من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : طارق يسن الطاهر.
إجمالي القراءات : ﴿2907﴾.
عدد المشــاركات : ﴿78﴾.

أبلة كوثر.
■ كانت امرأة ستينية، تمتلك مطعما للفلافل في حي الدقي، مجاورا لجمعية الأهرام الاستهلاكية بعد نزولك من كبري الدقي، وأنت متجه للجيزة، على يمينك بمسافة 50 مترا تقريبا من شارع الدقي الرئيس.
كنا نسكن جوارها، ونأكل من مطعمها، كنا نفضّل السكن في تلك المنطقة رغم غلاء أسعار الشقق فيها لعدة أسباب أهمها: قربها من مطعم أبلة كوثر، وقربها من جامعة القاهرة حيث ندرس، وحتى لا نضطر لركوب المواصلات، وذلك الأمر في القاهرة المكتظة فيه رهق أيما رهق.
إن كانت صفية زغلول هي أم المصريين، فإن أبلة كوثر هي أم الطلبة السودانيين في القاهرة. جبرت خواطرنا المكسورة، ورأبت صدوع أجنحتنا المهيضة.
كنا صغارا في السن، حتّمت علينا الأقدار أن تكون دراستنا في أم الدنيا، وفي عاصمتها القاسية، فالعواصم الكبرى هي مدن بلا قلب، ولكن وجدنا جناح الرحمة في هذه السيدة؛ مما خفف علينا وطأة الغربة، وقلة الخبرة، وبُعد الأمهات، فكانت أما لكل واحد منا.
الوقت ثمانينات القرن الماضي، امرأة تقف على رجليها معظم اليوم، فالمطاعم الشعبية في القاهرة لا تقفل أبوابها، وليس في قاموس القاهرة – تلك الأيام - مواعيد للوجبات، فكل الأوقات مواعيد للأكل، يحكمك في ذلك عملك ودراستك وطريقك، فحين يدعوك نداء الجوع تجد رجليك تقودانك حيث أبلة كوثر، دون تردد، ودون أن تتحسس جيبك هل معك ما يكفي للوجبة أم لا ؟
نأتيها صباحا وظهرا ومساء وآخر الليل، كيفما اتفق، حين يدعونا نداء الجوع، يأتيها أحدنا غرثان ويخرج منها شبعان، نغدو إليها خماصا ونروح منها بطانا.
يتغير الوقت، ويتغير الطلاب، والثابت الوحيد وسط تلك المتغيرات هو ابتسامتها التي نستظل بها من هجير البعد عن الأهل. ونرتاح عندها من حدة الضغوط، ونستدفئ بها من شدة البرد القارس.
يا شعباااااااااان، تنادي ابنها الذي يساعدها في عمل المطعم "شوف الأساتذة ياكلوا إيه، وراهم مذاكرة"، لم نكن أساتذة، وإنما كنا طلابا نتلمس طريق الجامعة، نضل ونرشد، نخطئ ونصيب، لكنها تعطينا طاقة إيجابية بهذه الكلمات.
هنا يترك شعبان كل شيء، ويتجه نحونا بابتسامة تشبه ابتسامة أمه، فيسلّم، ويسجل طلباتنا التي أصبحت معروفة لديه فيما بعد، ولم نكن بحاجة لتكرارها كل يوم. ولم يكن بحاجة لسؤالنا عنها لاحقا.
نحن -السودانيين - لنا طقوسنا في أكل الفول، نأكل في طبق واحد كبير، ونخلط الفول بالطعمية والسلطة وغير ذلك، وعندما يكتمل ذلك الخلط نضع عليه الزيت، غير المصريين الذين يأكلون في أطباق صغيرة لكنها متعددة، ومتخصصة، كل طبق يحمل صنفا لا يختلط مع غيره.
تعلّم شعبان صناعة "الفول المصلح"، الذي يتميز به السودانيون، فكان "يكسّر" الفول ويضع عليه الطعمية والسلطة والزيت، واضطرت أبلة كوثر –مشكورة- لتوفير طبق كبير؛ حتى يسع ذلك كله.
