من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. عمر حسين الجفري.
إجمالي القراءات : ﴿2290﴾.
عدد المشــاركات : ﴿23﴾.

في ثقافة المراحل العمرية : عوّدوا أبناءكم.
■ يبدو أن عنوان المقال يعتريه شيء من النقص والغموض عزيزي القارئ ! إني قاصدٌ ذلك الغموض للفت الانتباه وجذب الأنظار، نظراً لأهمية الموضوع كما أراه من وجهة نظري.
لقد شاهدت سابقاً رحلة طلاب إحدى المدارس بمدينة الرياض إلى هيئة السياحة والآثار فالمقطع متداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي وأيضا نقل على القناة السعودية الأولى وظهرت فيه مقدمة البرنامج وهي تُجري لقاءً مع مجموعة من الطلاب وتطلب منهم إبداء رأيهم لما شاهدوه وعن سبب زيارتهم للهيئة وقد رأيناهم وهم يتحاشون فيما بينهم خجلاً وحياءً من الحديث أمام الحضور وعدسات الكاميرا التلفزيونية، ولكن قبل أن نعلق على ما جرى نريد أن نطرح عدداً من التساؤلات : ما الذي جعل طلابنا يتهربون من الحديث والوقوف أمام الملأ ؟ ومن تسبب في إيجاد حاجز الخجل الذي ينتابهم أمام المذياع (الميكرفون) ومواجهة الناس ؟ وهل لأنهم لا يمتلكون القدرة على الحديث والكلام، وليس لديهم القدرة في التعبير عن طرح آرائهم وأفكارهم ؟
ولعلنا نكتفي بهذا القدر من التساؤلات وأعلم أن هناك المزيد لذا سنسلط الضوء حول أزمة الثقة بالنفس لدى أبناءنا من مواجهة الجمهور والتحدث أمام مجموعة من الناس والقدرة على الحوار والنقاش وإبداء الرأي والتصرف في المواقف المختلفة وهذا هو موضوع مقالنا.
وقد جال بخاطري عندما أستقرئ واقع أبناءنا وأتأمل حالهم نجدهم ضعفاء مترددين خائفين من مواجهة الجمهور والوقوف أمام زملائهم وإذا اعتلوا منابر الإذاعة المدرسية تراهم قلقين مرتبكين مضطربين ترتعد فرائصهم وتحتبس أنفاسهم وتهتز كلماتهم وتختلط عباراتهم وتتغير نبرة أصواتهم ويتصفدون عرقاً كأن على رؤوسهم الطير من هول الموقف.
وأذكر عندما كنت معلماً في المرحلة المتوسطة ورائداً لأحد الفصول الدراسية كان هناك توزيعٌ معدٌ من قبل الإدارة بين الفصول لتقديم الإذاعة الصباحية وحينما يأتي دور الفصل الذي أتولى ريادته لتقديم برنامج الإذاعة كنت أعاني صعوبة بالغة مع الطلاب في اختيار عدداً منهم في كل مرة لإلقاء الفقرات أمام زملائهم فأراهم يتهربون ويتوارون عن الأنظار وينتحلون الأعذار ويتحججون مبررات واهية لأصرف النظر عنهم خوفاً ورهبة من الوقوف أمام زملائهم في طابور الصباح.
ولا غرابة فيما شاهدناه في مقطع الفيديو السابق فهذا أمر متوقع من أبناءنا وحالة سائدة لأنهم لم يتعودوا على مثل هذه المواقف لا في المدرسة ولا في المنزل حتى أنهم لا يحسنون التصرف في أبسط المواقف التي قد تمر عليهم في حياتهم اليومية ولا يلامون فهم لم يكلَّفوا بأي مسؤوليات أو مهام داخل المنزل أو خارجه من قبل الوالدين.
وما أراه سبباً حقيقا لذلك هو نظرتنا لهم بأنهم صغار بعد ولم يأت الوقت لتحمل الأعباء حتى إذا ما كبروا وشبوا واشتد عودهم فإنهم يواجهون مواقف الحياة المختلفة ويصطدمون بظروفها ومشاقها وتقلباتها فيجدون صعوبة في تخطيها وتجاوز عثراتها ولا يحسدون على ذلك فهذا نتاج تربية نشأوا عليها منذ الصغر بل كم رأينا رجالاً كباراً على درجة من العلم والفهم لا يستطيعون إلقاء كلمة أمام جمع من الناس وإذا زج بهم حظهم العاثر للوقوف والتحدث ومواجهة الجمهور تمنوا لو أن الأرض انشقت وابتلعتهم ولا يقفون هذا الموقف العصيب.
