من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. عمر حسين الجفري.
إجمالي القراءات : ﴿4640﴾.
عدد المشــاركات : ﴿23﴾.

أبناؤنا وآفة الغش التي تحرق المجتمع.
■ ما من أمّة ساد فيها الغش إلا ذاقت ويلات ونكبات وتجرّعت آلاماً وحلّت عليها نقمة الله في سائر شئون حياتها فالغش هو صفة ذميمة مدمِّرة يجتاح المجتمع يقوم على خلط القبيح بالجميل والسيئ بالطيِّب والرديء بالجيِّد وهو وجه من أوجه الحقد والغل والكذب ونوع من الخداع والاحتيال والتدليس على الناس وظلمهم وشكل من أشكال الخيانة وعدم النزاهة وحفظ الأمانة وسلوك غير سوي يسعى إلى تغيير الحقائق وتزييف الوقائع رغبة في إشباع حاجة وتحقيق مصلحة مادية أو معنوية، وله صور عدة؛ فمنها الغش في البيع والشراء والغش في الرعيّة والغش في الزواج والغش في النصيحة والغش في الامتحانات إلى غير ذلك من مظاهره وصوره، وقد حذّر نبينا عليه الصلاة والسلام منه فقال "ليس منّا من غشنا" وفي رواية "مَنْ غشّنا فليس منّا" رواه مسلم.

وسنقتصر مقالنا حول الغش في المنزل والمدرسة والجامعة فهذه الجهات الثلاث هي المصادر الأساسية التي ينشأ عليها الفرد ويستقي منها الخُلُق والقيم والتعليم والتربية، ومنه نضع عدداً من التساؤلات التي تدعونا للتأمُّل ونقف حيالها مستبصرين : فهل الغش تعدّ صفة تمارس مع الأبناء في المنزل ؟ وما الداع لذلك ؟ وهل الغش عادة متداولة في مدارسنا، وما صوره ؟ وهل يمتد إلى الجامعات كذلك، وهل له أشكال متعدِّدة ؟

إنّ الغش اليوم أصبح عادة في المجتمع تمارس بين الأفراد وتباشر بين الأشخاص كباراً وصغاراً دون إنكار أو اعتراض وهو يتنامى بشكل ملفتٍ للنظر ومثيراً للقلق ولا شك أنّ له مخاطر تهدِّد كيان الأمة فله أساليب وطرائق مختلفة كالغش التجاري المتمثّل في الدعايات والإعلانات التسويقية بقصد جلب المستهلك ومن خلال البيع والشراء والغش الصناعي المتمثّل في رداءة المنتجات الاستهلاكية وغير ذلك مما قد يصعب حصره ولن نخوض حول أبعاده التي تتطلب دراسات وأبحاث تتناول الغش من جميع جوانبه.
فعندما نطرق باب منزل الأسرة ونلج إليه ونرى ما يجري بين جنباته وتحت سقفه قد نشاهد أنّ الأبناء يقومون بممارسة عادات غش متكرِّرة ربّما تكون بسيطة على مرأى ومسمع من الأبوين دون ردعٍ أو توجيه كما نجد أنّ سلوك الغش قد يظهر بأشكالٍ متعدِّدةٍ كالكذب الذي يمارس مع الأبناء بمهارة فائقة واحترافية عالية من حيث أداء معظم إن لم يكن كل التكليفات والواجبات المدرسية من قبل الوالدين باسم الأبناء وتنفَّذ كل الأعمال المطلوبة وتقدَّم باسم الأبناء أيضاً ويفهّموا وينبّهوا تماماً من قبل الآباء على أنّهم هم الذين أدّوا ما كُلِّفوا به فإن سَأَلَ المعلِّم أحدهم عن الواجب المكلَّف به قيل له أنّه هو من قام بذلك فيحصل على درجة غير مستحقّة وليتهم صدقوا معهم وأحسنوا إليهم في تعليمهم وتربيتهم فيما يحتاجون إليه من مهام مطلوبة منهم بالتوجيه والإرشاد والرعاية والمتابعة في كيفية أداءها والطرق المناسبة لعملها وإنجازها بالاعتماد على أنفسهم فإن مثل هذا السلوك الذي يعتاد عليه الطالب في المنزل لا شك أنّه سيخلق فرداً في المجتمع ذي شخصية معتلّة يُمارِس ما تربّى عليه من غش وكذب وخداع مع الآخرين وبصورٍ مختلفة