أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

مجرد كلام ﴿2256﴾.
متعة الفشل ﴿2820﴾.
مفاهيم ملحة ﴿3717﴾.
شذوذ وخلل ﴿5370﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. أكرم محمد مليباري.
إجمالي القراءات : ﴿5039﴾.
عدد المشــاركات : ﴿26﴾.

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبدالله نبي الرحمة وعلى آله الطيبين الأطهار إلى يوم الدين، وبعد.
فقد تحدثنا في الموضوع السابق والذي كان بعنوان (مقاربة ــ 1) عن الجدل العقيم وبعض من آثاره ونتائجه، والتي لم تتسم بتقديم فائدة ذي معنى، أو تطوير على مستوى الحوار الذي يمكن أن يكون هادفاً، وراقياً يحسن من عملية الاتصال بين المجادلين والمتحدثين، وقد تطرقنا إلى الأفكار التي وصفناها بأنها مهدرة وغير مستغلة في تقديم حلول أو اقتراحات تساعد على إنهاء المشكلة، أو القضية موضع النقاش، بسبب احتدام الوضع وحرارة الجو بين المجادلين .. ونحن إذ نستكمل الحديث عن ذات الموضوع في هذا المقال والذي اخترنا أن يكون امتداداً لما سبقه، وبعنوان (مقاربة ـ 2)، ولكن نتحدث بعون الله تعالى عن عدة نواح، بمنأى عن الجدل العقيم، الذي يضيع الأفكار ويسلبها حقها في الظهور والتوهج، الذي يفيد الإنسان في حياته، ويساعده على التقدم والرقي، المنوطين بتحسين صلته بالله تعالى أولاً، ثم بالعيش على ما يرضيه، والترفه بالمباح من زينة الحياة ومباهجها، وفهم بعض الحقائق والاعتبارات التي تساعد على توسيع المدارك، وزيادة الآفاق، والفهم الممكن للآخرين، والله المستعان.

■ الاعتراف بالخطأ.
يجد الإنسان الاعتراف بالخطأ مهمة ثقيلة، ومزعجة له، ويحاول في أغلب الأوقات أن يبرر مواقفه بعدة أمور، منها ما هو مستساغ ويمكن أن يكون مقبولاً إلى حد معين، ومنها ما هو غير مستساغ وغير مقبول، عند الآخرين. وقد يسوغ لنفسه كثيراً من تصرفاته الخاطئة، وغير المقبولة، ويخلع عليها صفة الضرورة والحاجة، فذاك سائق يعكس السير عمداً، ويعرض نفسه وغيره للخطر، بحجة أن المفرق الذي يريد أن ينعطف منه بعيد جداً !، وآخر يسرع بسيارته بحجة أنه يريد أن يغتنم تناول وجبة الإفطار في شهر رمضان المبارك، مع عائلته، أو أصدقائه. وشخص آخر يجادل ويصرخ وهو يتحدث مع الآخرين، بهدف إظهار قوة حجته، أو تضليلهم عن خطأه الفادح الذي ارتكبه. والأمثلة بهذا الشأن، أكثر من أن تحصى.
كثير من الناس يعيش حالة أنكار للأخطاء التي يرتكبونها، فلا يريدون أن يعترفوا بالخطأ، وقد يظنون أن الاعتراف بالخطأ، هو أسقاط لهيبتهم وتحقير لمكانتهم، وإزراء لها، أمام الآخر، ولا يعلمون أن الاعتراف بالحق كما قيل : فضيلة، وأن من الحق أن يعترف الإنسان بخطأة مهما كانت مكانته ومنزلته، ومهما كان نوع الخطأ الذي ارتكبه، لأن العصمة ليست لأحد إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيما كان من الوحي، أما ما كان فيما يتصل بالبشري، من بعض مناحي الحياة وبعض تفاصيلها، فهم غير معصومين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم، عاتبه ربه - تعالى - في ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - وغير ذلك مما جاء في السيرة العطرة، من اجتهادات كانت منه صلوات ربي وسلامه عليه - وكان التوجيه الإلهي بذلك الشأن من قوله تعالى : (عفا الله عنك) ومنه ما كان من طلبه للصحابة من عدم تأبير النخل، والذي كان منه أن أخرج - أي النخل - شيصا أي غير صالح للأكل، فقال صلى الله عليه وسلم للصحابة : أنتم أعلم بأمور دنياكم، وذلك تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم، حيث لم يصر على موقفه، بشأن تأبير النخل، لما وجده من خيار أصلح.
