من أحدث المقالات المضافة في القسم.

فاطمة صالح باهميم.
عدد المشاركات : 18
1444/10/28 (09:38 مساءً).
عدد المشاهدات :: ﴿﴿1240﴾﴾

للأماكن مشاعر.
قد ترتاح لبيت شعبي ولمدرسة على تل في قرية نائية، وتنفر من قصر، ومن مدرسة بُنيت على أحسن فن العمارة المدرسية، فلماذا ؟
قد يكون أنين المكان من إنسان غير جدير به، وحنينه دوما لإنسان راحل: (نحن نشكِّل مساكننا، ثمّ تشكِّلنا مساكنُنا).
فللأماكن مشاعر، لا تختلف عن مشاعر الإنسان، إلا أنها أكثر براءة، وحظها أن يكون حاقد بغيض قد سكنها فلوثها، ومد جراثيمه لها، وجعلها تبكي بدموع يراها الشفافون ويُعمى عنها الخبيثون، وفي صمتها صمت المكلوم، والعاجز، والحيران والمخنوق.
أعتدنا أن نتهم المكان بأنه كئيب موحش مخيف، ولكن لم نتساءل أبدا من المسؤول عن هذه الكآبة والوحشة ؟
ألم تجرب أن تسمع لشكوى مكان من سكانه أو ممن مر عليه ذات يوم وترك آثاره ومشاعره الحاقدة وأخلاقه الساقطة ؟ فلا تبحث عن علة في المكان بل ابحث عن علة اسمها انسان، أوصل دائه إلى قواعد بنيانه.
حين قام الأسبان بحروب الاسترداد التي انتهت سنة 1492 باستسلام غرناطة، قامو بتحويل مساجدها إلى كنائس وما زالت هذه المساجد إلى يومنا هذا كنائس ومع ذلك تبقى شاهدة على ما كان، قال أبو البقاء الرندي في نونيته الشهيرة:
حيث المساجد صارت كنائس ما • • • فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة • • • حتى المنابر ترثي وهي عيدان
مبنى قديم يتعذر بعض ساكنيه بأنه سبب في تأخرهم وتقادمهم، ورحل رب المكان، وُكتب أن يكون للمكان رب جديد، أبلى بلاءا حسنا في تغييره فألبسه ثوبا قشيبا، وزيّنه بمختلف أشكال الحُلي، ونزع منه البراءة والطيبة والحب والأمان، شاة أرضعتها ذئبة، وتاريخ تحول إلى قصة مدبلجة، وارتياح راحل.
زينة باهتة مضللة تُخفي فوضى وعبث وسموم حية رقطاء، فلا تلتصق بالجدار؛ لأن سمها يتسرب إليك ويصعق قلبك مع مرور الأيام، ويُفقد حماسك، ويُجهد تفكيرك، ويجعلك بين حفرة وتل من الرمال.
نعم المكان يبكي وسبب بكائه الإنسان، بقسوته وجبروته ونكرانه لكل معنى جميل.
للمكان مشاعر فقد يكون ناكرا للجميل لا تحتفظ ذاكرته إلا بكل موقف سيء، ويحول كل المواقف الجميلة إلى ساحة معركة ليس بها إلا رائحة الدم ووجع القتل، ولا ألوم المكان فهو يشتكي ممن يسكنه الذي حطم كل معلم جميل، وأشاد صنم النكران، فكان ذاكرا وعابدا له.
كيف نسيت أياما خاليات كنت بيننات • • • شتكي النائبات بدموع سخيات وتتململ
تتلون كالحرباء ولونك فيه أصفرار • • • وتعب الخير من خزائن علمنا وتنهل
وللمكان مشاعر فقد يكون خائنا وغدارا ومنافقا وجبانا يتوارى منك يهرب بعينيه إلى أي مكان فهو لم يتعلم من سكانه إلا الخيانة والغدر، وكلما نظرت إليه يهمس في صوت مجروح قد كان هنا من آذاني بغدره، وحتى عندما يرحل تبقى مخالبه مغروسة في قلبي تدك حصون صدري.
فللمكان مشاعر لا تقل عنك وعني، يعلوه الحزن وتُغرقه الدموع، فمن يسكنه لا يعرف كيف يعيش الفرح ولا كيف يخلقه.
وللمكان مشاعر فقد يعلوه الخوف والتوتر، فمن يسكنه لا يعرف إلا أن يكون متآمرا محاربا، يخطط كيف يدمر من حوله.
وللمكان مشاعر فقد تشم رائحة وألوان الفساد الأخلاقي والمهني؛ لأن من يسكنه لا يعرف من المهنة إلا المكسب المادي، ولا من الأخلاق إلا أن يكون نمّاما ومغتابا، وكاذبا ومتحايلا، وغاشا وسارقا، فأي عناء وأي دمار يعيشه المكان وفي داخله هذا الكم الهائل من الفساد في شخوص تعيشه ؟ وإذا فكر بعضُ ساكنيه في إزالة ذلك الفساد، بصبغه بألوان زاهية، وإنعاشه بعطور غالية؛ سيدركون أن الجيفة لا تُعطر، والسواد لا يحجبه البياض.
وللمكان مشاعر، فقد ترى هذا التخبط والتردد والضيق الذي يجعله بين السماء والأرض؛ لأن من يسكنه كما قال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
فكيف لو اجتمعت كل تلك المعاني في مكان واحد من نفس واحدة ؟ فليس لك إلا تجتث أذرع ساكنها لتقتلعه أو تحرقه؛ فلربما تعود الحياة إلى المكان، أو أن تشد الرحال وترحل إلى أماكن قد يستصغرها ويحتقرها الجاهل، ولكن هي كالثلج الناصع البياض، استمدته من ساكنيها الأنصع أخلاقا وعلما وتقوى.
وللمكان مشاعر ترى السماحة والطيبة والهدوء والاستقرار والأمان فيها فترتاح لهدوئها واستقرارها، هذا بعض من أخلاق ساكنيها، فليس المكان إلا كصفحة الماء الفضي، فهو إنعكاس صادق لساكنيه.
للأماكن ضياء مستمد من ضياء النفوس والقلوب التي سكنتها، فإذا كانت النفس مظلمة فلن تجد نورا وإن أشعلت الدنيا لترى هذا المكان.
وقد تضيق الأماكن بتفاهة عقول ساكنيها، فجهلهم يستعصي على العلم إبادته، فهو مزيج معقد من اللهو وسوء الأخلاق والسرقة والتآمر.
فلا تعيد صياغة وترتيب المكان إذا كنت فوضويا متهالكا مدمرا من الداخل، فنفسك المتراكمة والمتداخلة سيراها الناس في المكان الذي تسكنه، فهو ليس إلا إنعكاس لفوضويتك وشتات نفسك.
وللمكان رائحة الورد، فليس للورد إلا رائحة صنعها الله وألبسها الصدق والهدوء والسكينة، فتسربت إلى النفس بلا عناء أو استئذان ويزيدها نشوة وحياة الأتقياء الأوفياء الصادقون المراقبون لله.
|| فاطمة صالح باهميم : عضو منهل الثقافة التربوية.