إن المتأمل الناظر يلحظ أن أبناءنا لا يجيدون القدرة على الحوار في كثير من المواقف ولا يعرفون كيفية النقاش مع الآخرين وليس لديهم هدفاً محدداً للوصول إليه أثناء حديثهم ولا أفكاراً مرتبة في أذهانهم وإن وجدت لا يستطيعون التعبير عنها بوضوح ولعلي ألقي اللائمة على قطبي بناء شخصية الطالب الأسرة والمدرسة ولا شك أن هذا الحال منبعه أولاً المنزل الذي لم يحسن تربية الأبناء منذ نعومة أظفارهم على الحوار الهادف وإفساح المجال لهم ليعبروا عن آرائهم بحرية ويشجعوهم على الطلاقة والفصاحة في جو يسوده الهدوء والمحبة والألفة ولم يرشدوهم إلى آداب الحديث وكيف ومتى يتحدثون ولم يزرعوا فيهم الثقة بالنفس ولم ينمّوا مفهوم الذات الإيجابي لديهم بل ربما البعض منهم إذا ما نطق الابن وتحدث فأخطأ انهالت عليه كلمات التأنيب والتوبيخ والتجريح وقد يصل بهم الحال إلى السب والشتم أو الضرب والعنف وبالتالي تعودوا على تربية الإقصاء وتكميم الأفواه ومصادرة الآراء حتى تبلدت أحاسيسهم ومشاعرهم وأصبحوا مترددين غير واثقين من أنفسهم هذا من جانب ومن جانب آخر نجد كثيراً من الآباء والأمهات لا يهتمون إلا بتوفير متطلبات الحياة المادية لهم مثل الغذاء واللباس، والصحة وتأمين رغباتهم أكثر من الاهتمام بالجوانب الاجتماعية التي يجب أن تؤهلهم للحياة العامة المقبلة ومنهم من لا يكلِّف أبناءه بأي مسؤوليات كخدمة والديه في أعمال المنزل أو قضاء وشراء بعض الحاجيات والمستلزمات المنزلية أو إصلاح أعطال بعض أثاث ومحتويات المنزل واستقبال الزائرين وتقديم واجب الضيافة لهم واصطحابهم لحضور المناسبات واللقاءات وأداء الصلوات في المساجد وحضور المجالس والمشاركة في الحديث والحوار حتى أصبحوا مستهلكين اعتماديين ليس لديهم القدرة على إنجاز أي مهمة بمفردهم أو القيام بأي دور يطلب منهم في حين نجد أن العزلة الأسرية لها قصب السبق في حضور هذا المشهد حيث أصبح كل واحد من أفراد العائلة الواحدة يعيش في عالم مختلف بعيداً عن الآخر وصار الجميع يعيشون في غربة انعكست آثارها على الأبناء مما جلبت لهم اضطرابات الشخصية الانطوائية.
وأما دور المدرسة وهي الركيزة الثانية التي تبنى عليها شخصية النشء نرى أنها من حيث الإذاعة الصباحية تقتصر غالباً على عدد معين من الطلاب، وعلى فقرات معينة طوال العام الدراسي ويقل فيها الجانب الإثرائي الذي يزود الطلاب بالمعلومات والأخبار والمعارف التي تهمهم في حياتهم وتشبع فيهم حب الاستطلاع وتقديمها بصورة مشوقة جذابة تكسبهم مهارات الاتصال والتعبير الحر عن أفكارهم وعدم تعويدهم على البحث والاطلاع ومعرفة مصادر المعلومات التي تزيد من ثقافتهم وخلفياتهم العلمية.
