أعماقها؛ تجلّى له حقيقةٌ وهي أنه ليس إلا بشراً عادياً يصيبُ مرة ويخطئ مرة، بل ربما وكما هو يدرك تماماً أنه يُخطئ مراتٍ، والصواب يأت في حكم النادر فاستشعر كم هو صغيرٌ في هذا العالم الكبير، الذي يطوي وراءه حقائق وواقع ليس من السهل فهمه بشكل بديهي، مهما عَظُمت الخبرة وتراآى له كثرة الدراية والمعرفة، فهو لا يزال في طور التعليم على الرغم من تقدمه في السن.
بقي أمرٌ يشعُرُ هو أنه لا يريد فهمه؛ فهناك فرقٌ بين أن الإنسانَ لا يعلم حقيقةً أو أمراً ما، وبين أنه لا يريد الاقتناع بها أو الاعتراف بها ! فهو يعاني من سوء فهم مع نفسه في هذا الأمر بالذات، لأنه لا يجد في نفسه أدنى مبادرةٍ لتقبل حقيقة أو الاعتراف بتقصير أو شيء من ذات القبيل وذلك يعزى لأسباب كثيرة لا سبيل لذكرها في مقال صغير كهذا.
على أية حال، هو يدرك تماماً ما يتلجلج في صدره، غير أنه لا يملك الشجاعة بالبوح به أو بالاعتراف به أمام الآخرين؛ كي لا ينتقص من مقدار ذاته؛ كما يُخيل له، وربما له شيئٌ من الحق؛ فالاعتراف بالخطأ قد يهز صورة صاحبه قليلاً أمام الآخر؛ بيد أنه تطهيرٌ للذات من الكِبْر والفوقية، والمثالية التي لا تليق بكائن بشري يعتريه النقص المستمر؛ فهو يدرك ولا يدرك في نفس الوقت.
وفي محاولات مستميتة مع نفسه وروحه، لإقناعها بأنها في جل أوقاتها على صواب؛ تارة تخدعه بمؤازرة الشيطان بتزيين القبيح من الأعمال والتصرفات، وتارة يتجاهل هو الزلات والمعائب وهي وجهان لنفس العملة، وقد امتطى جواد العناد، واستل سيف الجدال وأخذ يبارز ويبارز؛ ولكنه حقيقةً لم يدرك بعد أنه يقاتل نفسه التي بين جنبيه.
قد تناديه نفسُه بعض الأحيان "رفقاً بي يا هذا فو الله لقد أتعبتني وأتعبت جسدك الذي ما عاد يحتمل وطأة الآلام وعذابات النفس" عندها يشعر بالانكسار والضعف، مجاهداً لإخفاءهما عن أعين الآخرين، ولكنه سرعان ما يستعيد قواه ونشوته، لمعركة أخرى؛ مناضلاً عن نفسه التي هي الضحية والجلاد في آنٍ واحد.
يقول لها : (أي لنفسه وروحه) : "دعينا من هذا فلا أريد الخوض بالأمر فهو يسبب لي صداعاً مزعجاً" فترد قائلة : "وهل تهرب من الحقيقة ؟ أم أنك لا تريد التسليم بها ؟" فيردُ بغضب عارم : "لا تكوني حمقاء ! فأنا أفضل من فلان وفلان ولدي ما ليس لدى فلان و.. و.."، فتردُ هي بثقةٍ و هدوء : "ولكنك تتعثرٌ كثيراً في حياتك ولم تصلح ما أتلفته من زمن، أتذكر خطأ كذا وكذا، في المناسبة الفلانية وتحاملك على فلان وسوء ظنك بفلان، وظلمك لفلان وسوء أخلاقك و.. و..؟!" عندها يعلو الصمت ولا شيئ غيره !
تقول له : "أنا أجيب نيابة عنك، على الرغم من معرفتك للجواب جيداً، ولكن المكابرة أعمت بصيرتك، وألبستك عمامة العظمة ولكنها عمامة زائفة، ويا ليتك تعترف بضآلتك وتقصيرك وإخفاقك في تقدير الأمور والأشياء، وتقييمها تقييماً صحيحاً، من غير إجحاف أو تفخيم زائد عن الحد، لأن ثمةً أمر يترتب عليه عدة أمور؛ لا تخلو من وضعك في عدة مواقف، قد تخسر فيها الكثير، وأول شيء قد تخسره للأبد هو أنا أي (نفسك).
كالعادة لم يرٌق له كلامها، وأخذ يعبث بذقنه ونظارته، وقال لها في عجالة : "لم لا نؤجل هذا النقاش في وقت آخر، فقد تأخرت على عائلتي وهي بالمنزل تنتظرني، فقاطعته قائلة : "هل أعتبر هذا وعداً منك ؟ فما أكثر وعودك لي والتي لم تف بها ؟!".
فقال لها بصوت متقطع : "نعم .. نعم .. هذا وعد" فقالت : "على أية حال أنا أعلم أنك لا تستطيع مجادلتي أو استخدام أساليبك المتذاكية؛ التي تنقذك من سقطاتك مع الآخرين ! فهي لا تنطلي علي".
لم يرد عليها؛ مثل كل مرة؛ وبادر بإشعال محرك سيارته وانطلق، وقد ارتسم على محياه شيئٌ من الضجر، ولكن هل سيفي بوعده لتكملة حديثه مع الروح ؟ ربما.
image الفلسفة التطبيقية : فن المقاربة.