من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. عايش عطية البشري.
إجمالي القراءات : ﴿6221﴾.
عدد المشــاركات : ﴿10﴾.

تواضع المعلم.
■ يعتقد البعض أن وظيفة المعلم تقتصر على تقديم المعلومات وتكرارها من غيرِ تجديد ولا ابتكار، ولا قراءة ولا اطِّلاع، ولا متابعة كل جديد، وهـذا خطأٌ فاحش، واعتقاد في غير محلِّه، فالمعلِّم مطالبٌ باحترام تخصصه، والمسارعة للإبداعِ فيه، ويكون ذلك بتحصيل كل علم يتعلّق به، ومتابعة كل ما يصدر عنه من جديد، ثم الاستفادة من كل أحد في سبيل تطوير وتحسين مستواه من أجل النهوض والرقي بطلابه، وحفزهم للاستمرار في طلب العلم باستخدام أيسر السبل، وأحدث الوسائل التعليمية.
وعلى المعلِّم الحصيف أن يتناول الحقيقة من أيِّ إنسان، فهي ضالته المنشودة، فلا يستنكف من الاستفادة ممن هو دونه منصباً أو نسباً أو سنّاً، ولْيحرص على الفائدة والمنفعة؛ لأنّها سبب رفعته، وكمال محبته عند طلبته.
وكذلك عليه إذا أجاب عن سؤال، ورأى أنّ الصواب في غيرِ ذلك، عليه أن يخضع للحقّ، ويتبع الصواب، ولو ظهر الصواب على لسان مَن هو أقلَّ منه، بل إنَّ ذلك دليلُ الإنصافِ والعدلِ وكمالِ التواضع ولين الجانب.
فالإجابة بغير علم من عيوب المعلِّم، ومن أكبر عيوبه وأقبحها : الإصرار على الخطأ، وعدم الاعتراف به، وعدم قبول الحقيقة إذا كانت من الطلاب ونحوهم، إذْ أنه ليس عيباً أن يأخذ الفاضل عن المفضول، والكبير عن الصغير، والمعلِّم عن الطالب.
فالمعلم القدير هو الذي يحرص على الفائدة حيث كانت، قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - كرّم الله وجهه - "الحكمة ضالة المؤمن، فَخُذ الحكمة ولو من أهل النفاق" (جان، 1419هـ، المرشد النفيس إلى أسلمة طرق التدريس، ص129).
فعلماء الإسلام لم يغفلوا هذا المبدأ، بل حرصوا على أخذ العلم من الآخرين والاستفادة منهم، فقد كان كثير منهم يستفيد من طلبته ما ليس عندهم، أو يتراجع عن قوله بعد معرفة الجواب على لسان مَن هو دونَه من الطلاب وغيرِهم، وهذا فيه دلالة عظيمة على حُـبِّهم للتواضع في طلبهم للعلم، ورغبتهم في العلم والمعرفة.
بل إنهم حرصوا على الاستفادة من العلم، والمبادرة في تحصيله .. فمِن أقوال الذهبي أنه "لا يَفْـتُر من طلب العلم إلى الممات، بِنيَّةٍ خالصة وتواضع، وإلاَّ فلا يَتَعَنَّ" (الشيخ الحافظ الذهبي، 1414هـ، ص70).
فشروط تحصيل العلم في نظرهم : التواضع، والاستمرار وعدم الانقطاع، وعدم الاستنكاف عن قبوله من كلِّ أحد، "قال أبو يوسف - رحمه الله - حين قيل له : بِمَ أدركْتَ العلم ؟ قال : ما استنكفتُ من الاستفادة، وما بَخلتُ بالإفادة" (الزرنوجي، تعليم المتعلم طريق التعلم، د.ت، ص90).
و "قيل للخليل بن أحمد : بِمَ أدركْتَ هذا العلم ؟ قال : كنتُ إذا لقيتُ عالِماً أخذتُ منه وأعطيتُه" (الماوردي، أدب الدنيا والدين، د.ت، ص83).
