من أحدث المقالات المضافة في القسم.

عماد الدين قرشي محمد حسن.
عدد المشاركات : 2
1443/12/01 (06:01 صباحاً).
عدد المشاهدات :: ﴿﴿4814﴾﴾

تجلِياتُ الصورة الشعرية في شعر أزهرِي أبو شام : دراسة سيميائية وأسلوبية وبلاغية.
اهتم النُّقاد والبلاغيون _ قديمًا وحديثًا _ بالصُّورة الشِّعرية وأخذوا يعرفونها عُدَّة تعريفات؛ لأهميتها في منح التَّجربة الشِّعرية البُعد الحقيقي للإبداع, ولن يقف البحث هنا على تلك التعريفات وتحديد مكوناتها وعناصرها؛ لضيق مساحة النَّشر, وعلى كُلٍّ رغم اختلاف النُّقاد في تعريف الصُّورة الشِّعرية إلا إنَّهم يتفقون على أنَّها باعثة الجمال النَّصي, والسِّمة المميزة للخطاب الشِّعري, وعبرها ينتقل النَّص من وظيفته الإخبارية إلى بعده الجمالي؛ لذا آثر البحثُ أن ينتهج النَّهج الذي يعتمد على دراسة الصُّورة الشِّعرية بكل ما فيها من علاقات, آخذاً من نظرية النَّظم لعبدالقاهر الجرجاني منطلقًا أساسيًا لتحليل مفهوم الصُّورة الشِّعرية, تلك النَّظرية التي تقوم على أنَّ جمال اللَّفظة يأتي في سياقها وعلاقتها بما قبلها وما بعدها, "قيمة كل تركيب في موضعه وأدائه المعنى ولا يفصل بين استعارة وتشبيه وكناية وتقديم وتأخير, وإنَّما يعالجها جميعًا ممتزجة متضافرة" (1)؛ فهذا يعني أنَّ القصيدة لا تعتمد على شاعرية الكلمة في ذاتها بقدر ما تعتمد على توظيفها, وما تخلقه من إيحاءات, فالَّلغة ليست مجرد مفردات يقدمها الشَّاعر, إنَّها شحنات شعورية ونفسية تحمل رؤى وأفكارًا.
وهذا المقال يحاول أن يتلمس بعض أعمال الأستاذ أزهري عبد الرحمن (أبو شام), من خلال المنهج التكاملي في تتبع بعض منجزاته الشعرية, ورصد حياته, ووصف القيم السلوكية والفكرية في نصوصه, وإبراز الخصائص التعبيرية والبلاغية في شعره, ومحاولة تفكيك وتركيب وتحديد البنيات العميقة من خلال بنية النَّص السطحية.

■ التَّعريف بالشَّاعر :
الأستاذ أزهري عبد الرحمن مختار (أبو شام), معلمٌ وشاعرٌ سوداني, وُلد بمدينة طابت ١٩٥١م, والده من رفاعة قدم إلى طابت تاجرًا ونجَّارًا وتزوج منها, تلقى الأستاذ أزهري تعليمه الأولي بــــ(الخلوة) (2) لكنه لم يمكث فيها طويلًا حيث انتقل إلى الدراسة النظامية, فدرس المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في طابت, ثم انتقل إلى مدني لدراسة المرحلة الثانوية هناك, ثم جامعة الخرطوم كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية لمدة عام واحد فقط حيث لم يكمل تعليمه بها لظروف عائلية قاهرة, لكنَّه التحق بمعهد بخت الرّضا في بداية السبعينات, عمل معلمًا بالمدارس المتوسطة ومرحلة الأساس لمادتي اللُّغة الإنجليزية واللُّغة العربية, وتيقظت شاعريته منذ وقتٍ مبكر لكن تجربته الشعرية اكتمل نضوجها قُبيل المرحلة الثانوية, أمَّا عن البيئة التي نشأ فيها الشَّاعر مدينة طابت, فهي مدينة تضج بالشعر والشعراء وتنبض بالأدباء والفقهاء والمثقفين الذين أثروا الساحة الثقافية, فلا شكَّ أنَّ لهذا البيئة الثقافية والدينية والصوفية أثرٌ كبير على الشَّاعر, وقد كان مولعًا بقراءة الشعر ومطالعة دواوين الشعراء, فقرأ بعضًا من أمهات الكتب, وبعضًا من دواوين الشعر العربي القديم، فشحذت قريحــته وهذَّبت ذوقه؛ ولعلَّ هذا ساعده على تأليف كثير من أعماله الشعرية, كتب الشعر باللغة العربية الفصحى, ثم بعدها كتب الشعر باللَّهجة العامية المحلية. فهو صاحب مفردة متفردة غير مسبوقة وغير مألوفة وصاحب خيال خصب وشاعرية متدفقة.