كانت تمر بنا أيام عجاف، وسنين كسني يوسف، حين تتأخر النثريات التي تصلنا شهريا من حكومتنا عبر السفارة السودانية، أو حين تتأخر تحويلات ذوينا من الخارج؛ إذ تهبط –حينها - على جميع أعضاء الشقة حالة من الفقر والمسغبة، لكننا كنا نقلق في السعي لتوفير بعض الالتزامات، وما كنا نأبه للأكل، طالما هناك ابتسامة تستقبلنا، وصوت ينادينا، ووجه يرحب بنا، وقلب يعطف علينا، طالما هناك امرأة، قامة وقيمة، باسقة كالنخلة، شامخة كالجبل تدعى أبلة كوثر.
نمضي إليها ولا نملك في جيوبنا "بريزة"، ولا تسألنا، نطلب ونأكل ونشبع ونشكر ونغادر، وحين ميسرة، نسدد لها دَينها المادي، أما دَينها المعنوي، فلن نسطيع تسديده، ولا نملك غير الدعاء لها.
زرتها في 2007 ،بعد سنوات طويلة من فراق القاهرة، وجدتها، ووجدت مطعمها، ولكن الذي تغير شيئان: شعبان لم يكن موجودا، فقد سافر لإحدى المحافظات للعمل، والمتغير الثاني: لم تكن رِجلا أبلة كوثر قادرتين على حملها، بعد كل تلك السنين، فقد أعمل فيها الدهر معاوله، فكانت جالسة، ولكن صوتها وصيتها يملآن المكان، كانت قادرة على إدارة المطعم، ومَن فيه، من على كرسيها. يعاونها أخوها.
كان أحد أصدقائي المقربين قد غادر القاهرة بعدنا متأخرا، لأنه كان يبحث عن هجرة لأوربا، فكان له ما أراد، لكنه غادر وفي عنقه خمسون جنيها دينا لأبلة كوثر، وحينما علم أنني سأزور القاهرة، قال لي أعطِ أبلة كوثر الخمسين، واشكرها، واعتذر لها على التأخير بالإنابة عني.
في زيارتي تلك - وبعد أن شربت معها الشاي، وتذكرنا تلك الأيام التي أنقذتْنا فيها من الموت جوعا، وضحكنا كما لم نفعل من قبل، وسعدتْ جدا عندما علمت بأننا في مواقع مميزة، وقد أكرمنا الله، فرحتْ كما تفرح الأم بنجاح أبنائها - قلت لها صديقي "..." يسلم عليك ويشكرك ويعتذر لك، ولك عنده خمسون، وأعطيتها مئة، لكنها أقسمت ألا تأخذ إلا الخمسين، وقالت لي: لولا أنه أوصاك بتسديدها ما أخذت منكم شيئا، فأنتم أولادي.
إلى متى تصر هذه المرأة أن تغدق علينا من فيض كرمها ؟ طلابا وكهولا ؟ّ
ما زلنا نستذكر - نحن أعضاء تلك الحقبة، ورفقاء ذلك الكفاح، وأصدقاء ذلك الزمن - إلى الآن مواقف هذه السيدة العظيمة، تصلها دعواتنا الصادقات حيث كانت، لا أدري إن كانت فوق هذه البسيطة أم تحتها، لكن هي امرأة مررنا بها فترة من الزمن، وتركت فينا ذلك الأثر الذي استعصى على النسيان، وتأبّى على الاندثار.
كيف كانت ستكون القاهرة لو لم تكن فيها تلك السيدة ؟ كيف ستكون أوقاتنا إن لم تعطرها بمواقفها النبيلة ؟ كيف وكيف وكيف؟
كانت أبلة كوثر هرما رابعا، يزيّن فضاءات القاهرة، وقلادة جميلة تجمّل عنق تلك المدينة. كانت القاهرة هي أبلة كوثر، وكانت أبلة كوثر هي القاهرة، فأبلة كوثر هي الحياة.
■ سلام عليك حيث أنتِ.