أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : أحمد أحمد هيهات.
إجمالي القراءات : ﴿4347﴾.
عدد المشــاركات : ﴿8﴾.

قصة مجتمعية : البوصلة التائهة.
■ كان يقاسم أصدقائه ويباهي لهم في جلساته الحميمية ويحلف الأيمان المغلظة أنه سيعتزل الحياة السياسية ويقاطع الانتخابات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية حتى يتحرر الشعب من الوصاية ويستعيد زمام أمره، ويقرر مصيره بنفسه بصورة ديمقراطية حقيقية وليس ديمقراطية صورية شكلية، وأنه لن يعود إلى التصالح مع الحياة العامة حتى يرى العدل وقد بسط ذراعيه في البلاد وعلى العباد، وحتى يصبح صوت الحق أحب إلى النفوس من كلمات المدح والإطراء، وحتى يصبح صوت الحق مدعاة للتثمين والإصغاء لا سببا في الملامة والإدانة، وحتى تصبح عملة الكرامة أغلى سعرا من كل العملات والثروات وجميع كنوز الدنيا.
غير أن زيارة قصيرة لأحد مخافر الشرطة في المدينة، - ورغم أنها لم تتعد أسبوعا واحدا من ليالي فصل الشتاء حارقة البرودة - كانت كافية لدفعه إلى العدول عن كل أفكاره السابقة، ومراجعة معظم مواقفه القديمة، وتبني قناعات جديدة جعلته يعترف بأنه كان في ما مضى إنسانا غارقا في المثالية والطوباوية الحالمة التي لا توصل إلى خير أو إلى نتيجة ملموسة، فقد كان يكره وجود المخبرين ويمقت عملهم، ويكنّ لهم أبغض المشاعر.
وقد كان قبل حين يجاهر بالإلحاد ويتفاخر به أمام جموع الطلبة في ساحة الجامعة ويدعو إليه ويعتبر كل ذلك تقدما وثورة تحررية من الخرافة الغيبية والأفيون الذي يوزع مجانا على الفقراء والمستضعفين، ولطالما رافع مرافعات طويلة بأن الله فكرة وهمية لا وجود لها إلا في أذهان الرأسماليين المتوحشين، وقد ابتدعتها الطبقة البورجوازية الاستغلالية من أجل خداع طبقة العمال البسطاء، وعموم الطبقات المسحوقة المستثناة من الاستفادة من الثروة وتنويمهم بالأحلام الكاذبة المعسولة عن الآخرة والجنة بأنهارها وثمارها وأبكارها وظلالها ومياهها، ولطالما ردد قول المتنبّي :
أغاية الدين أن تحفّوا شواربكم • • • يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

وبعد أزمة نفسية شديدة كادت أن تسلمه إلى الانتحار بسبب الفراغ الذي أضحى يعيشه، بعد أن أعاد النظر في الأفكار التي يحملها ويدافع عنها دون أن يساهم في بنائها أو حتى يفكر في مراجعتها بأي صورة من الصور أو شكل من الأشكال، أخرجه أحد أصدقائه من هذه الأزمة التي تزامنت مع أولى سنوات البطالة والقعود، وقد سبقه في هذا المسار الرهيب فانتشله منه مجموعة من الشباب المتدين، وقد عمل هذا الصديق على إدخاله إلى هذا العالم الجديد المناقض لعالمه السابق، وبعد معارضة شديدة واستغراب مهين وتعجب واستهزاء طويل، قرر خوض هذه المغامرة الجديدة، علّها تنسيه مرارة التجربة السابقة ونهايتها المأساوية، وتعوضه ذلك الفراغ الروحي المهول الذي كانت تغطيه سحب دخان المخدرات وساعات اللذة وإغماءات الغيبوبة الإرادية.
وبعد حين عاوده الحنين إلى أن يخطب في الجماهير التي تكونت هذه المرة من شباب القرية المتجمعين في أحد دكانيها المزدحمين بالكثير من الشباب والقليل من البضائع بعد أن انتهوا من أشغالهم الفلاحية اليومية، وبعد أن لبّوا جلّ رغبات سكان الزرائب ونزلاء الحظائر والإسطبلات من الغنم والضأن والبقر والحمير والبغال والخيل.
فأطلق من جديد العنان للسانه متحدثا هذه المرة باسم الدين موضحا للحاضرين المستمعين بخشوع وبكثير من الانبهار والاستغراب علامات التدين والصلاح وفي مقدمتها اللحية التي يجب أن تعفى على عكس الشارب الذي يجب أن يقص، وهي اللحية نفسها التي كانت قبل زمن يسير رمزا للماركسية والإلحاد وإشارة مباشرة إلى شيخها ونبيها كارل ماركس، كما شدد على عدم تعليق الصور في البيوت، وهو الذي كان يملأ غرفته الضيقة بصور ماركس وانجلز ولينين وستالين وماو وتشي غيفارا.
