من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. أكرم محمد مليباري.
إجمالي القراءات : ﴿2223﴾.
عدد المشــاركات : ﴿26﴾.

من تجاربي : الفرق بين الثقافة والحضارة.
■ ما الفرق بين الثقافة والحضارة ؟
وقبل الخوض في محاولة الإجابة عن السؤال السابق، يجدر بي أن أوضح للقارئ الكريم الفرق بين الحضارة والثقافة، (الثقافة : بصمة الإنسانية التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات) (الحضارة : نتاج بصمات الإنسان وآثارها على الطبيعة).

● وفي تفصيل الحديث عنهما أقول وبالله التوفيق ..
♦ أولاً : الثقافة - هي من وجهة نظري الخاصة - بصمة الإنسانية التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، لأن الإنسان يشترك مع بقية المخلوقات في كثير من الوظائف والخصائص؛ ومثال ذلك : الحاجة للطعام والشراب والتكاثر، فكلا الاثنين أي الحيوان مثلاً والإنسان يحتاجان إلى الغذاء والتكاثر؛ ولكن كما يعلم القارئ أن الحيوان كما جبله الخالق عز وجل؛ يتغذى بطريقته الخاصة، ولا يتساوى معه الإنسان في تلك الطريقة، كما أنه يتكاثر لحفظ نوعه وكذا الإنسان ولكن شتان ما بين الإنسان الذي أكرمه الله بالعلاقات الزوجية الإنسانية المشروعة والراقية، عن علاقات الحيوانات الغريزية التي جبل عليها ! فتلك ثقافة تميز بها الإنسان عن بقية المخلوقات - ممنوحة له من الله تبارك وتعالى - والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تحصى.
♦ ثانياً : الحضارة - هي من وجهة نظري - نتاج بصمات الإنسان وآثارها على الطبيعة، وأود أن أشير هنا إلى نقطة غاية في الأهمية؛ حيث قلت : إن الحضارة هي نتاج بصمات الإنسان وليس الإنسانية لماذا ؟ لأن الإنسان لا يتضمن الإنسانية بالضرورة، لكن العكس صحيح. وللتوضيح أقول : الحضارة تشمل التقدم بنوعيه؛ أي المادي والروحي؛ وقد يكون التقدم في الجانب المادي فقط، بينما الجانب الروحي هناك ما يحتاج إلى عمل شيء لإنعاشه ! وقد يكون كذلك التقدم في الجانب الروحي عال، لكن الجانب المادي متقهقر وهكذا. ولأن التسامي الروحي؛ لا يكون إلا مع الإنسانية.
فالحضارة عمياء صماء، قد يسيء استخدامها الإنسان فيفقد إنسانيته؛ فيتردى في أسافل دركات التخلف والجهل والظلم والظلام، وقد يحسن استخدامها؛ فترتقي به، ويرتقي بها في أعلى مراتب الإنسانية فيعد بذلك إنسان بامتياز؛ مع التسامي الروحي، وتلك هي الثقافة.
كان للمسلمين عهد زاهر؛ تجسدت فيه حضارة لم يسبق لها مثيل، فعلى سبيل المثال : قصر الحمراء، وقصر الزهراء ومدينة الزهراء، ومسجد قرطبة، الذي حول فيما بعد إلى كنيسة لا تزال قائمة إلى اليوم، وجامعة قرطبة .. الخ، تمثلت حضارة للمسلمين في الأندلس لأكثر من ثمانمائة عام، أقامها المسلمون بعد الفتح الإسلامي المجيد، لأوروبا الذين كان أهلها يتغشاهم الجهل والهمجية والتخلف، ويعيشون عصوراً مظلمة. فكان الظلم والاستبداد من قبل الحكام للسكان؛ هو لغة التواصل بينهم، حيث سكن الأولون القصور والقلاع، واستمتعوا بخيرات البلاد، في حين لم يجد الفقراء والمساكين ملاجئ تأويهم وذويهم، بل كانوا يباعون ويشترون مع الأراضي !