■ أعماله الأدبية :
1/ مسرحية شعرية باللَّهجة العامية بعنوان : (شبك النُّور), وقد عُرضت بالمسرح المدرسي.
2/ المعلقة الثامنة, بعنوان : (مسكات الحجل), وعدد أبياتها ثلاث مئة وثلاثة وثلاثون بيتًا, يقول في مطلعها :
ببســــــــمِ اللهِ رَحْمَانًا نُجَــــــــــــلْ • • • رَحِيمِ الصَّبِّ مِـــنْ رِيمٍ خَذَل
في عـــَـــــامِ ألفينِ إلا رُبْعـــها • • • وقَــــــرنٍ, زِدْ لَهَا سِتَةً حُـوَل
يقُــــــــــولُ الأزهري أبــُــو أزل • • • أبشام في مِسْكاتِ الحـجـَــــل
3/ الديوان الأول, بعنوان : (بواجس طابت), وقد تضمن عدد من قصائده الأولى التي كتبها في طابت, منها : (حلوة المثنى) أو ( القصيدة السيرة) كما يحلو له تسميتها بعد أن أعاد تجديدها, و(صَحَا مَنْ تَبَلْنا), وقصيدة: (الرِّمش الرُّمَاة), وغيرها من القصائد.
4/ ومن الأعمال الطويلة والجليلة التي لم يتضمنها الديوان :
1/ قصيدة بعنوان : (هدايا المواسم السابقة), أو كما يحلو للبعض تسميتها بــــ (يا جوادًا في الأصيل).
2/ قصيدة بعنوان : (محاولة لعلاج مهر مريض), وهي معارضة لعينية سُويد بن أبي كاهل اليشكري التي يقول في مطلعها :
بَسَطَتْ رابعــــــةُ الحبـــــــلَ لَـــــــــنَا • • • فَوَصَلـــــْنَا الحبلَ مِنْـــــها ما اتَّسَعْ
يقول الأستاذ أزهري أبو شام :
ما انتفعنا بالسُّهــادِ و لا انتفـــــعْ • • • كلَّـــــــما استـــــــدرجتُه منها رجَـــــعْ
قلبي المَسحــــــور أدمـــــــنَ حبَّــــها • • • عقلي المبهـــــور يومًا ما شَفَــعْ
5/ قصيدة بعنوان : (البحث عن الخضر عليه السلام) التي يقول في مطلعها :
وكان قبيل أُزيل أنْ جـــــــاء راكــبٌ • • • يلــــــوكُ بلا آذان شيئًا في سنا الفجــر
يقلــــــبُ أطــــــــرافَ الزمــــانِ برمحــــه • • • ويسأل أشتاتًا مــــن الطير عن خضر
وما خضر إلا واحـــــــة في خيالــــــه • • • تصورها الأعــــــراب من سالــــــفِ الدَّهر

ولعلَّ أول ما يلفت النَّظر في نصوص أزهري الشعرية هو (العنوان) فقد أولاه عناية واهتمام كبيرين؛ فهو يصوغ عناوين قصائده بنفس النَّفث الشعري الذي تزخر به قصائده, فهو القصيدة الواعية, فالعنوان له وظيفة جمالية محددة في النَّص الشعري؛ كيف لا ؟ فهو يثير كوامن المتلقي, ويفتح ذاكرته, ويفجر ما كان ساكنًا في وعيه, ولعلَّ هذا ما عمد إليه الأستاذ أزهري أبو شام في تشكيل لغته التي عنون بها نصوصه الشعرية فهو تارة يلجأ إلى الإيحاء والإشارة؛ ليستفز كفاءة القارئ القرائية, وتارة أخرى يلجأ إلى المباشرة؛ ليثير مخيلة القارئ, ومن عناوين أعماله الأدبية, عنوان ديوانه : (بواجسُ طابت), و( صحا ما انتبلنا), و( محاولة لعلاج مُهرٍ مريض), و(هدايا المواسم السابقة), و(البحث عن الخضر عليه السلام), وغيرها من العناوين, وهذه كلها عناوين استكشافية, مليئة بالرؤى التي تعكس إحساسًا مرهفًا بسحر الكلمة ووظيفتها وتأثيرها, فهي ليست عناوين اعتباطية, وإنَّما تخضع لحسٍ وأسلوبية هدفها إدراك أبعاد النَّص الشعري وتحقيق مراميه الفنية. وبناءً على ترسيمة (جاكبسون) المحددة لأركان التَّواصل في العمل الأدبي, فإنَّ للعنوان وظائف يمكن تطبيقها على أي نص وهذه الوظائف هي: "الوظيفة التعبيرية أو الانفعالية, والوظيفة الشعرية, والوظيفة الإفهامية, والوظيفة المرجعية ووظيفة ما وراء اللغة" (3), فمثلًا على مستوى الإحالة النَّحوية فالبنية الدلالية لتركيب عنوان الديوان: [بواجس (4) طابت] ,هو جملة اسمية تتركب من شقين (بواجس) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هي) أو (هذه) وحُذف الضمير أو اسم الإشارة المعرفة جوازًا وبقيت (بواجس) خبرًا متصدرًا للكلام لأنَّها المقصودة فهي صفة الشَّاعر, وجاءت كلمة (طابت) مضافًا إليه؛ ليقيد دلالة البواجس بطابت ويخرجها من مطلق التنكير إلى جمالية التخصيص. أمَّا من حيثُ الدلالة التعبيرية فمجيء العنوان جملة اسمية يفيد ثبوت المعنى وصفة الشيء, فالشَّاعر يريد أن يثبت دوام الشوق؛ لأنَّه يبحث عن الامتلاء بعد شعوره بالفراغ. أمَّا على مستوى الإحالة اللغوية فـ(بواجس) توحي بالحُبِّ والعشق, والتَّعطش والقرب؛ فالمحب إذا أحبَّ اشتاق, وإذا اشتاق اقترب ولان.
ومن هنا يمكن الولوج إلى عنوان آخر للشاعر اطلقه على إحدى قصائده وهو : [صَحَا مَنْ تَبَلْنَا] (5), ولا شكَّ أنَّ لغة هذا العنوان تحمل طاقاتٍ إيحائية بالغة التأثير, ولها مدلولات جمالية رائعة؛ فالجملة فعلية جيِّدة السَّبك, غير مألوفة, وقد تحققت فيها الأدبية والشعرية, تفيد تجدد الحدث واستمراره, فالشَّاعر يريد استمرار الحدث وتجدده, ولعلَّ استخدام الفعل الماضي يجعل الحدث أكثر واقعية ويمنحه صفة الحدوث, كما لا يُخفى على القارئ الفطن تلك الغنائية التي تبدو جلية في العنوان وتظهر من خلال التَّصريح الذاتي الذي جاء بلسان المحبوب: (تَبَلْنَا) مما أثار انتباه المتلقي واسهم في جمالية العنوان وأذكى فنيته.
وهكذا تبقى القراءات مشرعة الأبواب ومفتوحة في تقصي دلالات العناوين في شعر الأستاذ أزهري أبو شام؛ فهي مشروع دراسة, وتحتاج إلى رؤى تأويلية لسبر مكنوناتها, ويكتفي البحث بما أورده في الإشارة إلى العنوان ودلالاته في شعر أزهري أبو شام؛ فهناك جوانبٌ كثيرة في شعره تستحق التأمل والكشف عنها.
