من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

كالنسيم هم ﴿2352﴾.
العبط ﴿8316﴾.
ارحم روحك ﴿2271﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : طارق عبدالفتاح الجعبري.
إجمالي القراءات : ﴿5333﴾.
عدد المشــاركات : ﴿8﴾.

إلى بني : علمتني يا بنيّ، وإنا لفراقك لمحزونون.
■ في يوم الأربعاء 27 / 4 / 2011م رحل الابن البار الموهوب والمبدع باسل طارق الجعبري، ذهب للمستشفى لمراجعة عادية، لكنه لم يعد إلا ميتاً وليس لشيء إلا لانتهاء أجله فالحمد لله رب العالمين وإنّا لله وإنا إليه راجعون.
لكن نفتقده كثيراً وقد رأيت فيه مستقبلاً في خدمة دينه وأمته عظيماً لكنه ارتحل إلى دار الخلد.
من سارّه سبب أو هاله عجب • • • فلي ثمانون عاما لا أرى عجبا
الدهر كالدهر والأيام واحدة • • • والناس كالناس والدنيا لمن غلبا
■ ترى هل نستطيع أن نكون مع الدهر كما الشاعر يقول، أم أننا بحاجة لعمر الثمانين لنفهم كما فهم ونوقن كما أيقن، ولكن ليس الخبر كالعيان وفضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحاً كما قال الحسن، وحقاً قول كعب : من عرف الموت هانت عليه الدنيا وهمومها.
أصعب ابتلاء وأعظم مصيبة واجهتها في حياتي، لقد مررت على المصائب والأهوال بأصنافها، فمن الاحتلال والاعتقال والرصاص والتعذيب والعزل الانفرادي، وفقدت أقاربا وودعت أحباباً وإخوانا، هموم عظيمة وزلازل كبيرة كلها كنت أجد نفسي اخرج منها أقوى مما كنت، وذكرياتها جميلة في الذاكرة، لكن فقدان ابني باسل احتار فيه وأتعجب وما كنت لهكذا يوماً أترقب.
بحمد الله وتوفيقه أنني تقبلت هذا المصاب ساعتها بالتسليم بقضاء الله وقدره، اذكر ساعتها أنني قررت أن أوقف الزمن في تفكيري، فلا فاكر فيما فات ولا أنظر إلى ما هو آت، قررت فقط أن أعيش الساعة التي أحياها، فقاومت ذكرياتي وسجنت آمالي وتطلعاتي وصبرت نفسي والحمد لله على حال ولكن الوجع أراه يزداد، واسرد هنا لطائف تربوية تعلمتها من ابني ووعيتها أكثر بعد فراقه.

■ فصل الالتزام :
علمتني يوماً كيف تتمسك بأخلاقك ولو عاندك الناس جميعاً، أتذكر يوم جئتني شاكياً أن أبناء أعمامك قاطعوك وأنهم لا يرغبوا في اللعب معك لأنك تحكي الصحيح والصواب دائماً فسألتك وما العمل ؟ أجبتني ما بدهم يلعبوا معي بلاش، بس أنا رح احكي الصحيح طول عمري. فأجبتك سر على هذا المنوال ولا تحزن وسيعلم الجميع ولو بعدئذ إنك على صواب.
ابني باسل رحمه الله كان عنوان للصراحة والصدق فكنا عندما نريد أن نعلم الخبر اليقين لأفعال أطفالنا كان الجميع مقصده باسل. باسل لم يخش يوماً احد، لم يخش يوماً عقاب، يزيده العنف تحدي لا يعرف الانهزام أو الانكسار مهما بالغت في عقابه أو ضربه، رحمك الله يا بني افتقدك كثيراً، ويكأن الصدق في هذا الزمان وحتى للأطفال من الصعوبة بمكان فعاجلك الموت لتثبت على وعدك.