وفي سنة (92هـ - 711م) في عصر الخلافة الأموية، في خلافة الوليد بن عبدالملك رحمه الله، فتح المسلمون الأندلس؛ وفي فتحهم المبارك لها؛ إزالة لعقائد كفرية وشركية كان يعتنقها الناس هناك، فأنار الإسلام حياتهم وأبدلهم حضارة وعلما وإنسانية راقية؛ تمثلت في الكثير من جوانب التقدم العلمي والتقني، وفن المعمار والطب والفلك والهندسة الرياضية؛ والعيش في رحاب ثقافة إنسانية رفيعة، والتمتع بحضارة مثمرة راقية؛ دامت فترات من الزمن، حتى آذنت بالسقوط.
وبالعودة للسؤال الذي طرحناه حيال موقفنا من ثقافتنا التي نراها مع الأسف؛ تختفي أو تتغير ملامحها شيئاً فشيئا؛ ولا يقتصر الأمر على ذلك التغير فحسب؛ بل بذوبان هويتنا وامتزاجها بالهوية الغربية بما أنها هي المسيطرة؛ في ظل اكتساح العولمة التي تعد كموج جارف؛ قد لا يقف أمامه إلا جبل جليدي متماسك؛ لم يحن وقت ذوبانه.
وفي قول الله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران : 165) ملمح عظيم يبصر الله تعالى به عباده ذوي الألباب والأفهام؛ إلى أننا نتحمل نتيجة الخذلان والتراجع الذي يصيبنا في أمورنا الخاصة والعامة، بسبب تركنا للأسباب والعمل بها، حيث كثيراً ما يكون لدى الإنسان الميل إلى تحميل الآخر أكبر جزء من المسؤولية، فنحن نحمل التقهقر والتراخي الذي أصاب أمتنا الإسلامية على عواتق الآخرين، وننسى أن العيب والسبب؛ هو نحن أنفسنا ! فنقول مثلاً : كيف لنا أن نواجه عصر العولمة التي اجتاحت تياراتها كل المنازل، حتى العقول ؟! متجاهلين أننا نستطيع أن نعود إلى ثقافتنا الإسلامية التي لم تمنع عنا كل ما ينهض بإسلامنا ورقي حياتنا، وتصبغ عليها صبغة حضارية روحية بالدرجة الأولى، ثم حضارة مادية معتدلة؛ تساعدنا على التنعم بخيرات العلم الذي نستخدمه، ولا يستخدمنا؛ لأننا نستطيع أن نطوعه لخدمة ديننا ودنيانا.
وحتى لا يكون ما نكتبه مجرد تباك على الماضي؛ كما أسلفت؛ فأضرب مثالاً قد يكون فيه استفادة من التقنية الحديثة؛ قد تضيف شيئاً للنهضة والحضارة الروحية التي تساعدنا على تحسين الصلة بالله تعالى؛ فبيوت الله تعالى دور للعبادة والاطمئنان النفسي؛ نهرع إليها لنتصل بالله تعالى، وننقطع من ملاذ الدنيا وزينتها وشهواتها، التي لا تنقضي، ولأن المصلين يحتاجون إلى الجو الروحاني في المساجد؛ من هدوء ونظافة عامة، بل وحتى كثير من المصلين؛ يحتاجون إلى تثقيف مستمر وفعال، للتعامل الصحيح مع المساجد ودور العبادة، فنقترح الآتي :
1- الاستفادة من التقنية الحديثة في توعية المصلين قبل دخولهم المسجد؛ بأن توضع (شاشات عرض إلكترونية) على جدار مداخل المساجد؛ تكتب فيها آداب عامة؛ في الحرص على نظافة البدن من قبل المصلين؛ والحرص على مقتنيات المسجد من مصاحف وغيرها، على أن تكون تلك الآداب مكتوبة بلغات مختلفة من العربية والانجليزية والأوردية وغيرها.
2- تصمم صناديق خاصة تعمل بشكل تلقائي، فتفتح برقم سري مثلاً، لغرض وضع الأحذية وبعض الممتلكات فيها؛ بدلاً من تركها عند باب المسجد بشكل غير لائق، أو تجنبا لسرقتها.