ولعلَّ المدقق في شعر الأستاذ أزهري أبو شام يجد أنَّه يملك خيالًا خصبًا, يقدِّم صورًا شعرية تأخذ بعقل المتلقي إلى عوالم غير مألوفة وبعيدة المدى؛ فتثير وجدانه وتمنحه دفقًا شعوريًا رائعًا, فلنتأمل هذه الأبيات من قصيدة "بواجس طابت" (6), إذ يقول فيها:
بَـواجِـسٌ مِـلء الفُؤادِ مع التَحايا=إلــى طُـــــرقٍ دَفِـيئَــــاتِ الحَـــنـــايـا
هَـوىً يَجتَـاحُـني مُذْ كنتُ طِفْلاً=أقَبِّلُ في المَـسا خُـضـــــرِ الزَوايـا
تَـــــــرَجَّــــلْ زَامِـــلي أوَ مَـا تَـــراهــــــــا=دِيـارَ السُـمْرِ مُجتَـمـــعَ الهِـدايـــــة
مَـسِـــــــيدُ الله أنْـبَتَ خَـيــــرَ قَــــــــومٍ=شَــــمَـــاريخٍ بَـــــهـــالـِيــــــلٍ حَــــفَـــايــا
تُــــلَــــــــوِّحُ للــــــمُسَـافِـــــرِ قُــــــبَّـتَـاهـــــا=فَـتَـحْسَــبَـهــــنَّ تَنْـتَــــــهُـــرْ المَـــَنــــايا
ويَخْتــــلــجُ الفُـــــــؤادُ إذا اخْتَفـــَيــــنَ=إذا مــا العيــدُ يَحْتَضــنُ النِّهَــاية
فلنقف أولًا عند نص الديوان, وعنوانه (بواجس طابت) فلا شكَّ أنَّ رمزية المكان تؤجج الوجدان الدِّيني, وتوقد العاطفة؛ لأنَّ المكان عند الشَّاعر يحمل إحساسه العميق بجوهر المحبَّة الخالصة والعشق لهذه الأرض الطيِّبة, ومما يعزز هذا الإحساس أنْ بدأ نصَّه بالخبر (بواجس) وحذف المبتدأ لتقوية الوصف فيه؛ فقد انبجست أحاسيس الشَّاعر وتفجرت كالنَّبع من شدة الشَّوق, والشطر الثاني من البيت الأول ينفتح على كلمة (طرقٍ) ولعلَّ في تنكيرها دلالة على التَّعظيم والإجلال لتلك الطرق الدافئة التي تنعش القلب وتعيد ترتيبه.
وفي البيت الثاني :
هَـوىً يَجتَـاحُـني مُذْ كنتُ طِفْلاً • • • أقَبِّلُ في المَـسا خُـضرِ الزَوايـا
كذلك حذف الشَّاعر المبتدأ؛ لذات الغرض البلاغي الذي أورده في البيت الأول وهو التركيز على الخبر, إذ تقدير الكلام (هو هوىً), وجاءت كلمة (هوى) نكرة لتدلَّ على الشَّمول, ثم وصف قوة هذا الهوى بقوله: (يجتاحني) أي: (يغمرني) وهي لفظة توحي بالإحاطة الكاملة وقوة هذا الهوى, وفي قوله: (مذ كنت طفلًا) ليبيِّن زمن ارتباطه بهذا الفعل, ولعلَّ الشَّاعر يشير إلى زمنين: زمنٌ كائن, وهو زمن الطفولة حيثُ العقل يختزن أحداثًا وذكرياتٍ كثيرة , فذكريات الطفولة ومراتع الصِّبا حينما كانت الرؤية نقية والتذكر يعدُّ مثيرًا يحرك الأشواق ويثير الشجن, وزمنٌ حاضر في ذلك المساء من كل يومٍ (أقَبِّلُ في المَـسا خُـضرِ الزَوايا).
