من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

متلاعبون ﴿2770﴾.
ظلم الأحبة ﴿5406﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : عبدالله علي الخريف.
إجمالي القراءات : ﴿5415﴾.
عدد المشــاركات : ﴿27﴾.

في علم النفس الموازي : فلسفة الحزن.
■ كانت طفلتي ذات الأعوام الثلاثة تتمتع بصحة وعافية، ولم تكن تشكو من أي مرض. وبينما كنت والعائلة في طريقنا إلى الرياض كانت هي نائمة في المقعد الخلفي، ولأنها في أثناء النوم كانت تستند بجيدها الناعم إلى قطعة من حديد الحزام الخلفي فقد استيقظت وهي في حالة من الأعياء الشديد وضيق في النفس واصفرار في اللون.
عندما حملتها، وعلى إثر بكاء وصرخات، أمها التي أعاقها عن حملها هول الموقف كدت أجزم أنها اللحظات الأخيرة في حياة هذه الطفلة التي تملأ المكان بالضحكات والضجيج والمرح، وبينما كانت هي تحيط عنقي بذراعيها الصغيرين متوسلة إلي أن أساعدها في التقاط أنفاسها كنت وبسرعة الصوت أفكر فيما بعد فراقها، غير أنها وخلال لحظات عادت متوردة الخدين سليمة معافاة !
بعد مرور أيام على ذلك الموقف، سألت أمها : لماذا حزنت ؟ وصرخت وبكيت، وسألت نفسي : لماذا تسارعت نبضات قلبي وأنا أرى ابنتي شاحبة ؟ ولماذا .. ؟ هل أشفقت عليها ؟ أم على نفسي بعد فراقها ؟ .
«قيل لأحد شعراء العرب القدامى ورواتهم : لماذا شعر الرثاء أجمل وأصدق شعركم ؟ فقال : لأننا نقوله وأكبادنا تحترق»، ولكن السؤال : أتحترق تلك الأكباد للمفقود أو للأجساد والنفوس التي تحمل الأكباد ؟
قد يقول قائل : ثم ماذا ؟ ما حصيلة كل ذلك ؟ وماذا قد يقدم ؟ سواء أكان الحزن لأنفسنا أم لمن فقدنا ؟ إنه حزن وكفى !
ورغم أن هذا السؤال يحمل الكثير من المصداقية، إن التوغل في فلسفة الحزن قد يغير كثيرًا في نفوسنا، بل قد يخفف من وقع مصيبة الفراق في أحيان كثيرة. خذ مثلاً من يحزن على فراق أحد أطفاله الذي قضى وهو لا يزال ينعم في أفياء الطفولة المورقة. وخذ هذا الحديث النبوي، بل ذلك التفاعل من شخص رسول الله عليه وسلم مع ما مر به أحد أصحابه من حزن، حينما فقد طفلاً محببًا إلى نفسه كان ملازمًا لأبيه «ذلك الصحابي» يحضره معه في مجالس الرسول، ولما افتقد الرسول صلى الله الأب وأُخبر أن ولده الغالي قد مات، وأن الأب لزم المنزل حزنًا عليه، ذهب إليه صلى الله عليه وسلم ثم قال له : «أكنت تود أنك متعت به في هذه الحياة ما شاء الله أن تمتع، أم أنه يوم القيامة لا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يدعوك إليه ؟ قال الأب : بل الثانية يا رسول الله . قال صلى الله عليه وسلم : فذلك لك» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أليس الحزن لأننا سنفقد، صوته، وضحكه، واستمتاعنا بكل ذلك، وأملنا في نفعه وبره ؟ وإذا كان كذلك فليس ثم داع أن نخدع أنفسنا أنها تمادت في دياجير الحزن وقدمت ذلك له، فلا هو سيجني نفعًا من حزننا، ولا بقاؤه ـ والله أعلم ـ كان أفضل له ـ وربما لنا ـ فماذا سيجد في دنيا جبلت على الكدر، قال تعالى : (لقد خلقنا الإنسان في كبد).
أما إن كان الحال يختلف كأن يكون المفقود ممن فرّط وقد كلف وتمادى في سكرات الغي والضلال، وكان الحزن أرقى درجة وأعلى غاية، بحيث ترقى إلى تأمل فيما قد يواجهه من مصير وخوف عليه من عقاب وعذاب محتمل، فقد خرج الحزن عن دائرة الأنانية والذاتية، وأصبح جديرًا أن يقال إن تلك العبرات المتلاحقة لأجل المفقود بحق.
وقد اقتربت الخنساء من الوصول إلى فلسفة الحزن هذه، كلا، بل أصابت غاية الهدف. اقرؤوا إن شئتم قصائدها في أخيها صخر وما حملته من لوعة وجزع، إلى درجة التفكير في اللحاق به : ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ثم تأملوا جيدًا في ردة فعلها بعد وفاة أبنائها الأربعة في أثناء الجهاد في سبيل الله : «الحمد لله الذي شرفني بموتهم جميعًا، وأرجو أن يجمعني الله بهم جميعًا».
رغم الفارق الشاسع بين عاطفة المرأة تجاه الأخ وتجاه فلذة الكبد، بل فلذات الكبد ! وربما قال مجادل إن حزنها على أخيها قد استهلك كل مشاعر الحزن لديها، فلما فقدت الأبناء لم تجد حزنًا تنفقه لأجلهم ؟! غير أن شاعرًا آخر هو متمم بن نويرة وفي أثناء لقائه عمر بن الخطاب قد أبلغ في وصف دقيق لتلك الفلسفة البعيدة الغور حينما أخبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الصبا كلما هبت تذكر أخاه زيد بن الخطاب الذي قتل في اليمامة في أثناء حرب المرتدين، وعن مدى حزن عمر على أخيه زيد، وأنه ربما فاق حزن متمم على أخيه الأمير الفارس مالك بن نويرة فقال متمم : لو كان موت أخي مثل موت أخيك يا أمير المؤمنين لم أحزن عليه، حيث قتل زيد مجاهدًا، وقتل مالك في شبهة المرتدين المانعين للزكاة.