فالعِلم يكونُ بالمدارسة والمناقشة مع المعلِّمين والأقران من أجل الوصول للحقيقة وزيادة المحصول العلمي للسائل والمناقش .. وعلى هذا المبدأ أخذوا العلم وتلقّوه وبذلوه لطلابهم، "قال أبو جعفر (المنصور) لشريك (النخعي) : أنَّى لكَ هذا العِـلْم ؟ قال : لم أرغب عن قليلٍ أستفيده، ولم أبخل بكثيرٍ أُفيده" (الماوردي، أدب الدنيا والدين، د.ت، ص83).
والتدرّج في تحصيل العِـلْم خيرٌ من تركه وملازمة الجهل طول العمر .. وطلب الفائدة ولو كانت يسيرة، فإنها عندهم مَغْنمٌ كبير، ومكسبٌ كثير، ويحصل بها الفرح والسرور في نفسِ صاحبها، "قال أبو عبيد (القاسم بن سلام) : كنتُ في تصنيف هذا الكتاب - غريب الحديث - أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها في الكتاب، فأبِيتُ ساهراً، فرحاً مني بتلك الفائدة" (بكداش، أبو عبيد القاسم بن سلام، 1411هـ، ص56-57).
وقد وردَ في سِيَر كثيرٍ من العلماء ما يدلّ على سعيهم في طلب العِـلْم، وقبول الحقيقة دائماً، بِغَضِّ النظر عن قائلها، فقد وردَ في ترجمة العالِم الجليل جمال الدين الأسنوي أنه "كان ربّما ذَكَر عنده المبتدئ الفائدة المطروقة، فيصغي إليه كأنه لم يسمعها، جبراً لِخاطره" (موسى، المختار المصون من أعلام القرون، 1415هـ، ج1، ص122).
يفعل ذلك احتراماً للعلم، وجبراً لصاحبه، وتواضعاً له، حتى يغرس في نفس الناشئ الإصغاء للحقيقة، واحترام الفائدة، ويعلِّمهم أنَّ شرف الحقيقة أعظم من بريق التعالي والخيلاء.
ومِن صِدق العلماء في تواضعهم : أمْرُهم لطلابهم بأن يفيدوهم إذا وجدوا الصواب وصحّة العِـلْم عندهم .. "قال الإمام أحمد بن حنبل : قال لنا الشافعي : أنتم أعلم بالحديث منّي، فإذا صحَّ عندكم الحديث، فقولوا لنا حتى نأخذ به" (ملَك وأبو طالب، السبق التربوي في فكر الشافعي، 1409هـ، ص273).
فهذا تشجيع للطلاب وحفز لهم، حتى يمسكوا بزمام الأمور بعده. فطالب العِلْم اليوم سيكون عالِمَ الغَد بإذن الله تعالى، فمهمّة العالِم تقتضي منه أن يعلِّمهم الأدب، وقبول الحقيقة قبل العِلْم.
وعليه أيضاً أن يأخذَ بأيدي طلابه حتى يصلوا إلى المنزلة المطلوبة، والمكانة المرموقة لهم .. "قال الحميدي - وهو تلميذ الشافعي (رحمه الله) - : صحبتُ الشافعي من مكة إلى مصر، فكنتُ أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد منّي الحديث" (ملَك وأبو طالب، السبق التربوي في فكر الشافعي، 1409هـ، ص273).