■ فصل العقاب لمن :
علمتني أن الضرب والعناد أقصر الطرق لراحة المربي وأبعدها عن تحقيق أهدافها، لم تستجب يوماً لعقاب بدني بل لم تتنازل عن خطأ عملته تحت التهديد أو الضرب، لغتك كانت الحوار الهادئ تسمع وتحب أن تُسمع الآخرين رأيك. علمتني الإصرار والعناد في الحق وأن الأذى في البدن أهون بكثير من أذى النفس وتنازلها.
نحن الآباء كثيراً ما ننهي حالة حوار أو نقاش أو توجيه أمر ما لأبنائنا ننهيه بالصراخ وعلو الصوت وأحيانا قد نصل لضرب أبنائنا، أيقنت من مراجعاتي مع أبنائي أن هذه الحالة هي لحظة إفلاسنا وعدم قدرتنا على الحوار والإقناع للأبناء بل أحياناً عجزنا عن المناورة معهم، إننا نهزم أمامهم ونعجز أمام متطلبات تربيتهم وما تحتاج إلى تأني وأفهام وتبسيط وتكرار، ونعتقد أن الصراخ والضرب يمنحنا الغلبة والنصر على الأبناء، لماذا النصر على الأبناء لأننا نعتقد أن سنة الحياة دائماً يجب أن تكون الغلبة والكلمة العليا للآباء ولكبار السن فأكبر منك بيوم أعلم منك بسنة (كما يقولون لا كما الواقع)، أعلم أيها الأب أن ضرب الابن في سبيل الإلزام والإقناع بما تريد يضعك والطفل في مأزق، إن الطفل يفكر إنك ضربته لأنك أقوى وأكبر منه وساعتها يظل يمني نفسه أنه سيردها عندما يكبر ويصبح أقوى أو على الأقل سيدافع عن نفسه، أجعل الضرب آخر وسيلة وأتبعه بالتعليل وإفهام الطفل أن هذا قانون عقوبات متفق عليه وليس مزاجاً أو رغبة منك ولا تفقده الحنان والرأفة أبداً في كل الظروف، وتعلم من ابنك واعترف أحياناً بالهزيمة منه وتذكر قول الغزالي : اشد الناس حماقة أقواهم اعتقاداً في عقل نفسه، واثبت الناس عقلاً أشدهم اتهاماً لنفسه، وأكثرهم سؤالاً للعلماء.

■ فصل النظام والتنظيم :
علمتني النظام والتنظيم، لا أنسى يوماً دخلت عليك ليلاً بساعة متأخرة وأنت ترتب جدول دروسك ليومك الجديد فعرضت مساعدتي لك باعتبار إنك ما زلت غضاً في القراءة وبداية شهورك في المدرسة فامتنعت بإصرار على أن تقوم بعملك بيدك، فاستغربت وأخذت أشاهد ما ستعمل منتظراً اللحظة التي سترجع فيها إلي طلباً للمساعدة وباعترافك بالعجز عن الإنجاز، فابهرني ما رأيت منك، إذ أنت تجاهد في قراءة البرنامج وتنجح والأهم في ذلك تضع بالترتيب كتب المدرسة فالحصة الأولى يكون كتابها أولاً والثانية ثانياً، حقيقة أنني ما خطر ببالي يوماً هكذا ترتيب طوال دراستي وما رأيت أحداً حريصاً أيضاً بهكذا أسلوب.
كنت تسعد كثيراً بأداء صلاة الفجر معي جماعة في المسجد وتعاتبني إن لم أيقظك للصلاة، كنت تفتخر بانفرادك وتميزك حين ترى نفسك الطفل الوحيد في المسجد فجراً. علمتني حبك للتميز وكيف أضفيت بصمتك على سلوكك وأخلاقك، لا تهتم بالآخرين أو تسعى لتقليدهم، تحب أن تعمل ما تحب.
كم كنا نطرب لسماع ضحكاتك العالية وأنت تشاهد برامجك المفضلة على التلفاز، لقد كنت تتفاعل مع أحداث برامج الأطفال بكل كيانك وحين يسرك شيئاً لا تتورع أن تضحك عليه بملء فيك. هو الانسجام والتناغم والتفاعل مع ما تحب وإخراجه للملأ وعدم الاكتفاء بدفنه بين الضلوع.