إضافة إلى إغفال الجانب التمثيلي والمسرح المدرسي التعليمي وبناء وكتابة القصص الحوارية كوسيلة تعليمية تساعد في إيصال المعلومات والمعارف المدرسية المكتسبة بسهولة ويسر والتقليل من أهميتها وشأنها وعدم استخدامها في عملية التدريس وقد يكون سبب ذلك هو انعدام خلفية كثير من المعلمين لهذه الأساليب المهمة لأنهم لم يتلقوا دورات وبرامج تدريبية كافية ، كذلك قلة الاهتمام بالحوارات الصفية الهادفة بين الطلاب والمناقشات المنظمة القائمة على إبداء الآراء والتعبير الحر المبني على التفكير العلمي والإبداعي.
وما عرضناه سابقاً هو واقع نعيشه في مجتمعنا ولا أعني الجميع وإن كان هذا الداء يجتاح السواد الأعظم من الأفراد كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً وقد تكون حدتها أقل لدى الإناث وإذا ما دلفنا واتجهنا نحو مجتمعات أخرى نجد أبناءهم وفتيانهم يتحدثون بطلاقة وثقة وبراعة وجرأة أمام الجموع والحضور فضلاً عن كبارهم وآباءهم،لذلك وجب علينا جميعاً أن نعيد الثقة لأجيالنا ونبحث جوانب الخلل ومكامن القصور في ممارساتنا وتربيتنا لهم.

■ ولعلي أطرح عدداً من التوصيات المقترحة التي آمل أن تكون عوناً لنا في تعزيز وتنمية جوانب الثقة بالنفس عند مواجهة الناس والوقوف على المنابر أمام الآخرين والتصرف في المواقف المختلفة :
● أولاً : المنزل.
1ـ تعويد الأبناء في المنزل على التنشئة السليمة المتمثلة في أسلوب الحوار الهادئ بعيداً عن الاحتقار والنقد الجارح واستخدام العقاب واللوم عند مخالفة الرأي ومناقشة كل الآراء المطروحة وتقبلها وصولاً إلى الحقيقة في جو يسوده الاحترام والتقدير والود وتشجيعهم على طرح وتبادل الأفكار الجيدة والجديدة وتوليد أكبر قدر منها وفتح آفاق الحوار للحلول والبدائل المتنوعة وعرض وجهات النظر المختلفة وتعميق مبدأ الشورى بين أفراد العائلة،وتعزيز حب الاستطلاع لديهم واحترام تساؤلاتهم واستفساراتهم وترك العنان لهم للسؤال والإجابة لتنمية التفكير الإبداعي وتوضيح ما يصعب عليهم دون تذمر وتعويدهم على مهارات الاستماع والتحدث (عدم مقاطعة المتحدث ،متى يستمع ومتى يتكلم، وكيف يدلي برأيه إن كان مخالفاً لرأي الآخرين) وحضهم على الاطلاع والقراءة المفيدة بتأمل وفهم وتحفيزهم لاستعراض ما تم قراءته وتقديم عبارات الثناء والمديح ورفع الروح المعنوية لديهم.
2ـ اصطحاب الأولاد لأداء الصلوات في المساجد وعند زيارة الأصدقاء والأقارب وحضور المناسبات والاحتفالات وإشراكهم في استقبال الزوّار في المنزل وتقديم خدمة الضيافة لهم والجلوس معهم وإتاحة الفرصة لهم للحديث والكلام.
3ـ تكليفهم ببعض الأعمال المنزلية في حدود إمكاناتهم وقدراتهم وطاقاتهم كخدمة الوالدين في نظافة المنزل وترتيب وغسيل الملابس والمساعدة في إعداد الطعام وقضاء حاجيات ونثريات الأسرة ودفعهم إلى التصرف بمفردهم في بعض المواقف التي تواجههم في حياتهم وترك ناصية اتخاذ القرار المناسب لكل موقف بيدهم مع توجيههم وإرشادهم عند الحاجة.
4ـ إشراكهم في إصلاح أعطال أثاث ومحتويات المنزل بما يتناسب وطاقاتهم وإلحاقهم بالدورات والبرامج المهنية البسيطة في العطل والإجازات الصيفية التي تقيمها المعاهد والمؤسسات المهنية والتقنية في مجال الكهرباء والحدادة والنجارة والميكانيكا والالكترونيات وعلوم الحاسب الآلي لتنمية مهاراتهم وصقل مواهبهم وإكسابهم خبرات تعينهم في مستقبل حياتهم.