فقبول الحقيقة يقتضي الاحترام والتوقير لصاحبها، ولو كان صغيراً أو أقلّ منزلةً مِنَ السائل والمستفيد .. "عن يحيى بن يحيى الليثي قال : كنا عند مالك، فاسْـتُؤْذِن لعبدالله بن المبارك بالدُّخول، فأَذِن له، فرأينا مالكاً تزحزحَ له في مجلسه، ثم أقعدهُ بلصقه .. وما رأيتُ مالكاً تزحزحَ لأحدٍ في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك، فربّما مرَّ بشيءٍ فيسأله مالك : ما مذهبكَ في هذا ؟ أو : ما عندكم في هذا ؟ فرأيتُ ابنَ المبارك يجاوبه، ثم قام فخرج، فأعجب مالكُ بأدبه، ثم قال لنا مالك : هذا ابنُ المبارك فقيه خراسان" (موسى، نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء، 1411هـ، ج2، ص660).
الفائدة ليست مرتبطة بشرف الزمان، أو فضل المكان، أو عُلوّ رِفعة الإنسان، بل تكون أحياناً على يدِ واحدٍ لا يُؤْبـَه بِـهِ، وهو في نظر الناس أقلُّ من أن يلقي بفائدة، أو يُدْلي بمعرفة .
"قال عباس العنبري : كان يحيى القطان ربّما قال : لا أحدِّث شهراً، ولا أحدّث كذا، فحُدِّثتُ أنه حدَّث (علي) ابن المديني قبل انقضاء الشهر، قال : فكلَّمتُ يحيى في ذلك، فقال : إني أستثني علياً، ونحن نستفيد منه أكثر مما يستفيد مِنّا" (موسى، نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء، 1411هـ، ج2، ص795).
وقد ارتبطتْ تلك المواقف الخالدة، الدالّة على التواضع ولين الجانب، والاستفادة من الآخرين، وقبول الحقيقة بأسماء علماء أعلام، اشتهروا بغزارة العِـلْم، وسعة الاطّلاع، وتمام المعرفة، ولكنهم أرادوا أن يربّوا طلابهم ومَن بعدهم على أخلاق العِـلْم .
"قال عبدالرحمن بن مهدي : سَمِع سفيان الثوري منّي حديثاً، فكتبَه" ( البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1403هـ، ج2، ص218).
فهذا العلَم الزاخر بالعلم والفقه، يتواضع لأحدِ طلابه، ويستفيد منه حديثاً، ويكتبه عنه، فلا شكَّ أنه قد حازَ العِـلْمَ أولاً، والتوقير والاحترام ثانياً، بتواضعه لِمَن هو دونه.
" قال أبو حاتِم الرازي : كان عبدالله بن المبارك يكتب عمَّن دونه، مثل : رِشْدِين ابن سعد، وغيره، فقيل له : يا أبا عبدالرحمن، كم تكتب ؟ قال : فقال : لعلَّ الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع إِلَيَّ" (البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1403هـ، ج2، ص219-220).
فابن المبارك يبحث عن الحقيقة، ويطلب المعرفة من كلِّ أحد، بِغَضِّ النظر عن عمره أو منصبه، فالهدفُ واحدٌ وواضح .. ونتيجة لذلك، كان له ما أراد من السموّ والرِّفعة والشهرة، وسعة العِـلْم وغزارته، فأصبحَ عَلَماً بارزاً بين علماء الإسلام.
أمّا إذا تَمكّن العالِم من عِلمٍ أو فنٍّ مُعـيَّن، فإنه ينبغي عليه أن يبذلَ عِلمَه لطلابه، ولا يمنعهم منه؛ لأنّ حاجتهم إليه أشدُّ من حاجتهم للطعام والشراب.
فمِن "آداب العلماء : أن لا يبخلوا بتعليم ما يحسنون، ولا يمتنعوا من إفادة ما يعلمون، فإنَّ البخلَ به لؤمٌ وظُلْم، والمنع منه حسدٌ وإثم" ( الماوردي، أدب الدنيا والدين، د.ت، ص87) فالعلماء الصادقون لا يبخلون بعلمٍ ولا معرفة، ولا يمنعون سائلاً أو مسترشداً.
