من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : طارق يسن الطاهر.
إجمالي القراءات : ﴿3018﴾.
عدد المشــاركات : ﴿78﴾.

كانت جارة البحر الأحمر، أمتار قليلة تفصل بين سريري وبين البحر، يمكن أن ينطبق عليها قول الشامخ "الطيب صالح" في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" على لسان بطله مصطفى سعيد، وهو يصف موقع قريته جوار النيل : "إذا أصابني الأرق ليلا، أخرج يدي من تحت الغطاء، وأحرّكها في مياه النيل؛ حتى يعاودني النوم".
هم -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - أرقُّ أفئدة وألين قلوبا، وأينما سرت في اليمن السعيد تحققت أمامي ماثلة معاني "الإيمان يمان والحكمة يمانية"، هذا الجزء من الحديث النبوي منحوت في مجسم أمام جامعة صنعاء، هو أيضا متجسد على قدمين، أنى اتجهت، وحيثما تجولت.
ولا عجب، فملكتهم القديمة قالت : "ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون" فما الحكمة إذن، إن لم تكن تلك ؟.
كنت أعشق رائي اليمن المبصر عبدالله البردوني منذ الصغر، وزاد عشقي له ولبلاده عندما التقيته في القاهرة، يقول الشعر غضا طريا نديا عذبا رقراقا، ويتحدى الصعاب والعمى، شأنه شأن كل اليمنيين الذي كيّفوا بيئتهم القاسية؛ لتكون طوع يديهم، يقول البردوني :
مُذ بدأنا الشوط جوهرْنا الحصى •=• بالدم الغالي وفردسْنا الرمالْ
واتَّقدنا في حشـــــــا الأرض هوىً •=• وتحولنا حقــــــــولاً وتلالْ
من روابي لحمنــــــــا هذي الرُّبا •=• من رُبا أعظمنا هذي الجبالْ
● أحببت عبدالعزيز المقالح ــ الأكاديمي البارع والشاعر الرائع ــ وحفظت له وهو يقتبس مقولة الإمام أحمد بن حنبل "لابد من صنعاء وإن طال السفر" في هذا الشوق الجارف :
لا بد من صنعاء يوما تغنّى في منافينا القدرْ
لابدَّ من صنعا وإن طال السفرْ
لابدّ منها .. حبُّنا، أشواقها تذوي حوالينا ..
إلى أين المفرْ ؟


● ورددت -من اللاوعي- رائعة أبي بكر سالم التي لا تقل عن "لامارسييز" فرنسا :
من يشبهك ؟ ، يا يمن ، أنت الحضارة أنت المنارة
أنت الأصل والفصل، والروح والفن.