والمقصود من ذلك، هو أن الخطأ حاصل من بني الإنسان ولابد أن يدرك المرء أنه لن يبلغ منزلة تتصف بالكمال، فلا يغتر بمنصب أو مكانة مرموقة، أو ثروة. لأنها كلها من قبيل الابتلاء والاختبار له، فإما أن ينجح، وإما أن يخفق.

■ ظاهرة صحية.
فطر الله تعالى الكون على سنن ونواميس، ومنها الاختلاف وعدم التطابق والتساوي في كثير من المخلوقات، ومنها الإنسان فالاختلاف بذاته ليس علة، بل حيوي وصحي لاستمرار عجلة الحياة، وبقائها على الخط الصحيح، بما أراده الله تعالى وقدره. ففاكهة البرتقال مثلاً تختلف في الشكل والمذاق عن التفاح، مع أن التربة واحدة، بل أن النوع الواحد من الفاكهة التي تطرح ثمارها شجرة واحدة، يختلف أحياناً في المذاق، من ثمرة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال : أن فاكهة البرتقال التي تأتينا من مصر، تختلف في الشكل وفي المذاق عن تلك التي تأتي من المغرب وهكذا. وذلك التنوع إنما في سبيل أن يتلذذ هذا الإنسان بنعمة الله وأن يشكر فضل الله تعالى على كرمه، وأن يتفكر في بديع صنعه.
قد نتوصل من حكمة الله تعالى في الاختلاف، بأن نجد قبساً من نورها، يرشد عقولنا وقلوبنا من مقتضاها، كأن ندرك الاختلاف الحاصل بين الرجل والمرأة، وكيف أن ذلك الاختلاف هو سر التكامل والتكميل بينهما؛ لنشوء اللبنة الأولى للأسرة الإنسانية وتوفر الحاضن الأول للإنسان، الذي يشق بعد ذلك سبيله في طول وعرض هذه الأرض، بعد أن أخذ نصيبه من تربية وتنشئة، ورعاية صحية ودينية، وغذاء وشراب. ثم بعد ذلك تتكرر نفس القصة معه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والاختلاف كسنة أوجدها الخالق تبارك وتعالى، إنما لتفعيل دور المخلوقات مع بعضها البعض؛ فالسمكة بحاجة إلى الماء الذي تحيا فيه أولاً، ثم تقتات على الغذاء الموجود والذائب في الماء، فلا السمكة تشبه الغذاء في الشكل واللون، ولا الغذاء له نفس خصائص السمكة الحيوية والجسمية؛ ولكن الله سخر الغذاء لها لتعيش عليه، كما أن بعض الأسماك الكبيرة تعتمد في طعامها على الأسماك الصغيرة وهكذا، فالكل في خدمة الآخر !
وبهذا يكون الاختلاف ظاهرة صحية، أرادها الخالق جل وعلا، كما نعلم وربما لغرض غير ذلك، لم يتوصل له الإنسان بعلمه القاصر. ولكن كيف يكون الاختلاف مرض وعلة ؟
الإنسان يحب أن يكون له رأيه الخاص وحريته الكاملة في التعبير عنه، وإبرازه بشكل عام بين بني جنسه، بل ويحرص على أن يكون رأيه واختياره لفكرة ما، أو موضوع ما، موضع احترام ومدح وثقة من الكل. وكثيراً ما يشعر بعدم الارتياح إذا لم يقابل طرحه وتقديمه ورأيه لقضية معينة، بالترحيب والقبول وذلك يكاد يكون شعور مشترك ومتبادل بين الناس. ويلاحظ ذلك بشكل جلي في كثير من المجالس والمنتديات والاجتماعات، حين تتعدد الرؤى والأفكار المطروحة، حيث الميل إلى التعانف وكثيراً ما تفض المجالس بالخلافات، وأحياناً بالشتائم. وهنا تتحول تباينات الآراء إلى عداوات بين الناس؛ فتفقد بريقها والتكامل الذي يمكن أن تحققه، إذا أخذت جميع الآراء والأطروحات بعين الاحترام والتقدير، كأقل ما يكون، والنظر فيها وتقييمها لتصبح حلولاً مساعدة للقضايا، ولكن مع الأسف لا يحصل الكثير من ذلك.
