من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. عبدالخالق سيد أحمد أبو الخير.
إجمالي القراءات : ﴿5471﴾.
عدد المشــاركات : ﴿31﴾.

المضامين التربوية في الحرثين.
■ يقول شاعر الزهد أبو العتاهية في شان الدنيا :
لعمرك ما الدّنيا بدار بقاء •=• كفاك بدار الموت دار فناء
فلا تعشق الدّنيا أخيّ فإنّما •=• يرى عاشق الدّنيا بجهد بلاء
حلاوتها ممزوجة بمرارة •=• وراحتها ممزوجة بعناء
فلا تمش يوماً في ثياب مخيلة •=• فإنّك من طين خلقت وماء
لقلّ امرؤ تلقاه لله شاكراً •=• وقلّ امرؤ يرضى له بقضاء
وللّه نعماء علينا عظيمة •=• ولله إحسان وفضل عطاء
وما الدهر يوماً واحداً في اختلافه •=• وما كلّ أيام الفتى بسواء
وما هو إلاّ يوم بؤس وشدة •=• ويوم سرور مرّة ً ورخاء
أيا عجبا للدهر لا بل لريبه •=• يخرّم ريب الدّهر كلّ إخاء
وشتّت ريب الدّهر كلّ جماعة •=• وكدّر ريب الدّهر كلّ صفاء
إذا ما خليلي حلّ في برزخ البلى •=• فحسبي به نأياً وبعد لقاء
أزور قبور المترفين فلا أرى •=• بهاءً وكانوا قبل أهل بهاء
وكلّ زمان واصل بصريمة •=• وكلّ زمان ملطف بجفاء
يعزّ دفاع الموت عن كلّ حيلة •=• ويعيا بداء الموت كلّ دواء
ونفس الفتى مسرورة بنمائها •=• وللنقص تنمو كلّ ذات نماء
وكم من مفدًّى مات لم ير أهله •=• حبوه ولا جادوا له بفداء
أمامك يا نومان دار سعادة •=• يدوم البقا فيها ودار شقاء
خلقت لإحدى الغايتين فلا تنم •=• وكن بين خوف منهما ورجاء
وفي النّاس شرّ لو بدا ما تعاشروا •=• ولكن كساه الله ثوب غطاء
● أحبتي في الله :
فإن الله تعالى جعل للدنيا حرثا وزرعا، وجعل للآخرة حرثا وغرسا ؛ فمن حرث للدنيا أوتي منها ما كتب له، ولكنه يخسر الآخرة، ومن حرث للآخرة فاز بالآخرة ولم يفته ما قدر له من الدنيا، بل تأتيه دنياه وهي راغمة. ومن حسنة حرث الآخرة أنه حرث مضاعف مبارك، ويبقى أثره ونفعه لصاحبه؛ لأنه تعامل مع الله تعالى، بخلاف حرث الدنيا فإنه غير مبارك ولا مضاعف ولا يبقى لصاحبه؛ فهو زائل عنه بالموت، والدنيا بأسرها زائلة بالآخرة (والآخرة خير وأبقى) (وللآخرة خير لك من الأولى).
إن المضمون التربوي الرباني في زيادة حرث الآخرة ومباركته ومضاعفته ثابت بالقرآن الكريم (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) وفي آية أخرى (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها فأولئك كان سعيهم مشكورا).
ومن فوائد إرادة حرث الآخرة : أن الله تعالى يوفق صاحبه للازدياد منه، والتلذذ به، فكلما عمل عملا صالحا قاده إلى غيره، وهذا معنى من معاني الزيادة في قوله سبحانه (نزد له في حرثه) أي: نفتح له أبوبا أخرى من الخير، وندله على أعمال صالحة ما كان يعملها، ونعينه على عملها. ولا يوفق لذلك إلا أصحاب الإرادة الجازمة أما من يتمنى ولا يعمل فهو غير مريد لحقيقته.
وتأملوا التعبير القرآني المضمون التربوي بالحرث ؛ لأن الحارث يتعب في حرثه وزرعه وغرسه لما يرجو من غلته وثمرته، ولما كان حرث الأرض أصلا من أصول المكاسب استعير لكل متكسب، ومنه قول ابن عمر رضي الله عنهما: (أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا). وسمي الإنسان حارثا لعمله وكسبه، وورد في الحديث أن أصدق الأسماء همام وحارث؛ لأنها تعبر عن حقيقة الإنسان.
