من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

متلاعبون ﴿2777﴾.
ظلم الأحبة ﴿5408﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. عمر حسين الجفري.
إجمالي القراءات : ﴿5638﴾.
عدد المشــاركات : ﴿23﴾.

المجتمع وثقافة الادخار.
■ يقوم مفهوم الادخار على مبدأ التوفير وتخصيص جزء من دخل الفرد من أجل المستقبل.
وفي هذا المقال لن أتطرق إلى الشق الثاني وهو الاستثمار عادة المرتبط بالادخار لدى الاقتصاديين فهذا مجال مختلف ويحتاج إلى مقال آخر، وإنما سأوجه دفة الحديث إلى واقع مجتمعنا نحو الادخار وأعرج على فئة الشباب الذين هم أحد أهم مرتكزات الأوطان وعمادها وسر نهضتها والثروة الحقيقية لمكتسبات الأمة.
إن المتابع اليوم بعين البصيرة لحال المجتمع وما يعانيه من ظروف الحياة المعيشية وارتفاع الأسعار ولهيبها والسكن وتأمين الاحتياجات اللازمة وأزمة الغلاء التي اجتاحت متطلبات الحياة المادية نجد أنفسنا أمام معضلة حقيقية وقضية اجتماعية تحتاج منا أولاً إلى وقفة جادة مع أنفسنا ونظرة ثاقبة من خلال إعادة التوازن بين الدخل المالي للأسرة ومقدار الإنفاق لتلبية الحاجات الضرورية وليست الكمالية وربما بتنا لم نعد نميز بين الحاجات الضرورية والكمالية فكلاهما عند الكثير منا تعني حاجات ضرورية يجب توفيرها.

إن ثقافة الادخار تكاد تكون غائبة في مجتمعنا لعدم وجود خطة واضحة لدينا للإنفاق الشهري ولا يوجد توزيعاً معيناً لأوجه الصرف وأولوياته ولا يتم تحديد مقدار مصروفاتنا اليومية أو الأسبوعية اللازمة وذلك في حدود وإمكانات ما نتقاضاه من مرتب أو دخل شهري.

فعندما يحل موعد الراتب في نهاية الشهر نقوم بصرفه يمنة ويسرة خلال أيام معدودة في ما يستحق وما لا يستحق، وعندما نسأل أنفسنا أين ذهب الراتب ؟ وكيف صرف ؟ لا نعرف حقيقة ولا أخفيكم سراً أن كاتب هذه السطور ممن يعاني ذلك في كثير من الأحيان، ونأتي قبل أن يحين راتب الشهر الجديد وقد انتهى رصيدنا المالي وأعلنا إفلاسنا، ولو ألقينا نظرة سريعة على ما يجري لحالنا وكيفية أسلوب حياتنا ونمط عيشنا وثقافة (ضيع ما في الجيب يأتيك ما في الغيب) السائدة في قاموسنا نجد أننا نبالغ كثيراً في مشترياتنا الاستهلاكية سواءً ما نحتاجه أو ما لا نحتاجه دون مراعاة ودراسة وترشيد للحاجة الفعلية والكمية المطلوبة والقدر المستطاع في ضوء الدخل أو المرتب المتاح أضف إلى ذلك عدم تقنين مصروفاتنا وحاجياتنا اللازمة من جهة، ومن جهة أخرى نرى سعار البنوك من خلال نشر إعلاناتها ودعاياتها وما تقدمه للناس من قروض وعروض مغرية ينجرف إليها المواطنون فيقعون في شراكها وفريسة لها فيلاحقهم الدين ويزيد من أعباءهم ويثقل كاهلهم ويكلفهم ما لا يطيقون بداع شراء مركبة أو تغيير أثاث جديد.