بما يحقِّق منفعته ومصلحته الشخصية، وإذا انتقلنا إلى المدرسة العضو الآخر المكمِّل لدور المنزل نجد أنّ الحال ليس بعيداً ولا يتغيّر كثيراً فهناك تهاوناً وتساهلاً لدى كثير من المعلّمين والهيئة التعليمية في عدم منع نقل ونسخ الواجبات أو المشاريع المتداولة بين الطلاب داخل الفصل الدراسي الواحد ويتساوى كل من قدّم الواجب في الحصول على العلامة سواءً من نقله من زميله أو اعتمد على غيره في الحل أو من بذل جهده وأدرك الحل الصحيح، وكذا من بذل مجهوداً ولكنه أخطأ ومنهم من كان واجبه ناقصاً وهكذا فالكل سواسية كأسنان المشط وفي ميزان واحد، وقد طال هذا الداء إلى الامتحانات الشهرية والنهائية حيث أصبح الطلاب لديهم مهارة فائقة وقدرة عجيبة في الغش قد تدرّبوا عليه وتعلّموا فنونه أثناء العام الدراسي الأمر الذي جعلهم مبدعين في شفط والتقاط الإجابة والمعلومات من أوراق زملاءهم الذين بجوارهم أو حولهم ولعل هذه المعضلة تبرز بشدة في المرحلة الثانوية، وربّما يصل بهم الحال إلى جلب قصاصات ورقية أو اختراع وسائل غش لا يعرفها حتى الشيطان الأزرق وإخفائها عن أعين الملاحظين والمراقبين ويتم الاستفادة منها في حل أسئلة الاختبار.
أمّا إذا وصل الطالب إلى المرحلة الجامعية هنا أصبح أكثر دراية وعمقاً في أساليب الغش لتحقيق النجاح والإنجاز وتتجلّى براعته في سرقة أبحاثاً وأعمالاً من أي مصدر كان ليست له دون مراعاةً للحقوق الملكية الفكرية والأمانة العلمية؛ كما يتم شراء مشاريع علمية ودفع مبالغ طائلة لإجراء وعمل دراسات وواجبات من دكاكين ومكاتب ومحلات التصوير والطباعة المجاورة للكليات والجامعات، وقد تجاوز حدود الغش إلى طلاب الدراسات العليا في رسائلهم العلمية وأبحاثهم الأكاديمية، وما ذكرناه من سلوكات الغش في المدارس يمكن ممارسته كذلك في امتحانات الجامعات وباحترافية فائقة.
ولن أتطرق إلى ممارسة الغش من قبل من استرعاهم الله من الآباء والمربين فهذه مصيبة أخرى وكارثة كبرى ويحتاج الحديث عنها موضوعاً مستقلاً وهي أساساً لزراعة الغش وغرسه لدى الناشئة ولكني اقتصرت ذلك على الغش في الواجبات والتكليفات والاختبارات والمشاريع المدرسية والجامعية التي ينهل من معينها الأبناء تعليماً مغشوشاً بأيدي قدواتهم.
وعند فحص وتشخيص أسباب الغش في مدارسنا وجامعاتنا نجد أنها كثيرة ومتنوِّعة فقد يكون من الأسباب ومن أهمها ضعف الوازع الديني لدى الآباء والمربّين الذين تتم هذه البلوى عن طريقهم وتحت رعايتهم وخوف الأبناء من العقاب أو الرسوب أو الإهمال وقلّة المذاكرة والاعتماد على الأسرة أو كثرة الأعمال والواجبات والمواد الدراسية وربّما يكون صعوبة فهم بعض مضامين ومحتوى مواد معينة كما أنّ بعض المواد الدراسية قد تركِّز على جانب الحفظ والاستظهار إضافة إلى كثافة حجمها في حين أنّها تهمل المستويات العقلية الأخرى لأنّ معظم الامتحانات تعتمد على الذاكرة دون الاستيعاب والفهم أو تساهل بعض الملاحظين وتغاضيهم أثناء أداء الامتحانات وضعف شخصياتهم والتساهل في تطبيق الأنظمة والقواعد الرسميّة في حالة الغش بأي وسيلة كانت بحجة مصلحة الطلاب والحفاظ على مستقبلهم من الضياع أو الخوف من شكاوى وتهديدات الوالدين إلى غير ذلك من الأسباب التي لا يسمح المجال لحصرها في مقال.