ومن آدابهم أيضاً : "ألاَّ يمنعوا طالباً، ولا يُنفِّروا راغباً" (الماوردي، أدب الدنيا والدين، د.ت، ص93) ويكون بِلِينٍ ولُطفٍ في إسداء العِـلْم، وتواضع للطالب، حتى مع كونه صاحب الحاجة، وفي ذلك تدريبٌ لهم، وتربيةٌ لنفوسهم.
إِذَنْ، يجب على العالِم أن يبذلَ العِـلْم لأهله، ولا يمنعهم منه، ومِن بَذْلِ العِـلْم لأهله وطلبته : أن "يعيِّن لأصحابه يومَ المجلس؛ لئلاّ ينقطعوا عن أشغالهم، وليستعدّوا لإتيانه، ويَعِد بعضهم بعضاً به" (البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1403هـ، ج2، ص58).
إنَّ ذلك يدلُّ على تواضع العالِم بتحديد يوم البذل والعطاء، والنفع والإفادة، وإذكاء روح التنافس بين الطلاب، للحضور والاستماع، والاستمتاع بطلب العِـلْم والسعي له.
ومن خلال النصوص والمواقف يتبيّن لنا أهمية هذا الجانب، وهو بذل العِـلْم، وعدم كتمانه، ثم حرص العلماء الأكارم على بذله والسعي إلى نشره بين الناس، وخاصة طلابهم .. وظهر ذلك الاهتمام في أقوالهم ومواقفهم الطيبة، التي في مجملها تهدف إلى إيضاح هذا الأدب الكريم.
قال بعض العلماء : "كما أنّ الاستفادة نافلة للمتعلِّم، كذلك الإفادة فريضة على المعلِّم" (الماوردي، أدب الدنيا والدين، د.ت، ص88).
فإفادة المتعلم ركيزة مهمة، وعامل ضروري لتوطيد العلاقة بينه وبين العالِم، وبذلك تنشأ علاقة حميمة بين الطرفين، أصلها وهدفها : النفع والفائدة إن شاء الله. وإذا تحققت الفائدة، فالعالِم يفرح ويبتهج لتلك الفائدة التي أسداها لصاحبها، "قال خالد بن صفوان : إني لأفرح بإفادتي المتعلِّم أكثر من فرحي باستفادتي مِن المعلِّم" ( الماوردي ، أدب الدنيا والدين ، د.ت ، ص88 ).
ونتيجة لبذل العِـلْم ونشره في الناس، قد يصاب الإنسان بالإرهاق والعناء، وإنَّ ذلك يدعو للإعجاب والتقدير.
"قال أحمد بن سعيد الدارمي : سمعتُ أبا عاصم الضحاك بن مخلّد النبيل مدَّ رجليه بين أصحاب الحديث، فقال : اغمزوها يا أصحاب الحديث، فطالَما تعِبَتْ لكم" (السمعاني، أدب الإملاء والاستملاء، د.ت، ص115).
إنَّ بذل العِـلْم ونشر المعرفة، وإرهاق الجسد حتى تصاب الرِّجلان بالإرهاق والتعب، دلالة على التواضع ولين الجانب، وبذل العِلْم وعدم منعه.
"وعن الأعمش قال : كنتُ آتي مجاهداً، فيقول : لو كنتُ أطيق المشي لَجِـئْـتُك" (البغدادي، الفقيه والمتفقه، 1417هـ، ج2، ص244).
تواضع واعتذار للطالب؛ لعدم استطاعته الحضور والمشي له، وبذل العِـلْم له، تطييباً لخاطره، وتخفيفاً عليه من العناء والإرهاق الذي قد يصيبه، أو قد يلحقه من المشي للعالِم.
وقد ظهر الحرص على بذل العِـلْم في سِـيَر العلماء المباركة، ظهرَ واضحاً جليّاً ليغرسوا في نفوس أبنائهم وطلابهم حُبَّ العِـلْم والعلماء، والتواضع لهم.