والغريب أنه عندما يقترب موعد الإجازة الصيفية في نهاية العام الدراسي نجد حالة استنفار قصوى ويبدأ الاستعداد للسفر والسياحة والهجرة الجماعية خارج الوطن بالرغم من أن المواطن يجأر بالشكوى وقلة الحال وضيق العيش وصعوبة الحياة ثم نفاجأ أنه يستدين ويقترض مبلغاً من المال كل ذلك من أجل السفر ويتحمل بعد ذلك تكاليف باهظة يكتوي لظاها ويلتزم سدادها طوال العام، وأن هذه الأموال التي اقترضناها من البنوك وأنفقت في السفر لو جمعت ووفرت في حساباتنا على مدار عدة سنوات مضت لحصدنا رصيداً طيباً يمكنّا من استثماره في أي مشروع يدر علينا ربحاً وفائدة أو يحفظ للمستقبل تحسباً لأي تغيرات وظروف تمر علينا مع تقلبات الزمان.

أما على مستوى الشباب فليسمحوا لي أبنائي وأحبابي الكرام أن أكون واضحاً وصريحاً معهم وما دعاني لكتابة هذا المقال هو ما أراه من واقع أناس تربطني بهم صلة رحم وقرابة ومن شباب أعرفهم وقياساً على ما نلمسه ونشاهده في مجتمعنا.
إن المتأمل في واقع الشباب اليوم من الذين بدأوا حياتهم في أول السلم الوظيفي سواءً في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص فالوضع لديهم ربما يختلف نوعاً ما، فنجد كثير منهم ليس لديه رؤية مستقبلية واضحة ولا هدفاً مرسوماً محدداً من الوظيفة المعيّن عليها ولا تخطيطاً منظماً لتوجيه مسار مصروفاته ومدخراته، فحال الشباب عموماً أعني حديثي العهد بالوظيفة؛ فهم إما من أسر فقيرة أو محدودة الدخل أي تعجز عن سد عوزها بالحد الأدنى فهؤلاء يتولون رعاية أهليهم وذويهم ويتحملون مسؤولياتهم ويلبون مطالبهم وبالتالي تتأثر رواتبهم وتتقلص وتتآكل وقد تنفد خصوصاً إذا كانت منخفضة (أقل من ستة آلاف ريال) أما إذا تجاوزت ستة آلاف أو أكثر فهؤلاء علهم أن يجدوا مجالاً للادخار وقد اخترت هذا المبلغ كحد أدنى لراتب الموظف كما يعتقد بناءً على اعتبارات معيشية.

بينما هناك فئة أخرى من الشباب الذين ينتمون إلى أسر ميسورة أو غنية فقد لا يشغلون أنفسهم وبالهم في توفير أو ادخار جزء من الراتب كونهم لا يشعرون بأهمية الحاجة إلى تأمين متطلبات مستقبلهم أو حتى مجرد التفكير فيما قد تؤول إليه الظروف في المستقبل، وذلك لعدم توعيتهم من أسرهم بالعواقب المترتبة على تغير وتبدل الأحوال، وعدم تكليفهم بأي مسؤوليات أو واجبات تفرض عليهم وتجعلهم يعون مصير الحال والمآل.