ويقول البيت الثالث من المقطع السابق :
تَـــــــرَجَّــــلْ زَامِـــلي أوَ مَـا تَـــراهــــــــا • • • دِيـارَ السُـمْرِ مُجتَـمعَ الهِـدايـــــة
وقد استهل الشَّاعر البيت السابق بالأسلوب الإنشائي الطلبي, وصيغته الأمر الذي جاء للالتماس [ترجَّل(7) زاملي], فقد طلب الشَّاعر من صاحبه أو رديفه أن ينزل من مطيته ويمشي معه على قدميه احترامًا لقداسة المكان, فها هي ديار الهداية قد لاحت لنا يا صاحِ ! أما تراها وقد بانت لنا مضاربها ومآذنها ؟
ثم يقول في البيت الرابع:
مَـسِـــــــيدُ الله أنْـبَتَ خَـيــــرَ قَـــــومٍ • • • شَــــمَـــاريـــــــخٍ بَـــــهـــالـِيـلٍ حَـفَـــايــا
وفي هذا البيت أيضًا يكرر الشَّاعر حذف المبتدأ؛ لذات الغرض البلاغي وهو التركيز على الخبر وتقوية المدح (مسيد الله), فيقول: أما ترى ذلك المسيد الذي أنبت خيرَ قومٍ (شماريخ(8) بهاليل(9) حفايا), فقد وصف الشَّاعر قومه بالشَّماريخ, ثم هم بهاليل, أما كلمة (حفايا) فقد تكون صفة لذلك الصُّوفي العابد الذي يرفل بقدميه حافية من شدة الجذب في تلك الرمال, وذلك المسيد, أو هي نسبة إلى الشيخ عبدالمحمود الحفيان. والتنكير في كلمة ( قومٍ) يدل على الشمول والإحاطة, ولعلَّ استخدام الشَّاعر أسلوب النعت بهذا التَّكثيف وهذا التتابع والنَّسق الإيقاعي الجميل (خير قوم, شماريخ, بهاليل, حفايا) يفصح بغرض توضيح الصفات الخُلُقية والدينية لأهل طابت.
ثم يأتي البيت الخامس الذي يوحي بالمهابة والجلال لذلك المكان, فيقول :
تُــــلَـــــوِّحُ للــــــمُسَـافِـــــرِ قُــــــبَّـتَـاهـــــا • • • فَـتَـحْسَــبَـهــــنَّ تَنْـتَــهُـــرْ المَـــَنايا
فها هي قبتاها تلوحان للمسافر يا صاحِ, كأنهما تنتهران المنايا, وذلك تصوير بديع ورائع, حيث استخدم الشَّاعر الاستعارة المكنية في تصوير مهابة وجلال المكان, حيث شبَّه قبتي طابت اللَّتين تلوحان للمسافر كأنَّهما من شموخهما ومهابتهما كائن حي ينتهر المنايا, وفي ذلك تجسيد وتشخيص, ويُعدُّ خاصية مهمة من خصائص الاستعارة التي تجسد المعنوي ليغدو محسوسًا ملموسًا.
وفي البيت السَّادس يرسم الشَّاعر مشهدًا رائعًا لنهاية الرحلة إذ يقول :
ويَخْتــــلــجُ الفُـــــــؤادُ إذا اخْتَفـــَيــــنَ • • • إذا مــا العيــدُ يَحْتَضِــنُ النِّهَاية
عندما تؤذن الأيام بانقضائها, وينتهي العيد وتبدأ رحلتنا بالعودة يكاد الفؤاد يتفطر حزنًا وأسىً على مفارقة تلك الديار وقد عبَّر عن ذلك بقوله: (إذا اختفين) ولعله يشير إلى (قبتاها) التي وردت في البيت السابق , فانتقل الشَّاعر من ضمير المثنى في (قبتاها) إلى ضمير الجمع في (اختفين) ليلفت انتباه السامع ويدلل على أنَّ الاختفاء لم يكن لقبتيها فقط وإنَّما أفاد التَّعميم فقد شمل كل شيء, فاستخدم الشاعر أسلوب الالتفات كنوعٍ من أنواع الجمال النَّحوي, وفي الشطر الثاني من الأبيات صور الشَّاعر نهاية العيد تصوير خيالي بديع؛ حيث كثَّف الخيال باستخدام الاستعارة المكنية في قوله: (العيــدُ يَحْتَضِــنُ النِّهَاية), فجمع فيها بين التَّجسيد والتَّشخيص حينما أبرز المعنوي في صورة حسية بشرية كأنَّما الشَّاعر أراد أن ينقل إلينا حالته التقريرية أو المغيبة إلى حالة ترى بالبصر.