ومن ضمن الفوائد المثلى التي تكمن وراء الاختلاف، هو الاستفادة مما لدى الآخر، من أفكار وأطروحات وحلول - في أطار المشروع وغير المجانب للثوابت - تكمل بها الفراغ الذي ينتج من التفكير والتنظير من بعد واحد .. فالتفكير في أيجاد حل لمشكلة من قبل مجموعة من العقلاء، قد يكون أفضل بكثير من الجهد الذي يبذله فرد واحد في ذات الشأن. فالنبي صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة رضوان الله عليهم، في كثير من القضايا، وذلك لتعليمهم أخذ المشورة، والاستفادة من آراء الآخرين - مع أنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن هوى - ومنه ما كان في غزوة الخندق؛ ومما أشار إليه الصحابي سلمان الفارسي - رضي الله عنه - في حفر الخندق؛ لمواجه العدو.
ولا يعني أن جميع الأفكار والرؤى يمكن أن تصلح في اتخاذ الحلول للقضايا والمشاكل؛ لأن منها ما هو مناسب وجيد، ومنها ما هو قاصر ولا يصلح لأن يكون حلاً، والفجوة التي لا تظهر لكثير من المنظرين والمبدين لآرائهم لبعض القضايا والمسائل، هي عدم استيعابهم أن الهدف من وراء البحث في كثير من المسائل؛ هو التوصل لحل أمثل لها، بغض النظر عمن جاء بالحل الجيد، سواء كان من شخص ذي منصب عال، أو صاحب علم أو حتى شاب حديث السن. لأن الله تعالى لم يختص أناس معينين بالذكاء، أو قوة البصيرة، أو حتى الغباء؛ فتلك الصفات موزعة بين الناس والبشر، بنسب متفاوتة، يعلم مقدارها الخالق جلت قدرته. والمسلم مطالب باكتشاف الحقائق أينما وجدت وأينما كانت، وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها).

■ مرآة الذات.
كثيراً ما ننتقد أبنائنا وأزواجنا وإخواننا وزملائنا في العمل، وحتى أصدقاءنا في تصرفاتهم وبعض وجهات نظرهم، وطريقة تفكيرهم، ويكون ذلك إما بالتصريح أمامهم، أو بأن نفعل ذلك في بعض خلواتنا، فنجول بمخيلاتنا ونركب أجنحة المثالية التي تحلق بنا في سماء إنجازاتنا ونجاحاتنا، وبعض مما حققناه من طموحات وأهداف، فنفخر ونتفاخر بها مع أنفسنا وذوينا، وقد يصيبنا الإعجاب بذواتنا إلى حد ننسى فيه أن نشكر لله تعالى ما نحن فيه، من آلاء وكرم، إلا من رحم الله.
