من أحدث المقالات المضافة في القسم.

د. عبدالخالق سيد أحمد أبو الخير.
عدد المشاركات : 22
1442/08/01 (06:01 صباحاً).
عدد المشاهدات :: ﴿﴿4410﴾﴾

هل سألت نفسك ماذا في القبور ؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد :
فقبل شهرين وأكثر ودعت (أمي الغالية)، رب استودعتك أمي في قبرها وحيدة يتساوى عندها الليل والنهار فيا رب أنزل عليها رحماتك المتتابعات إلى يوم القيامة، فيا رب أسعدها في قبرها سعادة لا تشقى بعدها أبدا، رحمك الله أمي الحبيبة وجميع أموات المسلمين وأمهاتهم، رحم الله أرواحا كان وجودها في الدنيا جميلا، رحم الله أروحا لا تعوّض ولا تولد مرة أخرى، رحم الله ضحكات لا تّنسى وملامح لا تغيب عن البال وحديثا اشتقنا لسماعه، رحم من عشنا معهم أجمل السنين وهزنا إليهم الحنين، رحم الله كل روح غالية تحت الثرى، اللهم بّرد على قبورهم ببرد الجنة وارحمهم برحمتك الواسعة، اللهم أرحم من هم تحت الثرى واغفر لهم واكرم نزلهم.

