من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : عثمان أيت مهدي.
إجمالي القراءات : ﴿3944﴾.
عدد المشــاركات : ﴿33﴾.

تكنولوجيات العقل والاستحواذ على الانتباه «1».
■ برنار ستيقلر ـ (الجزء الأول).
أعتبر نفسي مؤسساً لجمعية Arts Industrialis التي تنشط منذ ثلاث سنوات. نقوم بتطوير فكرة مفادها أن التكنولوجيات بإمكانها أن تنتج أحياناً ما يمكن تسميته بـ : الشعبوية الصناعية (populisme industriel) بمعنى، أن تطور وسائل الإعلام الذي شهده القرن العشرين، انزلق تماماً نحو استغلال غرائز الأفراد وأصبح العالم بأسره يشتغل بطريقة غرائزية، وأساساً في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة.
يفترض أن تكون تكنولوجيات التلفزيون، الصحافة، الأنترنت، في خدمة العقل وتطويره، لكن حالياً نراها تشتغل عكس ذلك. للأسف نعتبر هذا الانزلاق في جمعيتنا أمراً واقعاً ولا يمكن قلب هذه الوضعية بمعارضة التكنولوجيات الحالية التي تنتج هذا الوضع وإنما عن طريقها ومهما يكن، فإن التكنولوجيات في تطور مذهل ومستمر.

■ التلفزيون الذراع القوية للتسويق Marketing .
التلفزيون هو الوسيلة الإعلامية التي أثارت أشياء جديدة في تاريخ الإنسانية. بحكم معرفتي بالتطور التكنولوجي للتلفزيون، أحاول أن أبين لماذا دخول هذه الوسيلة الإعلامية في صراع مع المؤسسات التربوية، التي أطلق عليها اسم مؤسسات البرنامج Institutions de programme بالأخص المدرسة، والعائلة التي تعتبر مؤسسة تخضع لعقد اجتماعي.
في القديم كان للإغريق تقنية الاستحواذ على الانتباه يروج لها السفسطائيون، وقد ندد بها أفلاطون، بقوله : "يستحوذ السفسطائيون على انتباه الشباب الإغريقي، ويحطمون قدرات التفكير عنده" فتجندت الفلسفة آنذاك لمجابهة فلسفة السفسطائيين، بتطوير فلسفة أخرى للإعلام. أنشأ أفلاطون مدرسة لتعليم فلسفة السفسطائيين وكيفية دحض أفكارها، وقام أرسطو بتدريس هذه الفلسفة ومجابهة مزاعمها بنفس الطريقة وفي نفس المدرسة.
وسائل الإعلام الحديثة تحمل في طياتها أدوات القطيعة التي تستطيع أن تكون قاعدة لسياسة جديدة أطلق عليها اسم : تكنولوجيات العقل التي تستطيع أن تقلب الموازين، كما استطاعت الفلسفة الإغريقية أن تقلب موازين فلسفة السفسطائيين رأساً على عقب.
أصبح التلفزيون في السنوات الأخيرة فضاء إعلامياً، سمعياً وبصرياً، كما هو الحال في كثير من دول العالم، بمعنى أنه يموّل بواسطة الإشهار، كما أصبح تدريجياً في قبضة النظام الاقتصادي الرأسمالي والصناعي، أي الذراع القوية للتسويق.

