
د. عبدالخالق سيد أحمد أبو الخير
عدد المشاركات : ﴿27﴾
التسلسل الزمني : 1441/06/01 (06:01 صباحاً)
عدد القراءات : ﴿3034﴾
فيروس كورونا (19 ــ COVID) : سِرُّ قدر الله تعالى في هذه الجائحة.
◄ الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: ما أحوجنا إلى الإيمان واليقين، والرضا والتسليم بمقادير رب العالمين؛ فإن ذلك يورث هداية القلب وطمأنينته، وهناء العيش وطيبه، وراحة البال واستقامته (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إن القدر أمر عجيب، وهو دليل قدرة الله تعالى فمن أنكره فقد عطل صفة القدرة عن الله، وهو سر الله تعالى في خلقه كما عد النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به وجعله الركن السادس، «وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» دلّ القدر على علم الله تعالى للغيب والشهادة، وللممكن والمحال، وللموجود والمعدوم، ولما كان وما يكون، ولا شيء محال أمام قدرته سبحانه وتعالى، وقد أحاط بكل شيء علما، ولا يكون شيء إلا بعلمه (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) هذا في الموجود، وفي المعدوم قال سبحانه (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) فهذا علمه بأهل النار وهم لا يردون إلى الدنيا، فهو خبر بما لا يقع، فسبحان العليم الخبير.
وهذا القدر المحكم العجيب قد كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ قبل الخلق، فكل شيء مدوّن (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) (َوكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وأحداث الكون، وأفعال العباد ما كبر منها أو صغر مسجلة في اللوح المحفوظ قبل وقوعها (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي: مسطر في اللوح المحفوظ (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وفي حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»رواه مسلم، وما كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ فهو ثابت لا يجري عليه محو ولا تغيير، وإنما المحو والتغيير في صحف الملائكة، قال الله تعالى (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) والله تعالى شاء لهذا المقدر المكتوب أن يكون، ولو لم يشأه سبحانه لما كان ؛ لأن كل شيء تحت مشيئته عز وجل (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وفي القرآن تقرير أن علة عدم وقوع ما لم يقع ولن يقع هي أن الله تعالى لم يشأه ولو شاءه لوقع ؛ فالله تعالى قادر على فعل ذلك الذي لم يقع لكنه لم يشأه سبحانه، ومشيئة الخلق تحت مشيئة الله تبارك وتعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وهذا المقدور الذي كان إنما كان بسبب إيجاد الله تعالى له وخلقه إياه، والخلق من أفعال الرب سبحانه، وكل مخلوق فالله سبحانه هو خالقه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ولذا كان من صفاته سبحانه: الخلاق وهو المبالغة في الخلق (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) وهذه الآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقا إلا وهو عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء؛ إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه، وكثيرا ما يقترن الخلق بالعلم (ُقلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فما من أمر وقع، ولا مخلوق خلق، إلا والله تعالى قد علم ذلك قبل وقوعه، وكتبه منذ الأزل، وشاءه سبحانه، وأجراه على وفق علمه ومشيئته ؛ ولذا كان من أسمائه الحسنى : القادر والقدير والمقتدر، وكانت القدرة من صفاته العلى، وإن شئتم أن تمتلئ قلوبكم بالإيمان واليقين وتعظيم الله تعالى والتسليم فتفكروا فيما يجري في الأرض من أحداث ومقادير .. في ضخامتها، وكثرتها، وتنوعها، في البر والبحر، على الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ثم قارنوا ذلك بقول الله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). وقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ، أَوِ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ»رواه مسلم، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: مِنَ السُّنَّةِ اللَّازِمَةِ...: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ, وَالتَّصْدِيقُ بِالْأَحَادِيثِ فِيهِ... لَا يُقَالُ لِمَ وَلَا كَيْفَ... وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ تَفْسِيرَ الْحَدِيثِ وَيَبْلُغْهُ عَقْلُهُ فَقَدْ كُفِيَ ذَلِكَ وَأُحْكِمَ لَهُ, فَعَلَيْهِ الْإِيمَانَ بِهِ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ، وقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وسُلم الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وحال المؤمن بالقدر محسن التعامل مع الله تعالى، كثير اللجوء إليه، عظيم الخوف منه والرجاء فيه؛ لعلمه أن النفع والضر بيد الله تعالى، وأن الخلق مهما بلغت قوتهم لا ينفعون ولا يضرون إلا بأمره سبحانه، ما أحوجنا إلى الإيمان بالقدر، والتسليم لأقضية الله تعالى فينا في زمن مخوف مرعب، ومرض فتاك تعصف أحداثه ومفاجآته بالدول والأمم والأفراد، وتقلب أحوال البشر، وهذا الوباء العام (كورونا) ضرب العالم كله وحصد كثيرا من الأرواح ولا يزال يحصدها، وكبّد الدول خسائر مالية ضخمة وقطّع السبل بين المدن وفُرض بسببه حظّر التجّوال وضُيّقت الحريات وأثرّت في حياة الناس وقلبها رأسا على عقب، ففيه من المنافع وألطاف الله تعالى ما لو اجتمع الناس لعدّها لعُسر عليهم إحصاؤها.
