من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. أحمد محمد أبو عوض.
إجمالي القراءات : ﴿3812﴾.
عدد المشــاركات : ﴿723﴾.

لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «4».
اكتساب اللغة طبع أم تطبّع ؟‏
لم يعُد خلافٌ اليوم حول ما إذا كانت اللغة طبعاً أم تطبُّعاً، أي : ما إذا كانت ظاهرةً غريزيةً تلقائيّة أم اكتساباً من البيئة الاجتماعيّة، فجميع الباحثين متّفقون على أنَّ اللّغة تُكتسَب اكتساباً، ويؤكِّدون أهمِّيّة العاملَين البيولوجيّ والاجتماعيّ في عملية الاكتساب ولكنَّهم يختلفون حول ما إذا كان العامل البيولوجيّ يتضمَّن قابليّة لغويّةً فطريّةً مخصوصةً أم لا، أي ما إذا كان اكتساب اللغة يتمُّ بمساعدة استعدادٍ لغويٍّ موروث أم لا. وإذا كان ذلك الاستعداد الفطريّ موجوداً فعلاً لدى الطفل عند ولادته، فما هي نسبة تأثيره في اكتساب اللّغة ؟ ويشتدّ الخلاف بين الماديِّين والعقلانيِّين حول هذا السؤال الأخير.‏

■ العقلانيّون واكتساب اللّغة :‏
يميّز العقلانيّون بين ما هو عقليّ وما هو جسديّ. ويعدّون النشاط اللغويّ نشاطاً عقليّاً. فاللّغة ظاهرة إنسانيّة اجتماعيّة ولا يمكن اعتبارها مجرّد فعل ماديّ أو حيواني، ويفترضون أنّ الطفل يولد وهو مزوَّد باستعداد لغويّ فطريّ مخصوص يُعينه على اكتساب اللّغة.‏
يرى نعوم تشومسكي أنّ اللغة مهارة خاصّة وأنّ القدرة على تعلّمها موجودة في موروثنا الجينيّ وأنّ الطفل يولَد وهو مزوَّد بقدرة لغويّة خاصّة أو برنامج داخليّ يمكِّنه من اكتساب اللّغة دون تدخل مباشر من الوالديْن أو المعلمِين؛ وأنّ تلك القدرة اللغويّة الفطريّة التي تولَد مع الطفل تمكِّنه من الابتكار اللغويّ.
يقول تشومسكي :‏ "في حالة اللغة، ينبغي أن نشرح كيف يتمكّن الفرد الذي يحصل على بيانات محدودة، من تطوير نظام معرفي غنيّ جداً. فالطفل عندما يوضع في بيئة لغوية، يسمع مجموعة من الجمل التي غالباً ما تكون غير تامة، ومتشظية، وما إلى ذلك. وعلى الرغم من ذلك كله ينجح ـ خلال وقت قصير جداً ـ في" بناء "أو تمثل قواعد تلك اللغة، وتطوير معرفة معقّدة جداً، لا يمكن استخلاصها بالاستنباط ولا بالتجريد مما حصل عليه من خبرة. نستنتج أن المعرفة المتثَّلة داخلياً لا بدّ أنها محدّدة بدقة من طرف مَلكة بيولوجية ما".
وقد قام أحد أتباع تشومسكي وهو ديريك بكيرتون D. Bickerton ببحث معمَّق حول كيفية تحوُّل اللّغة الهجينة Pidgin التي كانت موجودة في هاييتي إلى لغة الكريول، فقد كان العمال القادمون إلى هايتي من الصين واليابان وكوريا والبرتغال والفلبين وبورتريكو، يستخدمون تلك اللّغة الهحينة، وهي مزيج من الإنجليزيّة ولغات أولئك العمال، وتمتاز بمفردات محدودة في عددها، بسيطة في تراكيبها، ولا يتَّبع ترتيبُ المفردات في الجملة نظاماً معيَّناً، بل يختلف تقديم المفردات وتأخيرها في الجملة من متكلِّم إلى آخر.‏
وادعى الباحث بكيرتون أنّ أطفال أولئك العمّال قاموا بتحويل تلك اللّغة الهجينة إلى لغة الكريول، ويزعم بكيرتون أنّ التحوّل قد تمّ عندما أخذ الأطفال يُغْنون مفردات اللّغة الهجينة وتراكيبها بصورة تلقائيّة ويطوّرونها، حتّى أصبحت لغة كاملة سمّيت بـ الكريول، ويستدلّ أتباع تشومسكي من ذلك البحث أن اكتساب اللغة ـ على الأقلّ فيما يخصّ اكتساب لغة الأمّ ـ يتضمَّن شيئاً من الخلق والابتكار اللغويّ بفضل القدرة اللّغويّة الفطريّة التي تولد مع الطفل (لاحظ أن بحث بكيرتون لاقى نقداً شديداً).‏

■ أمّا منتقدو تشومسكي فيسوقون الحجج التالية لتفنيد نظريّته :‏
1ـ إن تشومسكي يفرِّق بين القدرة والأداء. والأداء هو التحقُّق الفعليّ للقدرة اللغويّة الفطريّة عند المتكلِّمين، من خلال ما يقولونه فعلاً، وأقوالهم غالباً ما لا تتّفق مع قواعد اللّغة؛ على حين أنّ ما يغرفونه بالغريزة أو بالفطرة‏ عن قواعد لغتهم يتفق مع النحو‏ العالمي Universal Grammar، أي الآليّات الضروريّة والمشتركة في كلِّ اللّغات. والمشكلة هي أنّ تشومسكي يعتمد على حدس الناس بشأن ما هو صحيح وما هو خطأ ولكنّ الناس لا يتفقون على ذلك الشأن وأنّ أحكامهم في هذا الخصوص تعكس أداءهم، أي : الطريقة الفعليّة التي يستعملون بها اللغة.‏
2ـ يميّز تشومسكي بين النحو المركزيّ وبين النحو الهامشيّ للّغة. والنحو المركزيّ هو ما يتفق عليه جميع الناس وهو يتلاءم مع النحو الكُلّيّ ولكن تكمن المشكلة في كيفيّة التمييز بين ما هو من القواعد المركزيّة وبين ما هو من القواعد الهامشيّة، فهناك من اللغويين مَن يرى أنّ جميع النحو هو تواضعيّ اتفاقيّ، وليس هنالك سبب لإجراء هذا التمييز الذي يقترحه تشومسكي بين القواعد المركزيّة والقواعد الهامشيّة.‏
3ـ يبدو أن تشومسكي يعدّ المعنى والسياق الاجتماعيّ الذي تُستعمَل فيه اللّغة، من الأمور الثانوية، ولهذا فإنّه لا يأخذ في النظر الظروف أو السياقات التي يكتسب فيها الطفل لغة الأم.‏

■ وخلاصة القول :
إنّ تشومسكي يرى أنّ الطفل مستقلّ بذاته من حيث اكتساب اللغة وابتكارها إنّه مبرمَج داخليّاً ليتعلّمها ولا يحتاج إلا إلى القليل من الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة الملائمة.‏

لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «1».
لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «2».
لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «3».
لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «4».
لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «5».