■ من رزنامة المواعيد إلى الاستماع والانتباه.
يقدم التلفزيون خدمات كباقي الصناعات الثقافية بصفة عامة، لكنه يعمل أكثر على تشجيع تبني سلوك الاستهلاك المناسب لحاجيات السوق.
يقوم التلفزيون والإذاعة بـ "صناعة البرامج" من خلال شبكات برمجية. في التلفزيون مثلاً، مواعيد زمنية، وفترات أخرى تحدد فيها نوعية البرامج المقدمة، والمستهدفين من المشاهدين، وأسعار الإشهار.
يعتقد المتفرجون قبل سنوات أنهم زبائن للتلفزيون، (بدأ يزول هذا الاعتقاد) ثم يكتشفون أخيراً أنهم مجرد سلعة في نظر التلفزيون الذي يتخذ من البرامج وسيلة أو فخاً للحصول على المتفرجين ومن خلالهم على الأموال التي يجلبها الإشهار. لا أحد يقنن أو ينظم ذلك، لا المواطنون ولا المشاهدون، ولا الدولة تستطيع ذلك، إنهم المعلنون والمساهمون. هكذا يتم تنظيم الاقتصاد الاستهلاكي. لا ننسى أبداً أنّ حيازة التلفزيون بفرنسا في سنة 1950 يمثل ما نسبته 0.5 % قفزت هذه النسبة في سنة 1960 إلى 13 % ثم إلى 70 % سنة 1990 و 98 % سنة 1996. لقد تغلغل التلفزيون بسرعة في المجتمع الفرنسي، وأحدث تغييراً في نمط حياة الناس. إنه تغيير مطلق، لأنه أولاً : عوّض ما يسمى برزنامة المواعيد Calendarité، وما أكثرها ! لاسيما أيام العطل والراحة، وتدرج ضمن هذه الرزنامة مواعيد الأكل والصلاة. في سنة 1939 حوالي 55 % من الفرنسيين لا يملكون هاتفاً ولا مذياعاً ولا تلفزيوناً ولا جرائد، وكانت مواعيدهم الجماعية تتم في الكنيسة أو المدرسة. للعلم أن المدرسة أحدثت ثورة كبيرة داخل المجتمع الفرنسي بعدما أصبحت إجبارية ومجانية في القرن العشرين. يأتي بعدها التلفزيون ليستولي على رزنامة المواعيد من خلال الجرائد المختصة في الشبكة البرمجية على نحو تيليراما Télérama و تيلي 7 جور Télé 7 jours فيدخل مفهوم الاستماع والانتباه الذي يمثل القيمة التجارية الأكثر ربحاً.

■ الاستحواذ على انتباه الأشخاص المستهلكين.
بدأت عملية تصنيع الاستماع والانتباه في السنوات الأخيرة من القرن الماضي. بداية عبر المذياع سنة 1920، ثم توسعت بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية لمحاربة الفائض من الإنتاج الذي كان يهدد الآلة الاقتصادية بالشلل والعودة مجدداً إلى الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929 كان لا بدّ من التفكير في طرق وضع تقنيات جديدة للاستحواذ على انتباه الأشخاص الذين سيتحولون بعد ذلك إلى مستهلكين. في هذه الفترة (1920 ـ 1940) تتطور المفاهيم الأولى لما يسمى الإشهار، التسويق، بمعنى آخر المفاهيم الكبرى التي تحكم العالم.
الانتباه يعني شيئين مختلفين لكنهما لا يفترقان، وهما : القدرة النفسية على التركيز، والقدرة الاجتماعية على الانتباه للآخرين أي السلوك المدني. تعليم الطفل يعني تكوين انتباهه، والتكوين يكون على هذين المستويين. كل المجتمعات تعمل على استحواذ الانتباه، غير أن المجتمعات الصناعية التي تعمل على استحواذ الانتباه تعمل في نفس الوقت على تحطيمه : إنها نتائج بحثي.

■ التوجه إلى المستهلكين قبل سن الخامسة.
حسب دراسة أشرف عليها فريديرك زيمرمان Frédéric Zimmerman ديمتري كريستاكي Dimitri Christakis ملزوف Melzoff (2007) تبين أن تعرض الأطفال ما بين العام الواحد وثلاث سنوات للبرامج التلفزيونية هم عرضة للتأخر الانتباهي Déficit attentionnel وهذا ما أشار إليه فرويد Freud كل ما يرسل إلى الطفل قبل السن الخامسة يسجل في اللاوعي عنده، وبالتالي سيحدد سلوكه بعد ذلك. لذا قام البعض بتأسيس قنوات تلفزيونية للأطفال أقل من سن الخامسة، على نحو : Fox tv ، انتقلت الفكرة إلى فرنسا في العام الماضي بتأسيس قناة : Baby first.
حوالي 40 % من الرضع أكثر من ثلاثة أشهر يشاهدون بانتظام التلفزيون أو شرائط DVD أو تسجيلات الفيديو بالولايات المتحدة الأمريكية، والنسبة تقفز إلى 90 % بعد سن الثانية.
◄ مجلة : Vers léducation nouvelle. 535 Juillet 2009

image تكنولوجيات العقل والاستحواذ على الانتباه «1».
image تكنولوجيات العقل والاستحواذ على الانتباه «2».