من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

أبلة كوثر ﴿2912﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : عابد عبدالله السهلي.
إجمالي القراءات : ﴿5430﴾.
عدد المشــاركات : ﴿14﴾.

مُصعب بن عُمير العبدري البدري : صحابي.
■ تصوغ العقيدةُ الإسلامية رجالَها صياغةً فذّة، في صورة من يرى الناس في سيرتهم مرآة صادقة عن الإسلام، يتمثل فيها عمق الإيمان بالله تعالى، وعظيم البلاء في سبيل نصرة دينه، والتضحية في سبيله بالنفس والمال والأهل والجاه.
ولقد كان صحابة رسول الله ورضي الله تعالى عنهم خير البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أسلموا فحسن إسلامهم، وابتلوا بالسرّاء والضرّاء والشدّة والرخاء، حتى كانوا خير المؤمنين الذين حملوا لواء الدعوة إلى الله بكل إخلاص وأمانة، حتى صدق فيهم قول الحق سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة : 111).
وما زلنا نترحّم عليهم ونترضّى عنهم لما بذلوه في سبيل الإسلام، ولمّا علم الله صدقهم خَلّد ذكرهم، وفي الحديث أن المصطفى قال : (إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل : إن الله يحبّ فلانًا فأحبّه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء : إن الله يحبّ فلانًا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض).
وحين نتذكر حياة سلفنا الصالح نتذكر معهم الحياة الإيمانية الحقّة بأبهى صورها، نتذكر معهم الزهد والورع والتقوى والجهاد والبلاء والشجاعة في الحق والصبر والثبات في سبيل نشر العقيدة وحمايتها ابتغاء ما عند الله. وقد كان منهم صَحْب كرام كانوا من السابقين الأولين إلى الإسلام، فتوالى عليهم من البلاء والمحن والتعذيب ما لا يعلمه إلا الله، ولكنهم صبروا وصدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، وصدق المولى القدير سبحانه وتعالى حيث قال : (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : 23).
ومن هؤلاء النفر القلائل مصعب بن عُمَير، الداعية المجاهد والصحابي المناضل، سفير رسول الله إلى المدينة، وحامل لواء الدعوة إلى الأوس والخزرج قبل قدوم النبي إلى طيبة الطيبة. بدأ النبي دعوته في مكة سرًّا والمشركون يتربّصون به الدوائر، كل منهم يحاول قتله وإخماد أمره ودعوته، ولكنّ الله تعالى إذا أراد أمرًا فإنما يقول له : كن فيكون، ولو اجتمع البشر كلهم على خلافه ومقاومته فلن يستطيعوا، فما لأحد بالله تعالى من طاقة، قال تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف : 8) واتخذ المصطفى من دار الأرقم بن أبي الأرقم ملتقى لأصحابه يلتقي فيها مع القِلّة المستضعفة الذين آمنوا به على خوفٍ من دعاة الضلالة وعبدة الأوثان أن يعلموا بهم فيكيدوا لهم كيدًا، ويستقبل فيها المسلمين الجدد الذين يريدون الدخول في هذا النور الجديد.
قدم مصعب بن عُمَير مستخفيًا إلى النبيّ في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فأسلم وكتم إسلامه خوفًا من أمّه وقومه، وكان يختلف إلى رسول الله سرًّا، وكان إسلامه في السنوات الثلاث الأولى من الدعوة قبل أن يصدع النبي بالدعوة الجهرية.
وقد لقي السابقون إلى الإسلام من الأذى والنكال ما تنهدّ له الجبال الراسيات، ولكنهم آثروا ما عند الله تعالى على متاع هذه الحياة الفانية لمّا خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم. أُلقوا في رمضاء مكة المحرقة، ووُضِعت الحجارة القاسية على صدورهم، وضُربوا بالسياط، وشُنقوا بالحبال، وقُطعوا بالسيوف، وأُدميت جلودهم وقلوبهم على أيدي كفار مكة وسادات الشرك وعباد الأوثان. يقول خَبّاب بن الأرت : أتينا رسول الله وهو متوسّد بُردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فشكونا إليه فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟ فجلس محمرًّا وجهه، فقال : (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، ثم يُؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
أخفى مصعب إسلامه على أمّه وأهله خوفًا على نفسه من الفتنة وكتمانًا لأمر رسول الله، ولكن الواشين من المشركين لما علموا بإسلامه سارعوا إلى الوشاية به عند أمه وقومه نكاية فيه وصدًّا عن سبيل الله، قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء : 89).
ولما علم عثمان بن طلحة بإسلام مصعب أخبر قومه فغضبوا عليه، وحبسوه وأوثقوه، فلم يزل محبوسًا حتى فرّ بدينه وهاجر إلى الحبشة مع النفر القلائل من المسلمين الذين أذن لهم النبي في الهجرة إلى الحبشة طمعًا في الأمن بجوار ملكها النجاشي الذي تواترت عنه الأخبار أنه لا يُظلم عنده أحد.
كان مصعب بن عُمَير فتى مكة شبابًا وجمالاً، وكان أبواه يحبانه حُبًّا عظيمًا، وكانت أمه من أغنى أهل مكة، تكسوه أحسن الثياب وأجمل اللباس، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال ـ أنفس ما يوجد ذلك الزمان ـ، وكان رسول الله يذكره ويقول : (ما رأيت بمكة أحسن لمّة وأرقّ حلّة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عُمَير)، وكانت أمه شديدة التكلّف عليه، وكان يبيت وقدح الطعام عند رأسه، يستيقظ فيأكل؛ لئلا تصيبه جَوْعَة، فلما أسلم انخلع من ذلك كله، وأصابه من الشدة والتعذيب والبلاء ما غيّر لونه وأذهب لحمه ونهك جسمه، حتى كان رسول الله ينظر إليه وعليه فروة قد رَقَعَها فيبكي لما كان يعرف من نعمته، وحلفت أمه حين أسلم وهاجر أن لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف في الشمس حتى تسقط مغشيًا عليها، وكان بنوها يحشون فاها بالأعواد فيصبون فيه الطعام حتى لا تموت، ومع ذلك لم يغيّر ذلك من حاله.