والنجاح في الدنيا ومباهجها وجمع الثروات والمناصب، والجاه لا يحققه كل الناس، فمن الناس من ينام على وثير الفرش، ويركب الفاخر من المراكب ويتلذذ بأطيب المآكل، وبعضهم لا يجد كسرة خبز يسد بها جوعه الذي يقض مضجعه ! ولنا أن نفرح بما حققنا من أحلام وطموحات ولكن في حدود دون أن نركب بساط الغرور، ونلتحف الخيلاء؛ لأن كل ما لدينا من نعم وسعة رزق، وذكاء ومال وصحة، هو من فضل الله ومنه تعالى علينا، وهو قادر على أن يسلبه منا حين يشاء سبحانه، ولا يستحسن أن يذهب بنا المركب بعيداً عن شاطئ الحقيقة، وأقصد بذلك؛ لا بد أن لا ننسى ضعفنا وقصورنا كبشر وأن ما بنا من عيوب ونقص، فلو أن لها ألسنة؛ فلربما جهرت بمر من الشكوى، مما لدينا من أنكار وهروب من الإقرار والاعتراف بها. فالكثير من الناس يوجهون الانتقادات اللاذعة أحياناً للآخرين، وينبرون عليهم بالتسفيه والانتقاص من ذواتهم، وينسون بل يتناسون أنفسهم في ذات الشأن، وصدق عز من قائل : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (البقرة : 44).
وبعض الناس ينتقدون آخرين في أخطاء يقعون فيها، وينصحوهم بعدم الوقوع فيها، وفي نفس الوقت يقعون هم فيها بل ويرتكبون أشنع منها ! فذاك أب يعنف ابنه إذ رآه يدخن، وهو نفسه يدخن أمام ابنه، فسبحان من قال : (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف : 2 - 3) وهي مفارقة صريحة بين القول والفعل، وكل ذلك ينتج منه فقد للثقة والموضوعية بين الناس، ويضعف فيه نموذج تربوي مهم؛ يحتاج المسلم في أن يراه متجسداً أمامه؛ ليقتدي به، ويحذو حذوه في تعزيز المبدأ،من جهة، والقناعة والرضى في تطبيق السلوك من جهة أخرى.
والمرآة التي نقصدها هي ليست المرآة التي ترينا حسن خلقتنا وبهاء طلعتنا فحسب، بل هي مرآة أعمق بكثير من أن ترينا الشكل الخارجي، الذي نحرص على أن نظهر به أمام الآخرين؛ إنها تعكس حقيقة ذواتنا التي يعتريها النقص والعيوب، التي نداريها بحجب كثيفة، تبتعد عن الشفافية، وعن النقد الذاتي الذي نحن كثيراً ما نحتاجه؛ لأنه يكون بمثابة المنظار الذي يوضح لنا رؤيتنا لأنفسنا، وللآخرين، الذين كثيراً ما نهضمهم حقوقهم، بتوجيه النقد غير المنصف أحياناً لهم، لأن رؤيتنا قد أصابها عمش التزكية لأنفسنا، والإعجاب اللامتناهي بها.
فهذه المرآة لا تخون الناظر إليها ولا تخدعه؛ لأنها تريه حقيقة ذاته، بشرط أن يحرص على تخليصها من غبش الاعتداد بالنفس، والزهو بها، كلما احتاجت إلى ذلك، لأن المرآة لن تؤدي وظيفتها بشكل جيد ما لم يتم تخليصها وتنظيفها مما يعلق بها من ذرات الغبار والترسبات، فإذا تم تخليصها من الغبار وصقلها، فستعكس ما يقع عليها بكل وضوح.
وحتى لا نطيل الحديث أكثر مما ينبغي؛ فيمكن أن يكون ما قدمناه؛ يضع بين يدي القارئ الكريم رؤية جزئية توضح بعض ما نحتاج إليه من مفاهيم وأصول، تبنى عليها كثير من ردود أفعالنا وسلوكنا نحو أنفسنا من ناحية، ونحو الآخرين من حولنا من ناحية أخرى .. وفهمنا الجيد لبعض من تلك المفهومات، قد يحسن الرؤية والحالة النفسية والمزاجية، لنا ولمن نتواصل معهم، بل وحتى علاقاتنا مع أنفسنا ومع أقرب الناس إلينا، ويعطينا زاوية إضافية نرى من خلالها طبيعة العلاقات القائمة بين الكثير من الناس والأشياء، والأهم من ذلك كله؛ علاقتنا بالله تعالى، التي تمنحنا النجاح والأمن في الدنيا، ورضى الخالق في الآخرة، والفوز بالنعيم المقيم في جنات عدن. والله ولي الأمر والتدبير.
image الفلسفة التطبيقية : فن المقاربة.