"قَدِم عليّ بن المديني وعباس العنبري، فأرادا أن يسمعا غريب الحديث (عند أبي عبيد القاسم بن سلام)، فكان يحمل كل يوم كتابَه، ويأتيهما في منزلهما، فيحدِّثهما فيه" (البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1403هـ، ج1، ص370).
لا شكَّ أنّ ذلك تواضع جمّ، وتشجيع طيّب على طلب العِـلْم ونشره عند أهله وطلابه، وفيه تربية لهما على هذه الآداب الكريمة، حتى يعملوا بها في سبيل مستقبل حياتهم.
"قال ابن وهب : حدّثني مالك، قال : كنتُ آتي نافعاً وأنا غلام حديث السنّ، معي غلام، فنزل يحدّثني، وكان يجلس بعد الصبح في المسجد، ولا يكاد أن يأتيه أحد، فإذا طلعت الشمس، قام" (ابن جماعة، تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم، 1419هـ، ص89).
إِذَنْ، على مُعلِّم اليوم أن يقتدي بسلَفه في بذلهم للعلم، واستفادتهم من غيرهم، حتى يجني الرفعة والسموّ والمحـبّة والسؤدد.
إنَّ طلب العِـلْم لا يتوقف عند حَدّ، ولا ينتهي بانتهاء المرحلة الدراسية أو الحصول على الشهادة أو الدرجة العِلْمية، بل هو مجال رحب مفتوح لكل قاصد إلى أبد الدهر، لذلك كان الاستمرار في طلب العِـلْم والمثابرة في تحصيله من أبرز الدلائل لنجاح العالِم والمعلِّم عند طلابه.
فكثرة العِـلْم وزيادة الاطّلاع لها أثرها في نفوس الطلاب من المحبة والتقدير، وكثرة الإقبال عليه، وزيادة الاستفادة منه، بل إنها سبب لمعرفة أفضل الطرق وأقصرها للبيان والشرح والتوضيح.
وقد أدرك العلماء الأجلاّء أهمية الاستمرار في طلب العِـلْم والتفاني من أجله، فجاءت سِـيَرهم حافلة بما يؤكّد حرصهم على طلب العِـلْم والاستمرار فيه.
"سُـئل عبدالله بن المبارك : لو أنَّ الله أوحى إليكَ تموت العشية، فماذا تصنع اليوم ؟ فقال : أقوم وأطلب العِـلْم" (شلبي، تاريخ التربية الإسلامية، 1960م، ص244).
حُبٌّ عظيم، وولاءٌ كبير لطلب العِـلْم، فهو عنده أفضل من التوبة والاستغفار وقراءة القرآن .. إلخ، فلا شكَّ أنّ أولئك العلماء قد أفنوا أعمارهم المحدودة في نفع وفائدة الأجيال المسلمة.
وقد قالَ الإمامُ أبو حنيفة : "مَن ظنَّ أنه يستغني عن التعلُّم، فلْـيَـبْكِ على خطيئته" (غاوجي، أبو حنيفة النعمان، 1413هـ، ص331).
إنَّ مَن يزعم أنـَّه حصَّلَ العِـلْم وناله، ولا حاجة عنده في طلبه، قد أخطأ في ذلك؛ لأنّ العِـلْم لا يتوقّف عن حدّ معيّن، أو زمن معروف، فالعِلم بحرٌ لا شاطئ له، لا يتوقف بتوقف الإنسان وعجْزه عن طلبه، أو التكاسل عن تحصيله .
فأهمُ مبدأ في حياة العلماء الفضلاء : هو طلب العِـلْم والاستمرار فيه حتى آخر لحظة من الحياة.
قال سعيد بن جبير : "لا يزالُ الرَّجُل عالِماً ما تعلَّم، فإذا ترك العِـلْم، وظنَّ أنه استغنى واكتفى بما عنده، فهو أجهل ما يكون" (النووي، آداب العالم والمتعلم والمفتي والمستفتي وفضل طلب العِلْم، 1408هـ، ص32).