وأما الفئة الثالثة من الشباب وأسرهم من ذوي الدخل المحدود التي تفي بالقيام بالتزاماتها ولو بالحد الأدنى وهي شريحة كبيرة وعريضة في مجتمعنا؛ فالأمر يختلف عند الشاب في هذه الفئة فهو عندما يبدأ حياته الوظيفية وقبل ارتباطه بالحياة الزوجية يفكر في اقتناء مركبة جديدة عن طريق أحد البنوك ربما يتجاوز ثمنها (100.000) مئة ألف ريال فأصبح منذ بداية حياته العملية أسيراً للبنوك ومطاردة الدين، ولو اكتفى بشراء سيارة مستعملة سليمة من العيوب ومناسبة أو شراء سيارة جديدة في حدود (40.000) أربعين ألف ريالاً أو أقل لتحقق الغرض منها، وربما ذلك رغبة منهم بألا يكونوا أقل شأناً من غيرهم كما يظنون وحب التباهي والتظاهر والتقليد بالآخرين طغى عليهم هداهم الله وأصلح حالهم، ويريد ذاك الشاب شراء جوالاً جديداً لآخر إصدار (موديل) فالذي بين يديه أصبح قديماً ولا يتناسب مع وضعه الحالي كونه موظفاً ويملك راتباً، وقس على ذلك بقية حاجياته من ملابس وعطور وساعات من أغلى الماركات، وبعد سنوات يشكو ضيق الحال وقلة المال ولا يوجد في رصيده مبلغاً احتياطياً أو مدخراً إضافياً ثم يأتي بعد ذلك ويطالب أهله المساعدة والعون لإكمال نصف دينه وما يتبعه من التزامات وديون جديدة عليه وعلى أهله من اكتراء شقة إن كان والده لا يملك مسكناً ولنا وقفة معه هنا فعندما يبدأ في البحث عن شقة سكنية يريدها أن تكون في عمارة جديدة مكونة من أربعة غرف وفي موقع مميز ومخطط جديد فإذا قيل له لماذا لا تبحث عن مسكن من ثلاثة غرف وفي موقع معقول كافياً لك أنت وزوجك وبما يتناسب ودخلك الشهري ؟ تجده يمتعض ويصر على رأيه ويواصل سعيه لتحقيق قناعته ويكلف نفسه ما لا طاقة له بها فهذا الشاب كغيره يمثل نموذجاً لشباب كثر يسلكون نهجه في ذلك ،وبحسبة بسيطة وكمثال نجد أنه كان يمكن له أن يدخر من راتبه (2000) ألفي ريال شهرياً إذا كان راتبه في حدود (5000) خمسة آلاف ريال مثلاً، فإنه يستطيع في خلال عام أن يجمع مبلغاً قدره (24.000) أربع وعشرون ألف ريال وبعد خمس سنوات سيصبح رصيده (120.000) مئة وعشرون ألف ريال مما ييسر ويسهل عليه كثيراً من مطالبه المشروعة.

وأعلم قرائي الأحباب أن ما ذكر أعلاه من حال لا ينطبق على الجميع ولا أعني به عامة الناس بل أدرك تماماً أن من المواطنين لديهم القدرة والحكمة على تصريف أحوالهم وتدبير أمورهم وتنظيم مسار حياتهم بما يحقق مبدأ الادخار ويؤمن لهم ولأبنائهم بمشيئة الله حياة كريمة، وكذا شبابنا منهم من يجدُّ ويعمل ويصبر ويبني نفسه خطوة خطوة ويتحمل مشاق الحياة وعثراتها ويكوِّن مستقبله ويصل إلى تحقيق آماله وطموحاته فهؤلاء من الشباب نماذج مشرقة ومشرِّفة يعتز بها المجتمع ويفخر بها الوطن، كما أني أتفهم ما يمر به المجتمع والعالم من غلاء للأسعار وارتفاع تكاليف الحياة المتزايد وصعوبة الحصول على السكن وغير ذلك مما يعصف بالأمة من أزمات معاشه، ورجوت من طرح هذا الموضوع على السادة الكرام رغبة في إعادة تنظيم أولويات احتياجاتنا المعيشية للتخفيف من وطأة المعاناة الاجتماعية من حيث الإنفاق في مختلف قنوات مطالب الحياة التي أضحت كابوساً مؤرقاً جاثماً على أفراد مجتمعنا.