■ فصل التعبير والجمال :
علمتني حب الجمال، فقد كانت لك ملكة ثاقبة في الملاحظة وكنت بكل براءة تعبر عن وجهة نظرك في كل جديد تلحظه بصراحة ومن غير مجاملة حتى أننا كنا نحرص على أخذ رأيك في ملابسنا وفي أعمال البيت وديكوراته وفي الكثير الكثير من حياتنا المشتركة التي وفقنا الله أن نشركك بها كشريك كامل حتى بالتفاصيل، وكنت ما تبخل علينا برأي له إضافة مهما كانت، كنت نحب الرسم والألوان بشدة، كم كنت دقيقاً في الالتزام بتعليمات المعلمة، وأذكرك جيداً في مشاركتك لي في اختيار الصور لإلصاقها على دفترك وكيف كانت لك الكلمة الأولى في اختيار شيء يخصك، واذكر كم كنت اجتهد في إلصاق الصور على دفترك حتى أثنيت علي يوماً بانني (لزيق).
نغفل في حياتنا مع أبنائنا كثيراً أهمية الحوار كمدخل للتربية وبناء الشخصية نفتقد لاستخدام آليات وسلوكيات تربوية في تعليم أبنائنا التعبير باعتباره ركيزة أساسية للشخصية السوية. التعبير والحوار أحد أهم مداخل بناء الشخصية وتعليم التفكير وبناء الذكاء الاجتماعي لكن إذا أردنا من الطفل أن يعبر نقول له ارسم صورة تمثل كذا ونضيف له أفكارنا وأن اعمل كذا وكذا أو إذا أردنا تعبيراً شفهيا منه قلنا له قل كيت وكيت. نستعجل على أطفالنا ولا ندعهم مع انفسهم قليلاً ليختاروا ما يريدون رسماً أو قولاً أو فعلاً. دعوا أبناءكم مع خيالهم وتمهلوا عليهم لصناعتها ودائماً تقبلوا أفكارهم بالسعادة والثناء فهم أطفال وأفكارهم ما زالت نبت صغير يقوى بماء الاحترام وتربة الثناء، والجمال صفة تحبها النفس السوية والله جميل يحب الجمال. ماذا فعلنا من سلوكيات لتعميق هذا المفهوم لدى أبنائنا أقول سلوكيات وليست أقوال. فلنتفق على أن ما يؤثر في أبنائنا التجارب والأفعال التي يشاهدونها وليست الأقوال. ابني باسل هو من ألزمني باحترام نظرته الجمالية وهو الذي كان يدفعني لأخذ رأيه في الكثير من الأمور لأنه كان مبادراً ومعبراً بكلمات صغيرة توحي بإعجابه لشيء أو إنكاره له لكن هل ساعدنا أطفالنا على الشجاعة في التعبير والقول والتفكر في الأمور لإبداء الرأي دون عجلة منا أو تسفيه لآراء أبنائنا.
علمني ابني حب الجمال في مظهره وحرصه الشديد على الوقوف على المرآة لتصفيف شعره بشكل جيد كل صباح ومن ثم لا غنى يوماً عن العطور وكنت ألاحقه أحياناً لسخاءه على نفسه من عطوري، يهتم بنظافته وجمال مظهره ومع ذلك لا يمنعه ذلك من اللعب مع أقرانه ولو اتسخت ثيابه على أي شكل كان، يهوى عمل ولعب ما يحب من غير التفكير كثيراً في العواقب.

■ فصل الخيال :
دع الخيال لا تحده جدران أو صفحات، كان واجباً علي كل ليلة سرد قصة لا بنائي وخاصة الباسل وكانوا على خصام مع القصص التي تباع في الأسواق. بابا لا تقرأ من الكتاب نريد قصة من عقلك، ويا ريت تكون علي بابا والسندباد، لكم كان هذا الطلب متعباً وممتعاً في نفس الوقت، فأبنائي يجبرونني على إطلاق خيالي وعلى استحضار قصة لها مراحلها المنسجمة وفيها التأثيرات الصوتية وحبكة القصة وإثارتها وعليك أن لا تقطعها أو تتلكأ في سير الحدث فيها ومع ذلك على ما كانت تتعبني رواية القصة التي أضعها من بنات أفكاري كم كنت أسعد بأنني ادخل لهم مفاهيم ومعتقدات الخير والإيجابية من غير أن يشعروا وكم كنت اسعد عندما اسمع آرائهم في حبكة القصة فأسألهم كيف في رأيك سيفعل علي بابا وكيف سيتخلص من مشكلته وكثيراً ما كنت آخذهم في قصصي إلى نتائج أو سير أحداث لا تخطر ببالهم وتعمل على شدهم للاستماع وإطلاق خيالهم بمستقبل الأحداث.