وهكذا تمضي الأبيات في روعة وجمال, فقد أجاد الشَّاعر في هذا النَّص في التَّصوير, والرَّسم بالكلمات, وجاءت صوره الشعرية مليئة بالرَّمز تحمل دلالات شتَّى إذ نوَّع بين الصُّورة التَّشبيهية والاستعارية, كما نلاحظ أنَّ الشَّاعر لم يهتم بترتيب مفرداته الشعرية وتوزيعها على النَّمطية المعهودة؛ وليس ذلك اعتباطًا وإنَّما هو انزياح عن سنن التراكيب المألوفة في اللغة التواصلية.
فالصُّورة الشعرية تستمدُّ حيويتها من خيال الشَّاعر وطاقته الجمالية, وتعدُّ وسيلة كشف مباشر لمكنونات الشَّاعر, وتدل على معرفة جوانب خفية من الأشياء, فنجد شاعرنا يصور حالته الوجدانية ومعاناته النفسية فيستدعي صورة محبوبته, فيقول في قصيدته (محاولة لعلاج مهر مريض):
عَـــــذبةُ الإيناسِ يَحْـكى صَوتُهـا=بَـحـَة الآذانِ مـــــــــــا شَـــــــحَّ الـــــوَرَعْ
أشعَـلَــــــتْ بـــــاثِنُ فِـينا مَجْـــــــدَنا=وانْطَـلَـــقْــــــنا مِـــــنْ قِـبـــــابٍ وتُـــــــرَعْ
كُلِّمـا حَــــــانَ وصالي أجفَــــــــلَـتْ=كالظِـــــباءِ العُفْــــرِ في وادى سَـلــــَعْ

فالشَّاعر في مستهل هذه الأبيات حذف المبتدأ فقوله (عَذبةُ الإيناسِ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هي) فأصل الكلام (هِيَ عَذبةُ الإيناسِ) فالشَّاعر هنا مهتم بإبراز الصفات الجمالية للمحبوب, فحذف المبتدأ بغرض التركيز على الخبر وتقوية الوصف فيه؛ مما أكسب اللغة متانة والكلام قوة, وقد أكدَّ عبدالقاهر الجرجاني ما للحذف من أهمية إذ يقول "هو بابٌ دقيق المسلك, لطيف المأخذ, عجيب الأمر, شبيه بالسحر, فإنَّك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر, والصَّمت للإفادة أزيد للإفادة, وتجدك أنطق ما تكون بيانًا إذا لم تبن" (10), كذلك في قوله: (عَذبةُ الإيناسِ) صورة استعارية حيث حذف المشبه وأقام المشبه به بدلًا عنه على سبيل الاستعارة التَّصريحية, ثم أردف الشَّاعر هذا الوصف بوصف آخر حينما شبَّه صوت المحبوبة في تردده وتمدده ببحة الآذان وذلك تشبيه رائع لم يتكرر, ثم حشد في البيت الثالث صورة أخرى ليكمل بها ذلك المشهد الجميل, حينما شبَّه صدود محبوبته ونفورها بالظَّباء العُفر (أجفلت كالظباء العُفرِ) (11), فيقول: كلَّما حان وصلي وقرب من محبوبتي صدَّت نافرة وهربت كالظبي الأعفر, فاستخدم التَّشبيه الصريح المرسل.
وبوجهٍ عام نلاحظ أنَّ للشاعر قدرة عالية على تطويع المفردة بالشَّكل الذي يتجانس مع نسيج القصيدة؛ ليضيف لها شكلًا مختلفًا مع سيل المعاني الأنيقة, فلنتأمل تلك المعاني والمقاصد وكيف صاغها الشَّاعر , فيقول في نفس النص السابق:
ما أحَـجْـنــــاهُ لِـفَـيـضٍ غَيــــرَنـا • • • مِنْ أصيلِ الشِعرِ أُنـسِ المُجتَمعْ
طوِّفي يــا "بَاثِنُ" الطَـرفَ الـذي • • • كُـلَّمـا ظَلَلْــــنا العُـــمـر اتَّسـَــعْ
فالشَّاعرُ بحرٌ يفيض ويتدفق ليغدق المحبوب من الشِّعر الأصيل والطَّريف الذي صار أنس المجتمع, مما جعل المحبوب لا يحتاج لفيض غيره, وفي البيت الثاني من المقطع السابق ألحَّ الشَّاعر في الطلب, فجاء بطلبين مقترنين, فأمر بتوددٍ, ونادى محبوبته بترجٍ ودلال بيِّن (يا باثن), ولعلَّ الصيغة جاءت هكذا من باب التدليل, أو إن شئت فقل محاولة لعدم التَّصريح باسم المحبوب على عادة الشعراء القدامى, و(كلَّما) ظرفية تدخل على الماضي وتفيد التكرار وتعني: في كلِّ حين (ظللنا) فيه الطرف, أو أحاطنا وشملنا بسحره النافذ, يتسع لنا العمر ويتوهج ذلك الجسد الظامئ لرؤيته, ومما زاد التَّعبير جمالاً الاستعارة المكنية في (ظللنا) حيث شبَّه الطرف بسحاب يحمل غيمًا يظلهم من لهيب الشوق, وهكذا تمضي الأبيات في نسيج تتجانس فيه الألفاظ مع المعاني في تناسب ونسق جميل. ولولا ضيق مساحة النشر لتوسعنا في شعره أكثر.