وبقدر صواب حرثه في أرضه، وزرعه في وقته، وجده في عمله تؤتيه الأرض أكلها، وقد يجتهد ويتعب في حرثه وزرعه ولا تنتج أرضه؛ وذلك كمن زرع الزرع في غير أوانه، أو بذر البذر في غير مكانه، وهذا كمن دان بغير الإسلام، أو خالف السنة في عمله. فكم يتعب أحبار اليهود ورهبان النصارى، وسدنة المعابد الوثنية، ويوقفون حياتهم كلها على معبوداتهم، وينقطعون لها في معابدهم، ولكن ليس لهم من عبادتهم نصيب، لأنها عبودية صرفت لغير من يستحقها، وذلك كمن حرث في غير أرض الزرع فليس له من حرثه زرع ولا ثمر مهما تعب، قال الله تعالى فيهم (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) وفي آية أخرى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعناه هباء منثورا) فأخبر الله تعالى أن لهم سعيا وعملا وحرثا وزرعا، ولكنه لا ينفعهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا (ويحسبون أنهم على شيء).
فلا ينفع عمل الآخرة إلا بتحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وذلك بالإيمان والإخلاص في العمل واتباع السنة، وإلا كان عملا في غير محله فلا ينفع صاحبه مهما اجتهد فيه، كما لا ينفع الحارث زرعه مهما اجتهد إن وضعه في غير أرضه أو زرعه في غير وقته.
ومن المضامين التربوية من أراد حرث الدنيا فإن الله تعالى لا يعطيه منها إلا ما قُدِّر له (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) فأخبر سبحانه أنه مبخوس الحظ في الآخرة، ليس له فيها أي نصيب. وجاء هذا المعنى في قول الله تعالى (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) وفي آية أخرى (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون • أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون).
قال قتادة رحمه الله تعالى : (من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله تعالى له نصيبا في الآخرة إلا النار ولم يزدد بذلك من الدنيا شيئا إلا رزقا قد فرغ منه وقسم له).
وخلاصة المضامين التربوية للحرثين جاء في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ وَجَمَعَ له شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كانت الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ الله فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عليه شَمْلَهُ ولم يَأْتِهِ من الدُّنْيَا إلا ما قُدِّرَ له) رواه الترمذي وابن ماجه.
ومن تأمل الآية القرآنية التي فيها ذكر حرث الآخرة وحرث الدنيا وجد أن حرث الآخرة رُجِّح على حرث الدنيا بأنواع من الترجيح؛ فقدم الله تعالى ذكر مريد حرث الآخرة على مريد حرث الدنيا مع أن الدنيا قبلها في الحياة والزمن، وما ذاك إلا لشرف الآخرة وحقارة الدنيا.
وقال في مريد حرث الآخرة : (نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ) فأثبت الزيادة له على ما عمل، بينما قال في مريد حرث الدنيا (نُؤْتِهِ مِنْهَا) وكلمة (من) للتبعيض، والمعنى أنه يعطيه بعض ما يطلبه ولا يُعطى كله. وفي طالب حرث الآخرة لما أخبر بالزيادة له سكت عن الدنيا في حقه، وفي آيات أخرى بين أنه يأتيه رزقه منها ولا يحرم منها بالكلية كقوله تعالى (كلا نمد هؤلاء وهولاء من عطاء ربك) وأما طالب حرث الدنيا فإنه تعالى نص على أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول في هذا المضمون التربوي : الآخرة أصل والدنيا تبع، فواجد الأصل يكون واجداً للتبع بقدر الحاجة.
والآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة بل لا بد في البابين من الحرث، والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق في البذر والسقي والتعاهد والحصد والتنقية، فلما سمى الله تعالى كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق، ثم بيّن تعالى المضامين التربوية للحرثين أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وأن مصير الدنيا إلى النقص والخسران.
فلنعمل في حرث الآخرة حتى يكون لنا فيها نصيب، ولنحذر من إرادة حرث الدنيا فنحرم ثواب الآخرة، ولن ننال من الدنيا إلا ما قدر لنا (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ۝ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) اللهم زدنا علما ويقنيا وفلاحا وصلاحا في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.