إنّ الغش هو حيلة الكسالى، وهو طريق الفاشلين وهو دليل على ضعف الشخصية وسبب في تأخّر الأمة وعدم تقدُّمها ورقيِّها فالأمة لن تنهض إلا بالعلم فكيف بشباب مجتمعنا عندما يحصدون الشهادات العلمية المغشوشة وهم خواء ويتبوؤون شتى مواقع ومفاصل أركان العمل في وطنهم.

■ ولمحاربة هذه الظاهرة جذرياً أو التقليل من مفعولها والحدّ من انتشارها يتطلّب الأمر وقفة جادة ووضع التدابير والتنظيمات اللازمة لمواجهة هذا السلوك المشين وتعاون جميع الأطراف المعنيّة وتكثيف الجهود من آباء ومعلّمين وتربويين ومسؤولين وطلاب وكل من له علاقة ، ونجدها مناسبة لتقديم بعضاً من التوصيات المقترحة كما يلي :
1ـ التوعية الإعلامية والمجتمعية على جميع الأصعدة سواءً في خطب المنابر والمدارس والجامعات والقنوات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي لبيان خطورة الغش بشتّى أنواعه وأشكاله وصوره والعمل على محاربته واقتلاع جذوره واستئصال شأفته وأضراره على مكتسبات الأمة وأجيالها.
2ـ سن الأنظمة والقوانين التي تمنع ممارسة الغش بكل أشكاله وصوره في المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية والدوائر الحكومية وفرض العقوبات للمخالفين المرتكبين له.
3ـ تكليف لجان لمكافحة الغش في المدارس والجامعات والجهات التعليمية والإدارية يكون أعضاءها مشهود لها بالكفاءة والنزاهة والخلق والجديّة تتولى المناصحة والمتابعة والتوجيه ودراسة أسباب ودوافع الغش وعلاجه في المواقع التي تعمل بها.
4ـ تفعيل دور الجهات الرقابية للتصدّي لظاهرة الغش المنتشرة في محلات ومراكز نسخ وتصوير وطباعة الأوراق والمذكّرات ومكاتب بيع الشهادات المزوّرة وعمل الرسائل الجامعية.
5ـ تنويع أسئلة الامتحانات بحيث تشتمل على أسئلة مقالية وأسئلة موضوعية تقيس المستويات العقليّة المختلفة (فهم - تطبيق - تحليل - تركيب) والتقليل من الأسلوب التقليدي المتّبع في الاختبارات التي تركِّز على جانب الحفظ واستظهار المعلومات والمعارف بنص الكتاب المقرّر.
6ـ تعويد الأبناء في المنزل على إنجاز الأعمال والواجبات مهما كانت صعوبتها بالاعتماد على أنفسهم والاقتصار فقط على التوجيه والإرشاد لحل المشكلات التي تواجههم.
7ـ تواصل المدرسة والمنزل وتفعيل دور مجالس الآباء لتعزيز الثقة وتبادل الآراء وطرح قضايا ومشكلات أبنائهم ومناقشتها وبحث علاجها.
8ـ تقليل حجم الواجبات والتكليفات المنزلية بما يتناسب مع وقت الطالب والعمل على إيجازها بالتنسيق بين المعلِّمين من خلال تنظيم جداول المواد الدراسية وعدم إثقال كاهل الطلاب بالمشاريع المطوّلة التي ترهقهم وتجعلهم ينصرفون بحثاً للاستعانة بغيرهم.
9ـ إقامة برامج تقوية وأخرى علاجية في المدارس للمواد التي يعاني الطلاب من صعوبةٍ في فهم بعض دروسها ينفِّذها نخبة من المعلمين المتميزين ومنحهم مزايا مادية ومعنوية محفِّزة.
إن هذا السلوك ومدى خطورته وسيادته التي تعاني منه الأمّة لجدير بالجهات الحكومية والأجهزة الرقابية والأفراد والمسؤولين كل في موقعه أن تتعاون وتتكاتف للقضاء عليه بكل السبل المتاحة والمشروعة لرأب الصدع في بناء أجيال مثقّفة واعية متعلِّمة منتجة فإن ذلك يحتاج إلى جهود مضاعفة لحماية أبناء الوطن من الولوغ في براثن مستنقعات وأوحال آسنة كريهة تقوم على الكذب والخداع وضياع الأمانة لا تفرِّق بين التفوّق والتملّق وبين الإنصاف والإجحاف.
■ هذا والله من وراء القصد.