من أحدث المقالات المضافة.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : طارق يسن الطاهر.
إجمالي القراءات : ﴿3201﴾.
عدد المشــاركات : ﴿78﴾.

الأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع، وتتكون الأسرة عن طريق الزواج، وقد رغَّب الإسلام في الزواج، وحث عليه، حتى يكبر المجتمع المسلم، ويكون عونا في خدمة الدين ونشره، كما ورد في حديث الثلاثة الذين حرّموا على أنفسهم المباحات، فاستنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: (لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي).
وينبغي للزواج أن يكون مودة ورحمة؛ حتى يحقق غايته (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم 21]، وينبغي للزوجة أن تكون سكنا لزوجها (لتسكنوا إليها)، وأن يكون البيت المسلم ملتزما بأخلاق الإسلام؛ حتى يصبح قادرا على تنشئة جيل قادر يتحلى بالخلق الإسلامي القويم.
خلو بيت الزوجية من المشكلات والخلافات أمر لا يمكن أن يحدث، فقد حملت لنا السيرة خلافات كانت في بيت النبوة، ولكن الحياة تمضي بالحد الأدنى من التراضي وقبول الآخر. ولكن قد يختل ذلك التناغم، ولا يكون البيت سكنا، ولا الزواج مودة، ولا رحمة، ساعتها يحدث أحد ثلاثة أمور: إما الطلاق بنقض عرى الزوجية، وإما البقاء في الزواج مع كثرة المشكلات والخلافات، وإما أن يظل الزوجان في بيت الزوجية ويعيشان فيه أجسادا لا أرواحا، بدون تواصل ولا صميمية ولا حميمة، يظللهم الصمت المطبق.
هنا تكون المرحلة التي سميتُ الزوج فيها: المتعازب، وهي كلمة ابتدعتُها من نحت وتركيب كلمتين وهي: المتزوج العازب، الذي ينام وحده ويأكل وحده ويخرج وحده، وكل واحد من الزوجين له عالمه الخاص الذي يعيش فيه، ولا يلتقيان، لا يدري أحد الزوجين عن الآخر شيئا.
النحت والتركيب من أبواب اللغة، ويكون بنحت جزء من الكلمة الأولى وجزء من الثانية، ثم تركيبهما معا ليصبحا كلمة واحدة، مثل كلمة "عبشمي"، وهي نحت وتركيب من كلمتين: عبد شمس، كما قال الشاعر :
وتضحك مني شيخة عبشمية ● ● كأنْ لم تَرَ قبلي أسيراً يمانيا
المتعازب يهمل بيته وأسرته، ويظل مستمرا في حياة العزوبية الزوجية، والبقاء خارج المنزل مع الأصدقاء، ولا يأتي البيت إلا قليلا.
يظل المتعازب صامتا طول بقائه في البيت، لا يوجد حوار بين الزوج والزوجة، وكأنهما يسكنان في فندق، كل منهما يستغل غرفة، ولا يلتقيان على أي شيء، وربما يتواصلان بالرسائل في الأمور المهمة التي يعتمد عليها بقاء البيت.
المتعازب يظل ملتزما بمنطقة الأعراف، متقوقعا فيها، فهو في منزلة بين منزليتين، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، لا هو متزوج ولا هو أعزب.
حالة المتعازب انتشرت بشكل كبير جدا في الفترة الأخيرة ولها عدة أسباب منها: الرؤية القاصرة للهدف من الزواج، ومنها عدم تأهيل الزوجين لدخول عالم الزوجية، ومنها تحقيق أحد الطرفين رغبته ومأربه من الزواج، ومنها الاستقلالية المادية للزوجة، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها قلة الوازع الديني لأحدهما أو لكليهما، ومنها تدخّل الأهل في العلاقة بين الزوجين، كذلك اختلاف الفهم لدى أحد الزوجين عن الآخر، وأيضا تخيُّل أحد الزوجين أشياء غير حقيقية، هو من صنعها وخلقها، ثم آمن بها وبدأ يعامل الآخر بمقتضاها المتوهَّم من البدء، وصارت عنده حقيقة مسلم بها، وغير ذلك كثير ...
لماذا يصبر المتعازب على العيش في هذه الحالة، ويبقى رهين الأعراف، ويفضل أن يكون مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولا يتخذ أية خطوة لينتقل بها إما العودة للعزوبية وإما العيش في حياة الزواج الحقيقية ؟
ربما نستطيع تفسير ذلك بعدة أسباب: أهمها عندما يكون بينهما أطفال، فيقول أصبر حتى لا يتشرد الأطفال، ربما يكون من النوع الذي لا يستطيع القيام بحاجاته؛ فيصبر لأنه يحتاج للزوجة لتقوم له بشؤونه من طبخ وغسل ملابس وغيرها من أمور البيت التي لا يحسن فعلها، وربما لعجزه عن اتخاذ قرار، وربما لخوفه من مواجهة ذويه بقراره إن اتخذه، ربما لوجود مصلحة تهمه من استمرار زواجه، وربما لحسابات أخرى غير ذلك ...
لكن ربما تكون الاستمرارية في حالة المتعازب خطرا على الأسرة؛ لذا يكون البعد أفضل، والفراق حلا، وما شرع الله الطلاق إلا لعلاج مثل هذه الحالات.
ولو طرحنا خيار الطلاق بعيدا وسعينا لعلاج ظاهرة المتعازب، وحتى يعود البيت الزوجي للوضع الطبيعي يجب أن يجلس الطرفان معا، ويتصارحا، هذه المصارحة قد تجدي حينا، ولكنها قد لا تكون مجدية أحيانا، في مرحلة من المراحل، خاصة لو وضع أحدهما أحكاما مسبقة، وسبقت نتائجه المقدمات، كذلك لا تكون جلسات المصارحة مجدية لو انعدمت الرغبة في الاستماع، ولم تكن النوايا صادقة ولا الأهداف نبيلة، ولو تكلم أحد الطرفين -أثناء الجلسة - أكثر من أن يستمع، ولو لم يترك أحدهما للآخر فرصة أن يكمل كلامه، ويقاطعه قبل أن يكمل فكرته.
لذا قد يلجأ الطرفان للوسيط المصلح "حكما من أهله وحكما من أهلها ..." [النساء 35] وقد ينجح الوسيط المصلح في لم شمل الزوجين، ورأب صدع الأسرة، ومحو حالة المتعازب بنقلها لطرف المتزوج، وإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي، وقد لا ينجح.
لو حدث كل ذلك، وتقطعت الأواصر واستحال الإصلاح فلا بأس من الفراق؛ لأنه قد يكون الخيار الأمثل الذي بسببه يحافظ الطرفان على الحد الأدنى من العلاقات الإنسانية. لأن الفراق أحيانا يكون سببا يمنع حدوث تشوهات نفسية للأطفال، ويحافظ على بقايا الإنسانية بينهما، وبذا تسلم علاقات أسرتي الزوج والزوجة من التشظي، لأنه أحد خيارين قررهما الله تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [البقرة 229] فأفضل لهما الفراق من البقاء في جو مشحون بالخلافات أو مفعم بالصمت الذي يمارسه المتعازب في حياته الزوجية.