القبور وما أدرك ما القبور ؟ وما يجري فيها عالم عجيب يدل على قدرة الخالق سبحانه، وسعة ملكه، فله سبحانه عوالم أخرى غير عالمنا، لا ندركها بحواسنا ونحن أحياء، ولولا أن الله تعالى أخبرنا عن القبر وما فيه؛ لكان غيبًا لا نعلم منه شيئًا، فلا يُدرك القبر وما فيه بالبحث ولا بالتجربة ولا بالتنقيب ولا بالحساب ولا بغيرها من علوم البشر ووسائلهم. لا يُدرك علم ما فيه إلا بالوحي، ومن لا يؤمن بالوحي لا بد أن يكذب بنعيم القبر وفتنته وعذابه.
دل القرآن على أحوال المقبورين، وفصلَّت ذلك سنة سيد المرسلين، فكُشف لنا بالكتاب والسنة علم القبر وأحواله وأهواله، وخصت هذه الأمة بعد بعثة النبي بهذا العلم دون غيرها؛ وذلك ببركة إيمانها وتصديقها بالوحي، وإذعانها له، فعن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ] قال: «نَزَلَتْ في عَذَابِ الْقَبْرِ» رواه الشيخان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: [فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا] قال: «عذاب القبر» رواه ابن أبي شيبة والحاكم، وقال الله تعالى في آل فرعون [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ] قال القاضي ابن الطيب رحمه الله تعالى:« اتفق المسلمون أنه لا غدو ولا عشي في الآخرة، وإنما هو في الدنيا، فهم معروضون بعد مماتهم على النار».
وفي حديث البراء رضي الله عنه أن الله تعالى يقول في حق المؤمن حين سئل في القبر فأجاب:«قد صَدَقَ عَبْدِي فافرشوه من الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا له بَابًا إلى الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ من الْجَنَّةِ، قال: فَيَأْتِيهِ من رَوْحِهَا وَطِيبِهَا قال وَيُفْتَحُ له فيها مَدَّ بَصَرِهِ...» وقال تعالى في الكافر بعد أن سئل في القبر فلم يجب: «أَنْ كَذَبَ فافرشوه من النَّارِ وَأَلْبِسُوهُ من النَّارِ وَافْتَحُوا له بَابًا إلى النَّارِ قال فَيَأْتِيهِ من حَرِّهَا وَسَمُومِهَا قال وَيُضَيَّقُ عليه قَبْرُهُ حتى تَخْتَلِفَ فيه أَضْلَاعُهُ» رواه أبو داود، وأعلم الناس بالقبر وما فيه رسول الله لأنه يتلقى خبر هذا الغيب عن الله تعالى مباشرة، ولو نظرنا في أحاديثه عن القبر لوجدنا اهتماما بالغًا به، وأحاديثه في القبر كثيرة، وهي تدل على خوف شديد، فلولا أن القبر مخوف ما خافه صلى الله عليه وسلم، ولا خوف أمته منه.
قال عليه الصلاة والسلام (والله ما رأيت مَنْظَراً قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ منه) رواه أحمد، وفي حديث جَابِر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« لاَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ فإن هَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ »رواه أحمد، وأول أهوال المطلع هي أهوال القبر، ومثّل صلى الله عليه وسلم فتنة القبر بفتنة الدجال، وهي أعظم فتنة بين خلق آدم وقيام الساعة؛ ففي حديث الكسوف قال صلى الله عليه وسلم: «فَأُوحِيَ إلي أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ في قُبُورِكُمْ مِثْلَ أو قَرِيبَا -شك الراوي- من فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» رواه البخاري.
ولما أخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عجوزين يهوديتين أخبراها بعذاب القبر، قال صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ كُلُّهَا، قالت عائشة: فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلاَةٍ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ» رواه الشيخان، وفي رواية لأحمد قالت عائشة رضي الله عنها: «فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ نِصْفَ النَّهَارِ مُشْتَمِلاً بِثَوْبِهِ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ وهو يُنَادِى بِأَعْلَى صَوْتِهِ، أَيُّهَا الناس: أَظَلَّتْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، أَيُّهَا الناس: لو تَعْلَمُونَ ما أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، أَيُّهَا الناس: اسْتَعِيذُوا بِالله من عَذَابِ الْقَبْرِ فإن عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ» وهذا يدل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بعذاب القبر؛ لعلمه بما يجري في القبور.
وعثمان بن عفان رضي الله عنه هو ثالث ثلاثة كانوا ملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم، وسمع منه كثيرًا، وحاز منه علما غزيرًا، وكان خوفه من القبر شديدا؛ فعَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: «كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى، حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فَلا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ».
ومن أحوال أهل القبور أن أماكنهم في الدار الآخرة تعرض عليهم وهم في قبورهم؛ ليزداد المنعمون فرحًا إلى فرحهم، ويزداد المعذبون حسرة على حسرتهم، قال عليه الصلاة والسلام :«إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ» متفق عليه، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ.
فنعيم القبر وعذابه، وجميع ما ورد من أحوال أهله، يقع على الروح والجسد على كيفية لا يعلمها إلا الله تعالى، وهو نعيم أو عذاب يصيب الميت ولو لم يدفن، أو وضع في ثلاجة أبد الدهر، أو أحرق حتى صار رمادًا وذرته الرياح، أو أكله سبع، أو ابتلعه حوت، أو دفن في قاع البحر، كل أولئك تجري عليهم فتنة القبر، وتصيبهم أهوله، وينعم المنعم منهم، ويعذب المعذب منهم، ولو قطع إنسان وفرقت أوصاله في البر والبحر، والسهل والوعر؛ فإن نصيب كل جزء منه من النعيم والعذاب يصله، ولو أكل إنسان إنسانًا لنعم المأكول أو عذب وهو في جوف آكله، ولا يحس آكله بنعيمه أو بعذابه.
وكم من مقبور في مروج وأزهار وأشجار تسر الناظرين وقبورهم بالنار مشتعلة، وأهلها يعذبون بأنواع العذاب، ولا يدرك من حولهم ذلك ولا يحسونه ؟ كم من قبور في خربات ومستنقعات القذر والأذى، وهي من رياض الجنة، وريحها من ريح الجنة، وأهلها منعمون.
إن تذكر القبر وأحواله، وزيارة القبور بين حين وآخر؛ حتم لازم لمن أراد حياة قلبه، وخشوعه في عبادته، وبناء آخرته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ» رواه أبو داود.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقعد إلى القبور فقيل له في ذلك فقال: «أجلس إلى قوم يذكرونني معادي، وإن قمت عنهم لم يغتابوني». وقيل لبَعض الزهاد: «مَا أبلغ العظات؟ فَقَالَ: النّظر إِلَى محلّة الْأَمْوَات» وذلك أن زائر القبور يرى أهل القبور قد تركوا جميع ما يملكون وراءهم، إلا أكفانهم وأعمالهم فيعتبر بذلك، وقد مرَّ رجل مُسَافر بِغُلَام فِي صحراء فَقَالَ لَهُ:«يَا غُلَام، أَيْن الْعمرَان؟ فَقَالَ لَهُ: اصْعَدْ الرابية تشرف على الْعمرَان، فَصَعدَ فَأَشْرَف على قُبُور، فَرجع إِلَيْهِ فَقَالَ: سَأَلتك عَن الْعمرَان فدللتني على الْقُبُور، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت أهل هَذِه الدُّنْيَا يُنقلون إِلَى تِلْكَ، وَلم أر أحدًا من تِلْكَ ينْقل إِلَى هَذِه، وَإِنَّمَا يُنْتَقل من الخراب إِلَى الْعمرَان، وَلَو سَأَلتنِي عَمَّا يواريك ويواري دابتك لدللتك عَلَيْهِ».
ألا فلنتعظ بمن مضوا إلى قبورهم قبلنا، فعن قريب سنكون عظة لغيرنا، والسعيد من قدم على الله تعالى بخير ما عمل، والشقي من تمادى به التسويف حتى مات بلا عمل، [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ].
هذا ما تيسر إيراده، وتوفر إعداده، وأعان الله على ذكره، إن أصبت فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وعفوا إن أطلت، وعذرا إن قصرت وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|| د. عبدالخالق سيد أحمد أبو الخير : عضو منهل الثقافة التربوية.