فمن أولى المنافع :
1- استشار قدرة الله على الخلق فإن انتشار هذا الوباء ووقوف العالم كله عاجز أمامه، أحيا في قلوبنا تعظيم الرب جل وعلا وقدرته على البشر بأضعف مخلوقاته وهو فيروس صغير لا يرى بالعين لنعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما.
2- معرفة نعمة الله في حرية التنقل حيث شاءوا ومتى أرادوا فلزموا البيوت وضُرب عليهم حظر التجوال.
3- عودة الروابط الاجتماعية للأسرة الواحدة فقد كانت البيوت مثل الفنادق سهر في الليل ونيام في النهار لا يجلسون على مائدة واحدة فإن مكث رب البيت بين أسرته زادت المحبة وزانت القلوب بالمؤانسة والقرب بعد أن كانت لا ضابط للداخل فيها والخارج.
4- استصغار حقيقة الدنيا وأن لا تساوي عند الله جناج بعوضة وأن أمنّها قد تزول في لحظة واحدة، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، وأن الموت يأتي بغته بلا سابق إنذار وقد رأينا عيانا في ضحايا الوباء، قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم ترون إلى عالم الغيب والشهادة.
5- إدراك نعمة المساجد والجمع والجماعات لقد تألم المصلحون وبكوا فعظمت الشعائر في قلوبهم وبذات روادها وأصحاب الصفوف الأولى.
6- ترشيد الإنفاق والاستهلاك جملة وتفصيلا.
7- تقليل نسبة التلوث في الأرض فتوقفت المصانع والطائرات وعوارم السيارات جاء هذا الفيروس بأمر الله ليغلق مسارب التلوث.
8- أن من ابتلوا ثم تعافوا عرفوا قيمة الصحة وأنها تاج على رؤس الأصحاء، عرفوا قيمة الهواء الذي يتنفسونه على مدار الثانية منذ ولدوا وأنها نعمة لا تقدر بثمن وأنها نعمة مجانية من لدن الخالق جل وعلا.
9- فكم من أمر جزع الناس منه وتبرموا فكان خيرا عظيما وقدرا كريما فانظر إلى قصة يوسف عليه السلام حين ألقى في الجب ثم بيع عبدا ثم سجن ظلما كان لعز عظيم وشرف كبير يرجع الناس إليه في أرزاقهم ويقصدونه في حاجاتهم وهذا اللطف الرباني يبصره أهل الإيمان في كل أمر يمر عليهم من أقدار الله مهما كانت مراراتها وإن عظمت خسائرها (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
10- وأخيرا أن الإيمان بالقدر خيره وشره يمثل حقيقة الإيمان كما جاء في حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ»رواه أحمد، وقال ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:«لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَلَئِنْ أَعَضُّ عَلَى جَمْرَةٍ حَتَّى تُطْفَأَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِأَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ» رواه البيهقي وصححه، فلنرسخ الإيمان بالقدر في قلوبنا وقلوب من هم تحت أيدينا لا سيما مع انتشار هذه الجائحة المتطورة، ولنغرس هذا الأصل المتين من الدين في قلوب الناس؛ حتى يواجهوا ما يتوقع من أحداث كبرى قادمة بإيمان لا يتزعزع، ويقين راسخ لا يتضعضع، ويقابلوا ألم المقدور بالرضا والقبول؛ رجاء ثواب الله تعالى؛ فإن الدنيا إن ضاع شيء منها على المؤمن فلقد أبقى الله تعالى له أكثر مما ضاع، والعوض عنده سبحانه، وإن فقد الدنيا كلها فلا يفقد معها دينه الذي به صلاح آخرته، وفيها دوام معيشته (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|| د. عبدالخالق سيد أحمد أبو الخير : عضو منهل الثقافة التربوية.
