من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : طارق يسن الطاهر.
إجمالي القراءات : ﴿3307﴾.
عدد المشــاركات : ﴿78﴾.

غزوة حُنَين : خطبة غزوة حنين دروس وعبر.
■ تجلت في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم صفات القائد العظيم، من قدرة على الإقناع، وحسن تصرف، وسداد رأي ومعالجة للمواقف، ولمّ الشمل، ورأب الصدع.. ولا عجب فقد أدّبه ربه، فأحسن تأديبه، فهو القائل : "أدبني ربي فأحسن تأديبي"؛ إضافة إلى ما يتميز به من فصاحة وبلاغة، ولا عجب، فهو من قريش، واسترضع في بني سعد، وأوتي جوامع الكلام.

● أتناول هنا خطبة من أعظم خطب التاريخ، تجلت فيها كل السمات المميزة لقائد عظيم، تلك هي الخطبة التي تلت غزوة حنين.
فقد انتصر المسلمون في يوم حُنَيْنٍ، وهي معركة عظيمة، حدثت بين المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين هوازن ومعهم ثقيف، في شوال من السنة الثامنة من الهجرة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى، وخلّدها في كتابه الكريم، حين قال : (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ..) [التوبة 25].
فقد كان المسلمون اثني عشر ألف مقاتل، وقالوا والله لن نُهزم من قلة؛ لأنهم انتصروا في معاركهم السابقة، وهم أقل عددا، لكن الله أراد أن يذيقهم طعم الهزيمة -المؤقتة - حين ركنوا إلى قوتهم واعتدّوا بعددهم، واعتزوا بعتادهم، ولكن بفضل الله استطاع القائد الحكيم إعادة الفارين، وجمع المتفرقين، فكان النصر، وكانت الدروس والعبر.
غَنِمَ المسلمون من غزوة حنين غنيمةً عظيمة، فقسّمها النبي صلى الله عليه وسلم فِي الْمُؤَلفة قلوبهم، وهم كبار القوم الذين أسلموا حديثاً؛ رغبة منه في تمكين الإسلام في قلوبهم، وهم من كبار كفار قريش، الذين طالما حاربوا الإسلام والمسلمين، لكنهم أسلموا قبل قسْم الغنيمة بأيام قليلة فقط.
أَعطاهم عطاءَ من لا يخشى الفقر، ولم يُعْطِ الأَنصار شيئا، الأنصار الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم لنصرة الإسلام، والدفاعِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان، وقد أحبّوا من هاجر إليهم من المسلمين، وتقاسموا معهم كل شيء، الأنصار الذين مدح أبو بكر الصديق رضي الله عنه مواقفهم مع المهاجرين مستشهدا ببيت الطفيل الغنوي:
أبوا أن يملونا ولو أن أمَّنا • • • تلاقي الذي لاقوه منا لملتِ

الأنصار الذين يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، فكأنَّهم وَجَدُوا في أنفسهم؛ إذ لم يصبهم ما أصَاب الناسَ من خير الغنائم، وقالوا بحسرةٍ وأسى: سيوفنا تقطر من دمائهم، وهم يذهبون بالمغنم!!
حزنوا وغضبوا ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم من الغنائم، فهذه الطبيعة البشرية، لكنهم لم يفطنوا للحكمة الرشيدة المقصودة من وراء تصرفه صلى الله عليه وسلم.
فلم يتمالك سعد بن عبادة رضي الله عنه نفسه - وهو سيد الأنصار- فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لِيصارحه ويُخبره بما يجول في خواطر الناس، فلما أخبره بذلك، تعجَّب الرسول صلى الله عليه وسلم كيف حلَّ ذلك في قلوبهم ؟!، وقال له: فأَين أَنت من ذلك يا سعد؟، قال: ما أَنا إلا من قومي.
رضي الله عن سعد وأرضاه، لم يجامل ولم يداهن، بل صارحه بما جُبِل عليه قلبه، وتلك ميزة لسعد كونه واجه الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدور لدى قومه، هنا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : فاجمع لي قومك.
فجمعهم سعد ؛ فكانت تلك الخطبة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يا معشر الأَنصار: ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجِدَة وجدتموها عليّ في أَنفُسكم؟ ألم آتكم ضُلّالا فهداكم اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ! قَالُوا: بَلَى، اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ.
ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَار؟ قَالُوا: بِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ للَّه وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ.
أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ، أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رحالكُمْ؟
فوالّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ).

"فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قَسْمًا وَحَظًّا. ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرَّقُوا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه الخطبة تجلّت صفة الإنصاف لدى النبي صلى الله عليه وسلم، حين ذكر فضل الأنصار، ولم ينسَه، ولم ينكره، حين قال لهم : "أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ".
وقبل ذلك ذكّرهم بفضله عليهم، وكيف أنه كان سببا في هدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى الإسلام.
وتجلت قدرته صلى الله عليه وسلم في الإقناع، حينما بيّن لهم سبب فعله من إعطاء بعض الناس من الغنائم نصيبا أكبر، حينما أوضح أن ذلك كله لعاعة من الدنيا، "واللعاعة هي الشيء القليل"، وأخذ بيدهم لمربع المقارنة بين نصيبهم ونصيب الناس، فلا وجه للمقارنة بين من يكون نصيبه رسول الله، ومن يكون نصيبه الشاة والبعير !
فمن مهارات القائد القدرة على الإقناع، فقد تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من إقناع الأنصار، وردّهم إليه بقوة المنطق، وصدق العبارة، فاقتنعوا وندموا على ظنهم حتى : "بَكَى الْقَوْمُ وأَخْضَلُوا لِحَاهُمْ"، ورضوا.
تجلت عظمة النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة الحوار وقبول الرأي الآخر، وذلك في حديثه مع سعد بن عبادة –رضي الله عنه - حينما استمع له وأنصت، ثم سأله عن رأيه -وهو سيد قومه -، وحينما علم أن رأي سعد هو رأي قومه، حين قال سعد - بكل جرأة - : وما أنا إلا من قومي.
هنا انتقل القائد من الحديث الخاص إلى العام، من السر إلى العلن، فلم يكتفِ بإرسال رسالة مع سعد لقومه ؛ إذ طلب من سعد أن يجمع له قومه، ليخاطبهم جميعا، فكانت تلك الخطبة العظيمة.

♦ تجلت عدد من المظاهر البلاغية في هذه الخطبة العظيمة، ومنها :
النداء في قوله يا معشر الأنصار، والنداء يكون للفت الانتباه وجذب المتلقي.
والاستفهام في صورِه الحقيقية، وبكل أغراضه البلاغية المجازية، في قوله : ما قالة بلغتني ...أوجدتم .. ألا تجيبونني.
كذلك القسم في قوله : فوالذي نفسي بيده، وفيه – كذلك - كناية عن موصوف، وهو الله سبحانه وتعالى.
استخدم النبي صلى الله عليه وسلم عددا من الأدوات الإقناعية لربط الكلام، ومنها استخدام أسلوب الشرط بأداته : لولا، وهي حرف امتناع لوجود، وأداته : لو وهي حرف امتناع لامتناع.
كذلك برز التضاد في الخطبة، وكما هو معلوم أن التضاد يوضح المعنى ويبرزه، في قوله : ضلالا – هداكم / عالة – أغناكم / مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ.
ورأينا الجناس الذي يعطي الحروف جرسا موسيقيًّا، ومنه : فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ.
ثم ختم بالدعاء : "اللَّهمّ ارْحَم الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ". فتلك دعوة يظهر تأثيرها، وتتجلى بركتها إلى الآن في أهل المدينة المنورة.

هكذا كنا مع هذه الخطبة العظيمة التي تجلت فيها كثير من ملامح شخصيته صلى الله عليه وسلم، ورأينا أنه بحكمته تمكن من لمّ شمل المسلمين، ووأد فتنة قد برز رأسها، وكان من الممكن أن تنخر في المجتمع المسلم أيامها.