من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. خالد محمد الشهري.
إجمالي القراءات : ﴿6450﴾.
عدد المشــاركات : ﴿11﴾.

دوائر الإلحاد : قراءة موضوعية.
■ الدنيا ميدان فسيح جعلها الله مجالاً لعباده وموطنًا للابتلاء والاختبار، وظرفًا للصراع بين الحق والباطل، وجعل لها بنين ذوي حظوة يجدون نعيمها ويحصدون ثمارها دون أن يتسلط عليهم رقيب، وقد يكونون من أنصار الباطل أو الحق، ولله في كل حكمة.
لكنه لم يجعل نعيم الآخرة إلا لأهل الحق، وهذا ما اتفقت عليه الأديان السماوية، وحتى الكثير من الأديان الوضعية.
ومع سعة ميادين الدنيا إلا أن هنالك أناسًا حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة منها، وحجَّروا كل واسع على أنفسهم وهم دائبون في تحجيره على الخلق، فتركوا سعة الدنيا وما بيَّنه الله عز وجل لخلقه بواسطة رسله؛ ليحصروا أنفسهم في دائرة الإلحاد الضيقة، فتركوا سعة الدنيا إلى ضيق الإلحاد.
ولو قُدِّر لك أن تطلع عليهم داخل دائرتهم الضيقة، لوجدتهم أوزاعًا كل فرقة منهم تحصر نفسها في دائرة أضيق، وهذا جزاء من اعترض على ربه أن يبقى صدره ضيقًا حرجًا أبدًا، وله معيشة ضنكًا، ويُحشر يوم القيامة أعمى بصرًا كما كان في هذه الدنيا أعمى بصيرة.

● وحين أتناقش مع أمثال هؤلاء أكتشف أن كل فئة منهم منزعها في الإلحاد وسبب تطاولها على الدين يختلف عن الأخرى، يتبين هذا من ردودهم وحججهم في الطعن على الدين، ووجدت أن دوائر إلحادهم أربع، وهي أسباب مروقهم من الدين وتوجههم إلى الإلحاد، وكانت كالتالي :
1- الشبهة.
2- الشهوة.
3- رد فعل على بيئة متدينة.
4- رد فعل على مآسي ومصائب العالم.

• فأمّا أصحاب دائرة الشبهة : فهم حين تحاورهم أو تقرأ في نتاجهم تجد أنهم عجزوا عن التفريق بين المشتبهات، وكذلك بين ما يرونه متناقضًا مع أنه لا تناقض لمن أوتي نظرًا سديدًا؛ فهم ذوي عقول أحادية النظرة عند بحثهم، ويصعب عليهم الصبر على جمع أطراف البحث؛ حتى يتبين لهم الحق، فيقطعون بنتائج كبرى، وهم لم يستكملوا شروط بحثهم، وكثير منهم تراهم يعترضون على بعض الآيات مع وجود آيات أخرى تحل إشكالاتهم الفكرية، كما أن هنالك أحاديث نبوية تفسر ما أشكل عليهم، لكنهم يعرضون عنها بسبب أنهم أصدروا أحكامهم قبل استكمال مصادر البحث ومواطن الاستدلال.

• وأمّا أصحاب دائرة الشهوة : فهم أولئك الشهوانيين الذين لا يهمهم دين ولا آخرة، بقدر ما يهمهم الاستمتاع بشهواتهم كيفما اتفق ودون تعكير من رقيب دنيوي أو حسيب ديني؛ يبحثون عن الشهوة وفي سبيل إشاعتها وتسهيل الحصول عليها، يهدمون كل سور في طريقهم إليها، ولو كان الدين والإيمان، وأكثر ما يؤذي هؤلاء الحديث عن الأخلاق والآداب وإذا وصف إنسان بحسن خلق أو تدين، رأيت ردود فعلهم كلها طعن وتسفيه له، وهم كما قال ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه : ودت الزانية لو يزنين النساء جميعًا.

• الدائرة الثالثة أصحاب ردة الفعل ضدّ البيئة المتدينة : وهم في الغالب نشؤوا في بيئة تحرص على الدين، ولكنها تفقد فنون التربية فتجبر أبنائها ولا تقنعهم، وتتشدد في الالتزام بالمظاهر الدينية أكثر من حرصها على أعمال القلوب ومراقبة الله ومراتب الإحسان، وهي كما يقال مجتمعات أبوية ومتسلطة لا تقبل الخطأ من أبنائها، وتحملهم فوق طاقتهم، فتجد الناشئ في مثل هذه المجتمعات يتحين متى يشب عن الطوق ويستغني عنها؛ لينفلت منها ويعود ذامًّا لها وناقمًا عليها، ويصبح هذا دوره الأكبر في الحياة، ولا يحاول أن يراجع أخطاءها ويصلح أساليبها التربوية وسلوكها الاجتماعي لضعفه أولاً، ثم لامتلاء قلبه بمشاعر الانتقام وسيطرتها على رُوحه حتى استقرت في عقله الباطن، وأصبحت البوصلة التي توجه سلوكه.

• الدائرة الرابعة هم المصابون بالقلق الوجودي : الذي يتراوح ما بين الاكتئاب والقلق، اكتئاب من هذه الدنيا لعجزهم عن إصلاح ما يرونه من ظلم واعتداء على مستوى العالم؛ وقلق بسبب المستقبل المظلم الذي تسير إليه المجتمعات.
وأكبر مشكلاتهم وقوعهم في شرك وجوب العدالة الاجتماعية في هذه الدنيا، فهم يريدون رد الظلم عن أنفسهم وعن الآخرين، فيعجزون ثم يرون فُشوَّ الظلم والاعتداء في العالم، فتدور حياتهم على النقمة من الدنيا وما فيها، ويبدؤون في الشك في الحكمة من الحياة وسبب الخلق؛ حتى تسيطر عليهم الشكوك مع ضَعف فَهمهم لحقيقة الدنيا، وعجزهم عن استيعاب الإيمان باليوم الآخر، ثم تجدهم يحاكمون كل ما يرونه إلى عقولهم القاصرة ومفاهيمهم الصغيرة وضَعفهم الإنساني.