إذَنْ، من علامات العِـلْم الحقيقي : أن يستمرّ الإنسان في طلبه، ويدأب في تحصيله، ولا يتوقّف عنه؛ لأنّه من علامات الجهل وقلة المعرفة : الانقطاعُ عن العِـلْم.
قال أبو الدرداء : "لا تكون عالِماً حتى تكون متعلِّماً، ولا تكون بالعلم عالِماً، حتى تكون به عاملاً" (ابن حبَّان، روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، 1418هـ، ص44).
تأييدٌ لِما سبق، وتوافقٌ بين العلماء على وجوب الاستمرار في طلب العِـلْم، والاستفادة منه، والعمل به، وقد كان مِن أَمْرِ العلماء الأكارم الشيء العجيب في طلب العِـلْم والاستمرار عليه، فمِنهم مَن قضى جُلّ عمره في تحصيله، ومنهم مَن أفنى عمره من أجله ، وبعضهم مَن سافرَ من أجل ذلك .. إلخ.
عن ابن عباس قال : "لَمّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلتُ لرجُلٍ من الأنصار : هلُمَّ فلْنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير، فقال : واعجباً لك يا ابن عباس ! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناسِ مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن فيهم ؟ قال : فتركتُ ذلك، وأقبلتُ أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجُل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسَّد التراب، فيخرج فيراني، فيقول : يا ابن عمِّ رسول الله، ما جاء بِكَ، ألا أرسَلْتَ إليَّ فآتيك ؟ فأقول : لا، أنا أحقّ أن آتيكَ فأسألك عن الحديث" (ابن الجوزي، صفة الصفوة، 1418هـ، ج1، ص332).
ابن عباس، وهو حَبر الأمّة وترجمان القرآن، كما شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطلب العِـلْم مع سُموِّ منزلته، وغزارة عِلْمه، وجلالة قَدْره، فلم يتكبَّر، ولم يستنكف، بل كان ذلك دافعاً له لبذل المزيد من البذل والتحصيل، والاستمرار في طلب العِـلْم ونشره على طلابه.
ورُوي عن علقمة أنه قال لأصحابه : "امشوا بنا نَزْدَد إيماناً - يعني تفقُّهاً -" (البغدادي، الفقيه والمتفقه، 1417هـ، ج1، ص152).
فطلب العِـلْم سببٌ في زيادة الإيمان وكمالِه، وبه يصل العالِم إلى منزلة عظيمة عند ربه وعند طلابه، فهو سببُ الرِّفعة والعلوّ الحقيقي.
لِذا، كان لزاماً على كلِّ مُعلِّم أن يسعى في طلب العِـلْم، ويثابر في تحصيله، ويبذل كلَّ ما في وُسعِه من أجل الوصول إلى الحقيقة، ولا يستنكف من الاستفادة مُن كلِّ أحد، بل يرضى بقول الحقّ والصواب، ويعمل به فهذه من صفات العلماء والمعلِّمين الصادقين.

■ الدلائل التربوية المستنبطة :
1- العِـلْم هدف، فعلى المتعلِّم أن يدركه بأيِّ وسيلةٍ مشروعة .
2- عدم المعرفة ببعض الأمور ليس عيباً، ولا تنقص من قَدْر المعلِّم .
3- بذل العِـلْم لأهله وسيلة لربط المعلِّم بالطالب والقرب منه .
4- الاستمرار في طلب العِـلْم مطلبٌ ضروريّ .
5- على المعلِّم أن يغرس هذه المبادئ في نفوس طلابه، بتطبيقه لها .
6- الاستفادة من الآخرين، وبذل العِـلْم لأهله، والاستمرار في طلبه، دلائل على تواضع المعلِّم ولين جانبه.