من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

مثلث الكوتش ﴿4496﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : عبدالله علي الخريف.
إجمالي القراءات : ﴿6196﴾.
عدد المشــاركات : ﴿27﴾.

جناية ما حول المنصب .. !
■ كوبر فيلد Copperfield (وهذا اسمه) كان رئيساً لإحدى أهم الإدارات في مدينته، وكان يصّف مع الناس عند الخباز، ويوقف سيارته في المواقف العمومية، ويمشي وحده بدون مواكب. وباختصار لم يكن يتميز عن الآخرين بشيء، لأي شيء. وللحقيقة فإنه لم يكن الوحيد الذي يتصف بذلك، الكثير من أصحاب المناصب الكبيرة، والكبيرة جداً كانوا كذلك، بمن فيهم الوزراء والضباط الكبار وحتى الرؤساء. لا تتوقع أن يدخل أحد الوزراء مكاناً ثم يتقدم على الجميع لأنه وزير، إنهم يتعاملون مع هذه المواقع والمناصب ابتداء على أنها مواقع لخدمة الناس، ليست مواقع للتعالي على الآخرين، ولا للتميز، ليست بالتأكيد دروباً سهلة للنهب والسرقة أو التحايل على الأنظمة أو تكوين العلاقات الفاسدة للإخلال بنظام البلد واكتساب اللقمات الفاسدة بناء على ذلك، كما لا تعتبر تلك المواقع لديهم فرصة سانحة لأي شيء. لم يكن أحدهم يفكر ابتداء قبل تولي المنصب أنها كذلك وبالتالي فلن يفكر أثناء، كما لن يتمسك بالموقع لاحقاً ويستميت للبقاء لكيلا يخسر ما بناه وما بني حوله ! وهم للعلم لا يفعلون ذلك لأنهم ملائكة، ولا نترك نحن لأننا شياطين ! لكنهم باختصار نجحوا في بناء نظام دقيق وواضح وثابت للتعامل مع الأمر في كل الأحوال.

يذكر أحد أبنائنا الطلاب الذي يدرس في إحدى جامعات أمريكا : أنه لأشهر كان يوقف سيارته في الجامعة في مواقف بعيدة نوعاً ما، ولأنه يأتي باكراً فلطالما توافق مع رجل غالباً ما كان يوقف سيارته العادية جداً بهدوء بجانبه، وكان الأخير يلّوح بيده كل صباح مبتسماً لهذا الطالب الملّون، وكان الطالب يظن للمرة الأولى أنه المسئول عن متابعة عمال النظافة في أحد أقسام الجامعة الممتدة أو أنه يقوم بعمل هام وكبير مشابه لكنه وفق نظرتنا الصغيرة يبدو تافهاً ! لم تمض الأشهر طويلة قبل أن يكتشف ولدنا أن ذلك الرجل العادي البسيط كان : مدير الجامعة الكبيرة والعريقة في أمريكا، وأنه كان على درجة كبيرة من النجاح والتنظيم، وعلى درجة كبيرة من التواضع، وأنه لم يأت يوماً في موكب ولم يوقف سيارته في منصة ولم يقابله الجميع كل صباح بالبخور وفناجيل القهوة ولكنه كان مرتباً وعملياً وعادلاً ونشيطاً ومنصفاً من نفسه وللآخرين، لا مجال لإنكار مثل هذه القيم هناك، ولا مجال لنفيها من تاريخنا الجميل، ولا مجال للبحث عنها في واقعنا التعس !
إنهم لا ينظرون إلى المنصب ابتداء على أنه غنيمة، ولا انتهاء على أنه خسارة ! إنهم يتعاملون وفق عقد للأجرة، وإن أحدهم يعتبر نفسه أجيراً عند الدولة للعمل على قضاء حوائج المواطنين ولذلك يدفع له المرتب وبقية المخصصات دون أن يفترض لنفسه عوضاً عمن وما حوله أية حقوق أو مميزات ! ولذلك نجح القوم وتعثرنا. ولذلك فإن المناصب لديهم لم تجن على أحدهم لا ابتداء ولا انتهاء، ولكل ذلك لم يتمسكوا، ولم يهرولوا.
كل ما يمنحه الناس في عالمنا العربي لأصحاب المناصب ما هي إلا فخاخ موقوتة ! ومع أن بعض الطيبين يتماسكون أولاً، لكننا وبمهارة عالية نوقعهم مع الوقت في تلك الفخاخ وللأسف فإن كثيراً من أولئك الأجراء اكتسبوا قيمتهم - أو خيّل إليهم - من خلال مواقعهم لا من خلال ما اكتسبوا من مواهب ومعارف وصفات، ولذلك أيضاً فإن الكثير منهم يصاب بالاكتئاب المميت حين يخبره الحلاق أن ينزل من كرسيه ذي الشهرة الواسعة لأن محلوقاً آخر سيأتي !

■ ومع أن الجميع دوماً يرددون أن المناصب ما هي إلا كراسي للحلاقين فإنه لطالما أخذوا علقات ساخنة على مؤخرات رؤوسهم دون أن يستفيدوا من هذا التشبيه الواقعي، ولا مجال للانفكاك من هذا التصور والابتعاد عن هذه الجناية إلا بأمرين :
● أن يفقه الأجير أنه جاء إلى المنصب ليقدم عملاً مخلصاً فيه بناء على أنظمة واضحة للمراقبة والمحاسبة.
● وأن يكف الناس وقد - تحسنوا قليلاً - عن منح الأجراء المزيد من الفخاخ !

وإلى ذلك، وربما طالت السنون وتقادمت الأعمار، تبقى هذه الأماكن حفراً فاتحة أفواهها للمزيد من الضحايا.
■ طيّب الله أوقاتكم بذكره.