وحين يعيش أحد هؤلاء اللادينين والملاحدة الجُدد من النشء الجديد أسيرًا لإحدى هذه الدوائر، فإنه مع افتقاد مَن يوجه سلوكه، ويصحح مفاهيمه، ربما تحوَّل إلى ملحد كامل الإلحاد، وإن كان يستتر بإلحاده إلا أن مظاهر سلوكه تفضَحه، وهنا يأتي دور الأب الحاني والمربي المشفق الذي يجب عليه أن يعرف لأي دائرة ينتمي سلوك هذا الشاب، ويبدأ في تصحيح البيئة المحيطة به قبل أن يناقشه، ويبني جسورًا من المودة قبل أن يجادله، وهذا من المنهج النبوي في دعوة الناس أن يبدأ برفق لينتهي إلى خير.

وأفضل ما يحتاجه الشباب في هذه المرحلة من التقلبات الفكرية هي أن يجدوا من يفهم خصائص نموهم، ومعنى ما يمرون به من أزمة تكوين الهوية وصراعات الذات، لا سيما مع قوة الموجة الإعلامية اللادينية التي تهيئ الشباب لديانة العصر الجديد الذي يتوافق مع أنظمة الرأسمالية الحريصة على أن يكون الناس مستهلكين لا مفكرين، وأتباعًا لا أحرارًا.

وكلما استطعنا أن نبرز قدوات صالحة لأبنائنا من مجتمعاتنا المحلية، كلما حافظنا عليهم بشكل أكبر، أما واقع الحال الآن الذي تفرضه عليهم وسائل الإعلام من قدوات شاذة أو ضعيفة، فإن هذا يهدم أكثر مما يبني.

ويجب على أنظمة التعليم المحلية أن تعتني بإصلاح التعليم بما يتوافق مع طبيعة النشء وحاجاتهم؛ ليشبعها بطريقة صحيحة ومتزنة؛ لأن ما يحدث الآن في مؤسساتنا التعليمية يناقض فطرة الناس وأبسط مثال على ذلك قضية حاجة النشء للحركة والنشاط فيما تجبرهم المؤسسات التعليمية على الجلوس المتواصل لمدة ست ساعات يوميًّا والأمثلة كثيرة.

كما أن الأسرة المتدينة والمجتمع المتدين يجب أن يحرص على إفشاء روح المودة والمحبة بين أبنائه، ويتجنب كل أسباب الظلم؛ حتى لا تحدث ردات فعل ضد الدين بسبب سلوك الأسرة أو مؤسسات المجتمع.

■ وأذكرك أخي القارئ بأن الإلحاد لا يحدث في فترة وجيزة، بل هو كالمرض يسري في الروح، ويستغرق مدة قبل أن يسيطر عليها وأكثر من يتعرضون لفيروسه يسلمون منه بإذن الله، ولو بعد حين، لكننا مع ذلك لا بد أن نتعامل معه كما نتعامل مع أي مرض، ويجب أن نضع له خطة على ثلاث مستويات :
1- المستوى الأول : التثقيف ونشر مبادئ الوقاية منه؛ حتى لا يصاب به أبناؤنا.
2- المستوى الثاني : لمن أصيب بفيروسه لا بد من تكثيف الحوار والمناقشة بالمنطق وحل الإشكالات الذهنية لدى من تعرضوا له.
3- المستوى الثالث : كبار الملاحدة واللادينين من دعاته يجب أن يُقطَع شرُّهم عن النشء الجديد ومعاملتهم كما يعامل العضو الفاسد في الجسم الذي يقرر الأطباء وجوب استئصاله قبل أن يتسبب في هلاك الجسد.

وكل ذلك يجب أن يبنى على خطة خلقية تعتني بالقيم وتُتمم مكارم الأخلاق، وترعى صالحها؛ لأن الخلق خير ما يعيش به الناس، وأسوأ ما في الإلحاد واللادينية هو افتقاد الأخلاق، تعرف هذا في كلامهم وسلوكهم، ولا يتورعون عن قول شيء أو فعله إلا بسبب الخوف، وليس الخُلق ما خلا بعض فلاسفتهم الذين يعرفون قيمة الأخلاق وأهميتها للتعايش، وإن كانوا لا يؤمنون بها.

وخلاصة أمر ملاحدة العرب واللادينيين مجرد الطعن والشك، فلا هم قدَّموا شيئًا للحياة، ولم يسلم الناس من أذاهم، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.
ولعل أخطر ما في الإلحاد والرجوع عنه أن ينتقل بهم إلى ديانة العصر الجديد، والعكس صحيح، وهي في واقع الأمر فرع من فروع الإلحاد، وقد كنت كتبت من قبل مقالاً نُشِر بعنوان : هل سمعت بديانة العصر الجديد ؟
وآخر بعنوان : احذروا ديانة العصر الجديد.
وإني لآمُل أن نتعامل مع الخطر القادم كما تعاملنا مع ظاهرة الإرهاب، وما ديننا وأخلاقنا بأهون علينا من أموالنا وأنفسنا، والله الموفق لكل خير.