5ـ إشراكهم في مجالات خدمة المجتمع والأعمال التطوعية التي تلاءم أعمارهم وقدراتهم مثل الإعداد للمعارض الخيرية والبيع فيها وجماعة الكشافة والجوالة ومساعدة كبار السن والمحتاجين والفقراء والمساكين ونظافة وتشجير الحي إلى غير ذلك من أعمال البر والخير.
6ـ الاطلاع والاستفادة من المراجع والكتب المتخصصة في مجال فن الإلقاء والخطابة والقدرة على الحوار الهادف والنقاش البناء وتلك التي تعالج مشاكل الخوف والقلق عند التحدث والوقوف أمام الآخرين.

● ثانياً : المدرسة وما يتعلق بها.
1ـ تعويد جميع طلاب المدرسة دون استثناء على المشاركة في فقرات برنامج الإذاعة الصباحي أمام منسوبي المدرسة وعدم اقتصارها على طلاب الإذاعة فقط، ويتم اختيارهم في كل مرة عن طريق رواد الفصول الدراسية من خلال تقسيمهم وتوزيعهم في جداول معدة مسبقاً وتدريبهم قبل الموعد المحدد على طريقة الإلقاء لتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتشجيعهم مادياً ومعنوياً وحثهم على البحث عن الخبرات والمعارف المناسبة والاطلاع على مصادر المعلومات المختلفة وتقديم المساعدة لهم ودعمهم وتقويم ومراجعة ما توصلوا إليه.
2ـ تفعيل المسابقات العلمية سواءً الفردية أو الجماعية والتمثيل المسرحي وبرامج الأنشطة الصفية واللاصفية التي تنمي جوانب الشخصية المختلفة العقلية والجسمية والنفسية والانفعالية والاجتماعية ووضعهم في المجالات التي تناسب ميولهم ورغباتهم وقدراتهم واستعداداتهم لإبراز مواهبهم وإبداعاتهم.
3ـ تعويدهم على المشاركة في المناقشات الصفية أثناء الدروس وفتح باب الحوارات المنظمة وطرح آرائهم وإجاباتهم من خلال تنفيذ ورش العمل وتوعيتهم بالطرق المناسبة للحوار وأساليب النقاش السليم وحثهم على القيام بدور المعلم في شرح وتقديم المعلومات أمام زملائهم بالتناوب بينهم لكسر حاجز الخجل لديهم وتشجيعهم بهدايا وجوائز مادية وعبارات وكلمات تحفيزية.
4ـ إلحاق المعلمين بالدورات والبرامج التدريبية في مجالات استراتيجيات التدريس المعتمد على التمثيل وبناء القصص المنهجية لما لها من أهمية في تعزيز قدرات الطلاب على التعبير والخطابة والجرأة الأدبية وخلق روع التعاون والعمل والبناء وتضافر الجهود وإثراء معلوماتهم الثقافية والاجتماعية ومختلف نواحي الحياة وترسيخ المفاهيم والمعاني والحقائق العلمية التي يدرسونها في أذهانهم لتبقى آثارها طوال حياتهم إلى غير ذلك من الجوانب الإيجابية التي تعود عليهم بالنفع والفائدة ،وتوعية الميدان التربوي بثقافة التمثيل والمسرح المدرسي من خلال النشرات التربوية والقراءات الموجهة وحثهم على تطبيقها في عملية تدريس المواد.

وكلمة أخيرة للآباء والمربين فهم يتحملون عبء تربية الأجيال وتبقى تحت طائلة مسؤولياتهم لذا كان لزاماً عليهم تعويد أبناءهم على الجرأة المشروعة في مواجهة الجمهور وترسيخ القيم والمفاهيم الإسلامية للخطابة وإذابة حاجز الرهبة والخوف من نفوسهم وإكسابهم الثقة والفصاحة والبلاغة في أقوالهم وإشراكهم في تجارب الحياة وظروفها ومواقفها المختلفة حتى لا تخبو وتنطفئ مواهبهم وتندثر قدراتهم فيصبحوا على هامش الحياة وعالة على مجتمعاتهم وليس لهم حضور للمساهمة في نهضة وطنهم وأمتهم.
■ هذا والله المستعان.