لذا يسرني فيما يلي أن أضع بين يدي إخواني الأحبة بعضاً من الوصايا المقترحة التي نرى أنها قد تساهم في نشر ثقافة الادخار والحد من تنامي ظاهرة هدر الأموال :
1ـ إن الاستعانة بالله تعالى والاستقامة على طاعته وحسن التوكل عليه هي من أبواب الخير والسعادة للإنسان في الدارين.
2ـ الإخلاص في العمل وأداء الأمانة والواجب الوظيفي طبقاً للعقود والمواثيق المبرمة كي يبارك الله لنا في رواتبنا ومعاشنا مع كثرة المداومة على شكر الله تعالى على نعمه ظاهرة وباطنة.
3ـ الإكثار من الصدقة فإنها تزيد من بركة المال وسعة الرزق وطول الأجل ومضاعفة الأجر.
4ـ تربية الأبناء منذ الصغر على المحافظة على الممتلكات الخاصة والعامة وعدم العبث بها أو إتلافها أو ضياعها وتذكيرهم أنها نعمة وهبها الله لنا ودوامها مرهون بالمحافظة عليها وشكرها.
5ـ إعادة مفهوم الحصّالة (عبارة عن صندوق يحفظ فيه ما يدخر من نقود) للأبناء وتنشئتهم على مبدأ الادخار منذ الصغر وتعويدهم على توفير مبلغاً معيناً من مصروفهم أو مكافئتهم وتوعيتهم بأهمية ذلك في مستقبلهم وأنه أمان لهم من الفقر والفاقة والعوز والحاجة إضافة إلى ما قد يعود عليهم من خير وفير بعد فترة من الزمن يمكنهم من تحقيق وشراء ما ينفعهم ويعود عليهم بالفائدة.
6ـ تعويد الأبناء على العمل وتحمل المسؤولية بما يطيقون وحثهم على الصبر فإنه مفتاح كل خير وكما يقال (من صبر ظفر) وعاقبته الفرج وتوعيتهم أن الرزق بيد الله تعالى يهبه لمن يشاء بفضله وكرمه وأن الناس متفاوتون في هذه الحياة فمنهم الغني ومنهم الفقير وأما الغني فيرزقه الله المال في الدنيا ليمتحنه ويختبره ويجازيه يوم القيامة بينما الفقير الصابر المحتسب يعوضه الله خيراً كثيراً يوم القيامة وهم أول من يدخلون الجنة بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
7ـ تجنُّب القروض البنكية والمديونيات التي لا طائل من ورائها ولا فائدة منها إلا ما كان لضرورة أو حاجة ملحة وألا يفوق الدين مقدار الحاجة.
8ـ الابتعاد عن الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس والمركب وغيرها؛ فهما آفتان مضيِّعتان للمال ماحقتان للرزق مانعتان للبركة.
9ـ مبادرة الجهات الحكومية المعنية على ضرورة التوسع في إنشاء متنزهات ترفيهية وحدائق عامة لمختلف المحافظات والمدن في المملكة وإيلاء مزيداً من العناية للمدن الساحلية وذات الأجواء الباردة أو المعتدلة صيفاً من خلال استقطاب أفضل الشركات المشهورة في مجال تصميم وبناء وإنشاء مشاريع ومنتجعات سياحية بأفضل المواصفات العالمية لتشجيع المواطنين على السياحة الداخلية وتكون بأسعار معقولة ومناسبة وفي متناول الجميع.
10ـ مسارعة الجهات الحكومية ذات العلاقة بالتوظيف والشئون المالية في إيجاد حدٍ أدنى لرواتب وأجور الموظفين والموظفات يكون مراعياً متطلبات الحياة الكريمة لهم، والنظر في رفع العلاوات السنوية تمشياً مع غلاء المعيشة، وإضافة كذلك بدل السكن والتأمين الصحي للمواطنين.

وقبل أن أنهي هذا المقال أوجه كلمة لشباب الوطن مذكراً إياهم أن الحصاد والوصول للمبتغى وتحقيق أعلى المراتب والمناصب لا يمكن أن يأتي في يوم وليلة ولكن لابد له أن يبدأ عادة موظفاً صغيراً براتب محدود يحتاج منه الصبر والجلد والجد والاجتهاد وبذل أسباب النجاح والسعي الحثيث لطلب الرزق متوكلاً على الله مستعيناً به واضعاً نصب عينيه هدفاً وأملاً ينطلق بهما في تطوير ذاته مستغلاً قدراته موظفاً إمكاناته لا يكترث ولا يلتفت إلى أولئك المحبطين والمثبطين يسير بخطى ثابتة يقترب من أهل الخبرة والكفاءة والإنجاز ممن يثق فيهم ويحسن الظن بهم يلتمس منهم جوانب الإبداع والتفوق ويشق طريقه نحو التميز والتجديد صاعداً سلم النجاح يرتقي خطوات متسارعة لبلوغ هدفه وقطف الثمر وجني الحصاد.

وأختم بهمسة محب لكل مواطن غيور أن الادخار مطلب لتقدم الأمم وأمان لاقتصاد المجتمع وحفظاً لثروة البلد ودعامة لمواجهة الأزمات ورصيداً ومخزوناً مكتسباً لأجيال المستقبل وقبل ذلك تلبية لدعوة ديننا الحنيف في الاقتصاد بالأموال وحفظها بعيداً عن إنفاقها بغير وجه حق.
والله من وراء القصد.