بعد أشهر قليلة لم يتردد كثيرا في الإجابة عن سيل الأسئلة الحائرة التي وجهها إليه رفيق درب الدراسة الجامعية عندما رأى صورته ضمن صور لائحة المرشحين للانتخابات الجماعية، فكان جوابه هادئا وعلى قدر كبير من الديبلوماسية والمراوغة محاولا أن يقنع صديقه القديم بأن سنة الخلق هي التطور والتغير، وأن المراجعات الجذرية التي أقدم عليها قد أملتها المتغيرات الكثيرة التي عرفها الوطن وعرفتها الساحة الدولية وخصوصا العربية.
أكد لصديقه القديم الألم الكبير الذي سببته له رؤية العديد من الإخوة العرب الذين صاروا – بعد نشوة نصر قصيرة – يلطمون الخدود النحيفة ويشقون الجيوب الضامرة ويندبون ويبكون ما ضيعوا بملء إرادتهم من آلاف المخبرين الساهرين على راحة الوطن والمواطنين، فأصبحوا بعد تغول الحرب التي أرادوها قصيرة خاطفة فإذا بها تقيم عندهم دهرا، فأصبحوا تائهين يتسولون هوية ويستجدون وطنا في غير البلاد العربية، لما تأكدوا أن العرب قد أصبحوا أقل من ظاهرة صوتية مؤقتة، وأنهم قد أظهروا الضعف حتى أثاروا شهية الافتراس في نفوس أجبن الجبناء.
لقد دفعته هذه الأسباب القوية والصور المحزنة إلى أن يبحث للمخبرين ومن يشغلهم عن بعض المعاذر والمبررات التي توجب وجودهم في حياتنا نحن العرب، فأفرغ ذاكرته من كل الصور السلبية المهينة التي ترسخت في ذهنه، والتي كان يرى فيها -زورا- أن المخبرين قد استسلموا فاغرين أفواههم تحت نعال الأغنياء الأقوياء غاضين أبصارهم عن كل ظلمهم وتجاوزاتهم.
كما حاول أن يقنع صاحبه أنه كان يرى –غير منصف – أن عدة المخبرين أكثر مما يحتاجه وطننا، وأن هؤلاء المخبرين يملؤون الحارات والحانات والمخافر، ويقطعون على الناس أنفاسهم وعطاسهم، بل يستنطقون حتى النوايا الباطنة وما تخفي السرائر، وأنهم من كثرة ملازمتهم ومراقبتهم للناس قد أصبحوا يسكنون الأحلام والمسام والمشاعر.
وقد عبّر لصاحبه عن ظلمه وتجنيه إذ كان يغضبه أن المخبرين في وطنه لا يتوارون من العيون بل إنهم معروفون ظاهرون، يراجعون بكل سفور تمتمات الشفاه، والحركات التي قد تصدر عن ساكني المقابر، ويلتقطون الكلمات والإشارات من آهات الآلام، ويفككون الألغاز والرموز من الكوابيس وأضغاث الأحلام، حتى كانت تحدثه نفسه وتدعوه إلى أن يحاذر من نفسه، وألا يجاهر بالاعتراض والتنديد والشتم بينه وبين نفسه، وقد استبد به الخوف في مرات كثيرة حتى هم أن يسلم أفكاره ووساوسه إلى المخبرين قبل ولادتها، علّه يسلم من كل المتابعات والمضايقات، وينال السلامة والرضا وهناء البال، وقد أبدت له الأيام ما كان جاهلا من فائدة المخبرين.
وقد كان لا يترك فرصة – أثناء جوابه – إلا واستغلها ليبرهن ويستدل على أن أفكاره كانت خاطئة ومغرضة وغير بريئة، فوجود المخبرين هو الذي يؤمن الإنسان على نفسه من غيره ومن نفسه، ووجودهم هو الذي يجعلنا ننعم بعميق المنام ونتخم بوديع الأحلام، كما يجعل من البلاد قلعة حصينة آمنة لا يتطرق إليها الخوف أو القلق.
وبعد سنوات طوال من خدمة المخبرين واستخدامهم ومراكمة الثروات والاستمتاع بالطيبات، وجدوا في جيوب أكفانه وصية دبجها بعبارة أبي الحسن الشاذلي : "ربي خذني إليك مني، وارزقني الفناء عني، ولا تجعلني مفتونا بنفسي محجوبا بحسي" ونصح أهله وأولاده وأحفاده بألا يتورطوا في مستنقع السياسة، وأن يكتفوا ببحيرة الاقتصاد والتجارة وألا يدخلوا في حرب مع الدين أو الأفكار المختلفة وعدم الاندفاع الكلي إليها والانجراف التام وراءها، ودعاهم إلى حب الأفكار الحبيبة هونا ما عسى أن تصبح بغيضة يوما، وإلى بغض الأفكار الكريهة هونا ما عسى أن تصبح حبيبة يوما ما.