وفي الختام سعت هذه الدراسة إلى الكشف عن بعض ملامح شعر الأستاذ أزهري عبدالرحمن أبو شام فقد كان لتجربة الشَّاعر الحياتية والثقافية التأثير الكبير في شعره؛ مما أدَّى إلى ارتقاء المستوى الفني للقصيدة من جوانب متعددة, فأصبحت قصائده تشف عن عاطفة متدفقة للشَّاعر, وخيال خصب ساهما في التَّشكيل اللّغوي والتَّصويري للقصيدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ المصادر والمراجع :
1)) عبد القاهر الجرجاني , دلائل الإعجاز,
2)) "الخلوة" تعني المكان الذي يخلو فيه العبد للعبادة, ولكن تحولت الصيغة إلى الدلالة على مقر تعليم القرآن الكريم وعلومه, وتجمع علي خلاوي وهذا ما جري عليه التعبير الدارج في بيئتنا السودانية (ما يعرف بالعامية ) لكن صيغة الجمع (خلوات). ويسمى في الأندلس (محضرة) وجمعها محاضر . وللخلوة دور مهم وأساسي في تاريخ التعليم في السودان.
3)) رومان جاكبسون, قضايا الشعرية, ترجمة محمد الولي ومبارك حنون, ص 80.
4)) بجس : فجَّر , وبجس الماء : انفجر واندفق وجعل يخرج بقوة , وفي القرآن الكريم "فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا" الأعراف الآية 160, انظر لسان العرب مادة بجس.
5)) تبل الحُبُّ فلانًا : أسقمه وذهب بعقله, انظر المعجم الوسيط مادة (تبل), ومنه قول كعب بن زهير :
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ • • • مُتَيَــــّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبـــولُ
انظر نص قصيدة البردة لكعب بن زهير.
6)) تقع مدينة طابت في الجمهوريّة السودانيّة، وتتبع إدارياً لولاية الجزيرة، حيث تقع في الجهة الشماليّة الغربيّة منها، تُعرف مدينة طابت باسم طابت الشيخ عبدالمحمود، وهي واحدة من المُدن السودانيّة الكُبرى الحديثة، والتي برزت وذاع صيتها بعد إنجاز مشروع الجزيرة على أرضها، وتتميز بكثرة مساجدها ومدارسها العلميّة الدينيّة, كما تتميّز المدينة بنشاطها العمراني واتساع رقعته، وهي مركز إشعاعٍ فكري ومعرفي كبير بين مختلف المُدن السودانيّة، وخصوصاً الأدبيّة منها ولا سيَّما الشعر،
7)) التَّرجل يعني: الوقوف أو المشي على الأرجل, انظر المعجم الوسيط.
8)) الشَّمروخ : هو فرع واحد من فروع عذق النَّخلة يحتوي على عدة شماريخ وكل شمروخ يحتوي على عدة ثمرات، انظر المعجم الوسيط.
9)) البهلول: هو السيِّد الجامع لصفات الخير , أو المرح الضحَّاك, انظر المعجم الوسيط.
10)) عبد القاهر الجرجاني, دلائل الاعجاز, تحقيق محمود شاكر ص 262.
11)) الأعفر : الظبي الذي يعلو بياضه حمرة, انظر المعجم الوسيط, مادة (عفر).