3- التوعية المستمرة والمتواصلة من قبل أئمة المساجد والدعاة؛ على احترام بيوت الله والحرص على حضور الصلوات بنظافة تامة، تجنباً لأذية المصلين من الروائح الكريهة التي تنبعث من أجساد بعض المصلين؛ جراء عدم النظافة البدنية.
4- وكلاء الهاتف الجوال مطالبون بطلب شركات التصنيع، لأجهزة هواتف محمولة؛ بها تقويم هجري بالإضافة إلى خاصية تحويل الجوال إلى وضعية (صامت) تلقائياً بحسب مواعيد الصلاة، يتم برمجتها (مصنعياً) دون تدخل المستخدم، تفادياً للإزعاج الذي يصدره الهاتف من نغمات موسيقية أثناء الصلاة، ولما له من تشويش على المصلين، وتأثير على خشوعهم، وعدم تقدير واحترام لبيوت الله.
5- استحداث قنوات إعلامية متخصصة في توعية الناس بشكل عام؛ في كيفية التعامل مع بيوت الله، وآداب الصلاة فيها.
وكثير من الأمور التي نستطيع من خلال تطويع التقنية الحديثة؛ أن ترتقي بحياتنا وننعم بحضارة إنسانية إسلامية تميزنا عن بقية الناس، وتسطر لنا بصمة خاصة بنا؛ تترك أثرها لاجتذاب الآخرين للدين الإسلامي الحنيف.
وقد تعد تلك الاقتراحات من التعزيزات التي نحتاجها بشدة؛ للإبقاء على هويتنا كمسلمين معاصرين، نشجع على الاجتهاد النافع؛ الذي يخدم ديننا، بشكل عام ولا نتصدى للجديد، طالما أننا لا نملك أن نهرب ونعود إلى الوراء، ظناً منا أننا نستطيع أن نعيش بمعزل عن العالم - أو أننا نخلق زمناً كالزمن الذي كان فيه أنبياء الله تعالى، أو عصراً راشدياً آخر - كما أنه ليس بإمكاننا أن نهرب إلى الأمام، متجاهلين تراجعنا وتقهقرنا الذي كثيراً ما يدفعنا نحو الذوبان في آنية الغرب، والارتماء في حضارته المادية الزائفة؛ التي ليس لها في النهاية إلا كما للريشة عندما تكون في مهب الريح.
فالحضارة الخالية من ثقافة تقيمها وتقومها؛ هي معول هدم لا أداة بناء وتحضر حقيقي؛ لأنها أشبه بجسم ينمو بشكل متسارع إلى حد الانفجار؛ إن لم يكن هناك تقنين لعملية النمو؛ فالله تعالى قدر للإنسان أن ينمو إلى حد معين، ولو أنه تعالى قدر له أن ينمو على الدوام وبلا توقف ؛ لما استطاع كوكب أو كون أن يحتويه !
فالحضارة منطلقة، والثقافة هي القائد الحكيم، الذي يوجهها؛ ويعيدها إلى مسارها الصحيح كلما انحرفت عن جادة الصواب، وقد ذكرت في موضوع سابق؛ أن الانطلاق الذي لا يتحكم فيه توجيه عاقل؛ قد يتسبب في ارتطام مدمر.
والارتطام المهلك؛ كثيراً ما يتبدى لنا من خلال ما نراه في حياة الحرية المشؤومة والتفلت الذي يعيشه الغرب، من خلال صور الإباحية الجنسية والشذوذ، والجرائم بأنواعها، والمخدرات، والانهزام النفسي الداخلي، فنرى حالات الانتحار والتخلص من النفس حاضرة على الدوام؛ لأن الحضارة المنطلقة هناك، لم تلق توجيها حكيماً يحول دون وقوع المجتمع في وحول الفساد والرذائل.
غير أنه يمكن لنا أن نتدارك أنفسنا بالنظرة الواعية والمتأنية في أوضاع أمتنا الإسلامية ثم الاعتراف بالقصور بكل شجاعة، والعيش على أرض الواقع، وبالفهم الصحيح له .. والله هو ولي الأمر والتدبير.