أقبل مصعب بن عُمَير ذات يوم والنبي جالس في أصحابه، وقد ارتدى ثوبًا موصولاً بإهاب، فبكى للذي كان فيه من النعمة، ونكس أصحاب النبي رضي الله عنهم رؤوسهم رحمة له، ليس عندهم من الثياب ما يقدمونه له، فسلّم، فردّ النبي عليه، وأحسن عليه الثناء، ثم قال : (الحمد لله الذي يَقلِب الدنيا بأهلها، لقد رأيت هذا ـ يعني مصعبًا ـ وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيمًا منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير، في حب الله ورسوله)، وخرج مصعب بن عُمَير من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرًا الشَّظَف والفاقة، وأصبح الغني المتأنّق المُعطّر لا يُرى إلا مرتديًا أخشن الثياب، يأكل يومًا ويجوع أيامًا، ولكن روحه المُشربة بسمو العقيدة كانت قد جعلت منه إنسانًا آخر يملأ الأعين إجلالاً والأنفس روعة وحياءً.
هذه الصفات كلها جعلت النبي يختاره لأعظم مهمة في حياة الدعوة الإسلامية، حيث اختاره ليكون سفيره إلى المدينة، فلما انصرف أهل العقبة الأولى وفشا الإسلام في دور الأنصار أرسلوا لرسول الله يطلبون منه أن يرسل لهم رجلاً يفقههم في الدين ويقرئهم القرآن، فأرسل مصعب بن عُمَير إليهم، فلما قدم المدينة نزل على أسعد بن زُرَارة، وكان يأتي الأنصار في دُورهم في عوالي المدينة فيدعوهم، فيسلم الرجل والرجلان حتى ظهر الإسلام وفشا في المدينة، فكتب إلى رسول الله يستأذنه أن يصلي الجمعة بالأنصار، فأذن له، وكتب إليه : (أن انظر من اليوم الذي يجهر فيه اليهود لسبتهم، فإذا زالت الشمس فازدلف إلى الله فيه بركعتين، واخطب فيهم)، فصلى بهم مصعب في دار سعد بن خيثمة، وهم اثنا عشر رجلاً رضي الله عنهم أجمعين، فكان أول من جمع في الإسلام جُمعة رضي الله عنه وأرضاه.
وهاجر النبي إلى المدينة، واستبشر المسلمون في المدينة بقدومه، واستمر مصعب يدعو إلى الله، وينشر الإسلام، ويغرس العقيدة، سيفًا شهيرًا في يد النبي يوجهه حيث شاء.
ووقعت معركة أحد في العام الثالث من الهجرة النبوية، وشارك فيها مصعب بن عُمَير مشاركة الأبطال، وأبلى فيها بلاء المؤمنين الصابرين المحتسبين، وأعطاه النبي راية المسلمين، وثبت مصعب مع القلة المؤمنة التي أحاطت بالنبي، ودافعت المشركين عنه لمّا تخلخلت صفوف المسلمين وأصبحت الجولة للمشركين، وبقي اللواء في يد مصعب يمسكه بقوة وثبات ويدافع عن النبي، وتَدافع المشركون نحو اللواء، وأقبل ابن قَمِئة ـ عليه من الله ما يستحق ـ فشد على مصعب، فضرب يده اليمنى فقطعها، ومصعب يردّد قول الحق سبحانه وتعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران : 144) ثم أخذ اللواء بيده اليسرى حتى لا يقع، فضرب ابن قَمِئة يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه إلى صدره، ووقع مصعب بن عُمَير شهيدًا مضرّجًا بدمائه، فلما انتهت المعركة وقف رسول الله على مصعب وهو مُنجَعِف على وجهه، فقرأ قوله تعالى : (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : 23).
وهكذا سقط مصعب بن عُمَير مجاهدًا شهيدًا وهو ابن أربعين سنة، في ريعان شبابه وفتوته، مات ميتة الأبطال وهو عند الله تعالى من الشهداء الأبرار إن شاء الله، قال تعالى : (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) (النساء : 69، 709)، وأشرف المصطفى على الشهداء من أصحابه رضي الله عنهم ودموعه تسيل من عينيه، فقال : (أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يُجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، انظروا أكثر هؤلاء جمعًا للقرآن فاجعلوه أمام صاحبه في القبر)، ثم قال : (أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتُوهم فزوروهم، والذي نفسي بيده، لا يُسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه).
قال الصحابي الجليل خبّاب بن الأرت : هاجرنا مع رسول الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئًا، كان منهم مصعب بن عُمَير، قُتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي : (غطّوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الإذخر)، أو قال : (ألقوا على رجله من الإذخر)، ومنا من قد أينعت له ثمرته فهو يهدّ بها.
هذا هو مصعب بن عُمَير، ذلكم الرجل الذي كان يلبس أجمل الثياب في شبابه، ويأكل أطيب الطعام، ترمقه العيون إكبارًا وإعجابًا لحسنه وغناه ومكانته، ينسلخ من ذلك الترف والنعيم كله مبتغيًا وجه الله تعالى وما أعده لعباده المؤمنين، ثم يجاهد مع رسول الله بائعًا نفسه من الله حتى قتل شهيدًا لا يجد المسلمون عند موته غير ثوب قصير بال لا يكفي كفنًا له، فرضي الله عنه وأرضاه.