◄ الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: ما أحوجنا إلى الإيمان واليقين، والرضا والتسليم بمقادير رب العالمين؛ فإن ذلك يورث هداية القلب وطمأنينته، وهناء العيش وطيبه، وراحة البال واستقامته (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إن القدر أمر عجيب، وهو دليل قدرة الله تعالى فمن أنكره فقد عطل صفة القدرة عن الله، وهو سر الله تعالى في خلقه كما عد النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به وجعله الركن السادس، «وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» دلّ القدر على علم الله تعالى للغيب والشهادة، وللممكن والمحال، وللموجود والمعدوم، ولما كان وما يكون، ولا شيء محال أمام قدرته سبحانه وتعالى، وقد أحاط بكل شيء علما، ولا يكون شيء إلا بعلمه (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) هذا في الموجود، وفي المعدوم قال سبحانه (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) فهذا علمه بأهل النار وهم لا يردون إلى الدنيا، فهو خبر بما لا يقع، فسبحان العليم الخبير.
وهذا القدر المحكم العجيب قد كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ قبل الخلق، فكل شيء مدوّن (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) (َوكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وأحداث الكون، وأفعال العباد ما كبر منها أو صغر مسجلة في اللوح المحفوظ قبل وقوعها (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي: مسطر في اللوح المحفوظ (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وفي حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»رواه مسلم، وما كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ فهو ثابت لا يجري عليه محو ولا تغيير، وإنما المحو والتغيير في صحف الملائكة، قال الله تعالى (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) والله تعالى شاء لهذا المقدر المكتوب أن يكون، ولو لم يشأه سبحانه لما كان ؛ لأن كل شيء تحت مشيئته عز وجل (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وفي القرآن تقرير أن علة عدم وقوع ما لم يقع ولن يقع هي أن الله تعالى لم يشأه ولو شاءه لوقع ؛ فالله تعالى قادر على فعل ذلك الذي لم يقع لكنه لم يشأه سبحانه، ومشيئة الخلق تحت مشيئة الله تبارك وتعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وهذا المقدور الذي كان إنما كان بسبب إيجاد الله تعالى له وخلقه إياه، والخلق من أفعال الرب سبحانه، وكل مخلوق فالله سبحانه هو خالقه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ولذا كان من صفاته سبحانه: الخلاق وهو المبالغة في الخلق (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) وهذه الآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقا إلا وهو عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء؛ إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه، وكثيرا ما يقترن الخلق بالعلم (ُقلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فما من أمر وقع، ولا مخلوق خلق، إلا والله تعالى قد علم ذلك قبل وقوعه، وكتبه منذ الأزل، وشاءه سبحانه، وأجراه على وفق علمه ومشيئته ؛ ولذا كان من أسمائه الحسنى : القادر والقدير والمقتدر، وكانت القدرة من صفاته العلى، وإن شئتم أن تمتلئ قلوبكم بالإيمان واليقين وتعظيم الله تعالى والتسليم فتفكروا فيما يجري في الأرض من أحداث ومقادير .. في ضخامتها، وكثرتها، وتنوعها، في البر والبحر، على الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ثم قارنوا ذلك بقول الله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). وقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ، أَوِ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ»رواه مسلم، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: مِنَ السُّنَّةِ اللَّازِمَةِ...: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ, وَالتَّصْدِيقُ بِالْأَحَادِيثِ فِيهِ... لَا يُقَالُ لِمَ وَلَا كَيْفَ... وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ تَفْسِيرَ الْحَدِيثِ وَيَبْلُغْهُ عَقْلُهُ فَقَدْ كُفِيَ ذَلِكَ وَأُحْكِمَ لَهُ, فَعَلَيْهِ الْإِيمَانَ بِهِ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ، وقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وسُلم الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وحال المؤمن بالقدر محسن التعامل مع الله تعالى، كثير اللجوء إليه، عظيم الخوف منه والرجاء فيه؛ لعلمه أن النفع والضر بيد الله تعالى، وأن الخلق مهما بلغت قوتهم لا ينفعون ولا يضرون إلا بأمره سبحانه، ما أحوجنا إلى الإيمان بالقدر، والتسليم لأقضية الله تعالى فينا في زمن مخوف مرعب، ومرض فتاك تعصف أحداثه ومفاجآته بالدول والأمم والأفراد، وتقلب أحوال البشر، وهذا الوباء العام (كورونا) ضرب العالم كله وحصد كثيرا من الأرواح ولا يزال يحصدها، وكبّد الدول خسائر مالية ضخمة وقطّع السبل بين المدن وفُرض بسببه حظّر التجّوال وضُيّقت الحريات وأثرّت في حياة الناس وقلبها رأسا على عقب، ففيه من المنافع وألطاف الله تعالى ما لو اجتمع الناس لعدّها لعُسر عليهم إحصاؤها.