■ الكأس الكبير :
هو ما وعدتنا به نهاية العام الدراسي. الكأس الكبير هدية المدرسة للأوائل وكأنك رأيت كاس أخيك للمرتبة الخامسة صغيراً لا يناسب طموحك ولكن قدر الله وما شاء فعل والحمد لله، لا تستغربوا أننا كنا نعاقب الباسل بالتهديد بحرمانه الذهاب إلى الروضة ومن بعدها المدرسة. الأطفال عادة ما يسعدوا بالغياب عن المدرسة لكن أليس أسلوباً قد يكون جميلاً لو أننا لفتنا انتباه أبنائنا لأمور مهمة هو يكرهها لما فيها من تكاليف لا يفهمها أحياناً، نشده إليها عن طريق إشعاره أنها نعمة وميزة كبيرة قد نسحبها منك، سيستغرب من طرحنا لأننا تلبي طموحة في إعفاءه ما يكره لكن سيلتفت أن في الأمر شئ.
دافعية التعلم الذاتية هي المحرك الأساس في الإقبال والتميز في الدراسة هل فكرنا كيف نتعامل معها ونعززها، هل ندرك أن شخصية أبنائنا الظاهرة لنا من سلوكيات وأقوال ما هي إلا الجزء اليسير من جبل الثلج الظاهر، وأن معنوياته وعواطفه وانفعالاته ودافعيته وشخصيته مبنية على الجزء الأكبر من جبل الثلج الذي تغمره المياه ولا يظهر لنا الباسل صنعه الله على صفة التحدي وكم كنت ألاحظة يتألم في شهور مدرسته الأولى للصف الأول وهو يجد نفسه لا يستطيع القراءة ويشاهد أخاه الأكبر يقرأ بسلاسة، لم يستسلم كان يمسك الكتاب ويتأمل ويسأل ويسهر الليالي مع كتبه لعله يحل طلاسمها وما هي إلا اشهر قليلة وإذا به يتقن القراءة والكتابة بإصراره وعزيمته ممتعا نفسه بتحضير برنامجه وكتبه بيده آخر النائمين، وأول المستيقظين.
هي همّة يمنحا الله لمن احب، طاقة ليست طبيعية تغلب النوم وترى المتعة في الاستيقاظ والعمل أجمل وأمتع بكثير من النوم الطويل، دائماً نحن الأهل في صراع مع أبنائنا حول إجبارهم على النوم في ساعة معينة ومع إنني اعتقد إننا كنا موفقين مع أبنائنا في الوصول لحل لهذه المشكلة، فأولا هناك نظام على الجميع أن يلتزمه مثلاً التواجد في غرف النوم وإغلاق التلفاز في ساعة معينة ثابتة على مر الأيام، لمن لا يريد النوم لا بأس في الأمر كن في غرفتك واعمل ما تحب أما التلفاز فهو مغلق أمام الكبار والصغار معاً. هنا كان الابن الكبير مع أخيه يستغلونها في الأحاديث بينهم وأحياناً الخلاف والنزاع واللعب المزعج لكن سريعاً ما يتوجه كل شخص لما يحب، الليث يتجه للنوم فهو محب للنوم، والباسل رحمه الله يتجه لألعابه أو كتبه أو رسوماته، ويجلس ساعات في سريره أحياناً من غير ملل ومع ذلك يكون أول المستيقظين، نسيج وحده وعالم خاص به، البدائل والاختيار، آلية اتخاذ القرار ليس بالضرورة هي علم للكبار أو نتعلمها في الحياة نستطيع زرعها وتثقيف أبنائنا نحوها من خلال سلوكياتنا معهم. هل نشاور أبنائنا في اختيار وجبة مثلاً أو مكان رحلة نقصدها أو سلوك طريق ما في السيارة أو شراء شيء للبيت، هل نعطيهم خيارات في أمور حياتهم ليقرروا ما يريدون، وهل نتبعها بطلب التعليل لماذا كان هذا الاختيار، والمهم هنا التكرار والعادة لأن الطفل لا يفهم التعليل ولا يميل إليه كثيراً لكن بالتعويد والتكرار تصبح لديه ملكة فهم العلة والتعبير عنها وموازنة الخيارات المتعددة والأخذ بأفضلها.
حقاً أن المرء حيث يضع نفسه، نفس عصام سوّدت عصاماً، وعلّمته الكرّ والاقداما وصيّرته بطلاً هماماً .

■ وأخيراً :
ما بين الأمل والألم والمحنة والمنحة والتألم والتأمل، ما بين هذه الكلمات التي تدور حولها حياتنا، نلحظ أن حروفها واحدة وترتيبها مختلف وما هي إلا حركة حرف لتحيل المحنة إلى منحة والألم إلى أمل، بمعنى أن بأيدينا أن نتعامل مع قضاء الله وحوادث الدنيا لكنها بحاجة إلى حركة الحرف تلك.
والدك : طارق الجعبري