كنت كاتبا راتبا في القسم الثقافي في صحيفة اليمن الأولى، صحيفة الثورة، كانوا يحتفون بما أكتب، ويقيّمون ما أنظم، ويضعون مقالي جوار عمود المقالح.
كانوا يكنّون في عقلهم الجمعي احتراما عجيبا للغريب، يمارسونه دون تكلف، ويفعلونه بلا تزلف، ويورثونه لأبنائهم من غير تزيف، ويرون أن الغريب جاء لمصلحتهم وخدمتهم، كانوا ينادون الغريب بلفظ "أستاذ"، حتى لو لم يكن أستاذا.
مهما تكالبت عليك نوائب الدهر، فلا تحمل همّا؛ فهم يقتسمونه معك، ويعينونك عليه، ويحملونه منك، ويضعونه عنك.
حسن تعاملهم، وجميل ما يسدونه لك من أخلاق، يخفف عنك قسوة الطبيعة، وشظف الحياة، وضغط المعاناة، وفراق الأهل، ونأي الوطن.
التعاقد في اليمن كان غريبا بعض الشيء، فالراتب كان على عملتين بالريال اليمني والدولار الأمريكي، ولانخفاض قيمة الريال اليمني فكان تعويل المعلمين على الشق الدولاري، ولكن لأسباب يكون تسليم الرواتب الدولارية نهاية العام الدراسي، وقبيل السفر بأيام قليلة.
لهذا كان أصحاب المحلات يعلمون ذلك، ويقدرونه، فكانت أمورنا تمضي –طوال العام - كما نود، نأخذ كل احتياجاتنا من الجزارة والخضار والصيدلية والسمك والمخبز وإلى إيجار البيت، كل ذلك على الدفتر، تسجل ما أخذته طوال العام، وتسدد عند استلامك الرواتب الدولارية أو ما كان يسميه المعلمون "التصفية".
استلام التصفية يكون في البنك المركزي وفروعه في المدن، ومعظم المعلمين يعملون في القرى، بمعنى أنك ستسافر لاستلام التصفية، ورغم ذلك لا يشك أحد من أصحاب الدَّين أنك لن تعود، لا يطلبون ضمانا، ولا كافلا، ولا توقيعا.
تطلب حاجاتك من المحل، ويعطيك القلم والدفتر، وتسجلها بنفسك، ثقة مفرطة ويقين ممتد. وأنا أذكر أن دفاتر الجزار وصاحب محل السمك كانت في بيتي، وصاحب البيت الذي استأجرت منه في "بيت الفقيه" كان أعمى، يستأمنني على تسجيل قيمة الكهرباء وأقساط الإيجار.
كنا في "الصليف"، حينما أصيب أحد المعلمين السودانيين بانفصال في الشبكية، وقرر مستشفى الآنسي- المتخصص في طب وجراحة العيون -حاجته لعملية، تكلف آلاف الدولارات، ولم يكن المبلغ متوافرا لدينا؛ لأن التصفية -كما أسلفت - تأتي متأخرة، لا أنسى كيف هب المعلمون اليمنيون فعرضوا خدماتهم، منهم من عرض رهن سيارته للمستشفى، ومنهم من عرض ذهب زوجته، ومنهم ومنهم ..
كنت أخرج للمدرسة صباحا، فتأتي الجارات من اليمنيات ليساعدن زوجتي في عمل البيت، ويؤانسنها، ويحملن الطفلة الصغيرة التي رزقتُ بها هناك.
أكون في منزلي، فأسمع طرقا على الباب، فيكون الطارق إما امرأة تستشير في مسألة فقهية، أو شابا يطلب رأيك في قضية تخصه، أو رجلا يستفتيك، أو مريضا يحمل علبة دواء يريد منك بيان كيفية الاستعمال، كانوا يرون في المعلم أنه مهن في مهنة، ورجال في رجل، تأوي إليه أفئدتهم، ويصوّبون تجاهه أسئلتهم؛ ليفك لهم شفرات الحياة المعقدة.
تقف في المطار أو وفي أي مصلحة حكومية في طابور الإجراءات تجد ثلاث نوافذ بهذا العنوان : اليمنيون. والأشقاء "أي العرب". والأجانب "أي غير العرب".
لم أرَ طيلة سنيني الأربعة في اليمن لوحة لمحل من المحلات تحمل اسما أجنبيا، يعتزون في عقولهم الباطنة بعروبتهم، ويتأبّون على الاستلاب.
مرضت زوجتي وأنا في "الزهرة"، فأرسلتْ إليّ إدارة المدرسة : أن كن معها، ولا تداوم، فصادف ذلك أيام اختبارات؛ فأرسلوا لي وأخذوا الأوراق، وعقدوا الاختبار وأعادوا لي الأوراق لتصحيحها في البيت.
تقام الصلاة، فيتأخر الإمام، فيُجمع المصلون كلهم -قولا واحدا- أن الأستاذ هو من سيؤم القوم، وكنا في الصليف يترجل الإمام عن منبره ليمتطيه معلم، فيخطب الجمعة بالمصلين.
تأتي ومعك زوجتك لتركب البيجو -وكان من وسائل النقل بين المدن – فيخيّرك السائق والركاب؛ لتختار المقاعد التي تراها ملائمة، وقد يعاد ترتيب الركاب، وقد يتخلى أحدهم عن تلك الرحلة بطيب خاطر؛ ليسافر في التي تليها، المهم عندهم أن الأستاذ وعائلته يكونون بخير.
تنقطع المياه عن القرية، فأسمع طرقا على الباب، فأفتح، فأجد "دبة" ماء، ولا أجد من أتى بها، سقى لي هذا الرجل، ثم تولى إلى بيته.
كانت بدايتي في الحديدة في منطقة "الصليف"، وكانت أكثر المناطق الثلاثة التي عملت فيها تأثيرا في نفسي، وما زال المعلمون اليمنيون متواصلين معي حتى اليوم ومنهم "الرجل النبيل قاسم تية، وعيسى المريسي ، ..".
وما زال الطلاب الذي درّستهم متواصلين معي إلى اليوم رغم طول الزمن، ومنهم "غالب القاضي، باسل محفوظ، عبدالله كليب، عبده بسة، طارق وأنور معجمي، محمد سليمان، محمد ثابت..." والقائمة تطول، رغم تلك السنوات لم ينقطع التواصل، وأفرح كثيرا عندما أعلم أن عددا من طلابي تبوأوا اليوم مراكز متقدمة داخل اليمن وخارجها.
وكم تزداد سعادتي عندما يخبرني أحدهم أنه كان لي الفضل - بعد الله- في تغيير مساره في موضوع ما، أو في توجيه حياته لقضية ما. أو تعديل سلوكه في موقف ما، فأرى أن غرسي قد أثمر، ونباتي قد أينع.
هذه زهرات، أريجها ما زال يفوح، قطفتها من دوحة اليمن الظليلة، ومواقف نبيلة منتقاة من أهل (الصليف و"القرية" –الزهرة –بيت الفقيه) ولو استطردت ما وسعتني هذه المساحات الافتراضية، ولكن حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.
■ لكم التحية أهل اليمن جميعا، وبوركت ذكريات تلك الأيام التي قضيناها بينكم.