فمن أولى المنافع :
1- استشار قدرة الله على الخلق فإن انتشار هذا الوباء ووقوف العالم كله عاجز أمامه، أحيا في قلوبنا تعظيم الرب جل وعلا وقدرته على البشر بأضعف مخلوقاته وهو فيروس صغير لا يرى بالعين لنعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما.
2- معرفة نعمة الله في حرية التنقل حيث شاءوا ومتى أرادوا فلزموا البيوت وضُرب عليهم حظر التجوال.
3- عودة الروابط الاجتماعية للأسرة الواحدة فقد كانت البيوت مثل الفنادق سهر في الليل ونيام في النهار لا يجلسون على مائدة واحدة فإن مكث رب البيت بين أسرته زادت المحبة وزانت القلوب بالمؤانسة والقرب بعد أن كانت لا ضابط للداخل فيها والخارج.
4- استصغار حقيقة الدنيا وأن لا تساوي عند الله جناج بعوضة وأن أمنّها قد تزول في لحظة واحدة، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، وأن الموت يأتي بغته بلا سابق إنذار وقد رأينا عيانا في ضحايا الوباء، قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم ترون إلى عالم الغيب والشهادة.
5- إدراك نعمة المساجد والجمع والجماعات لقد تألم المصلحون وبكوا فعظمت الشعائر في قلوبهم وبذات روادها وأصحاب الصفوف الأولى.
6- ترشيد الإنفاق والاستهلاك جملة وتفصيلا.
7- تقليل نسبة التلوث في الأرض فتوقفت المصانع والطائرات وعوارم السيارات جاء هذا الفيروس بأمر الله ليغلق مسارب التلوث.
8- أن من ابتلوا ثم تعافوا عرفوا قيمة الصحة وأنها تاج على رؤس الأصحاء، عرفوا قيمة الهواء الذي يتنفسونه على مدار الثانية منذ ولدوا وأنها نعمة لا تقدر بثمن وأنها نعمة مجانية من لدن الخالق جل وعلا.
9- فكم من أمر جزع الناس منه وتبرموا فكان خيرا عظيما وقدرا كريما فانظر إلى قصة يوسف عليه السلام حين ألقى في الجب ثم بيع عبدا ثم سجن ظلما كان لعز عظيم وشرف كبير يرجع الناس إليه في أرزاقهم ويقصدونه في حاجاتهم وهذا اللطف الرباني يبصره أهل الإيمان في كل أمر يمر عليهم من أقدار الله مهما كانت مراراتها وإن عظمت خسائرها (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
10- وأخيرا أن الإيمان بالقدر خيره وشره يمثل حقيقة الإيمان كما جاء في حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ»رواه أحمد، وقال ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:«لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَلَئِنْ أَعَضُّ عَلَى جَمْرَةٍ حَتَّى تُطْفَأَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِأَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ» رواه البيهقي وصححه، فلنرسخ الإيمان بالقدر في قلوبنا وقلوب من هم تحت أيدينا لا سيما مع انتشار هذه الجائحة المتطورة، ولنغرس هذا الأصل المتين من الدين في قلوب الناس؛ حتى يواجهوا ما يتوقع من أحداث كبرى قادمة بإيمان لا يتزعزع، ويقين راسخ لا يتضعضع، ويقابلوا ألم المقدور بالرضا والقبول؛ رجاء ثواب الله تعالى؛ فإن الدنيا إن ضاع شيء منها على المؤمن فلقد أبقى الله تعالى له أكثر مما ضاع، والعوض عنده سبحانه، وإن فقد الدنيا كلها فلا يفقد معها دينه الذي به صلاح آخرته، وفيها دوام معيشته (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|| د. عبدالخالق سيد أحمد أبو الخير : عضو منهل الثقافة التربوية.