من أحدث المقالات المضافة في القسم.

د. عبدالخالق سيد أحمد أبو الخير عدد المشاركات : ﴿27﴾ التسلسل الزمني : 1444/03/01 (06:01 صباحاً) عدد القراءات : ﴿5522﴾

التهيئة النفسية والذهنية والجسدية للعمل الصالح : سيد الشهور أنموذجا.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فإن سنة الله تعالى في عباده بالتدرج تأبى أن ينقلب الإنسان انقلاباً كلياً بمجرد الإعلان عن دخول الشهر، بحيث يلازم القرآن وقد كان هاجراً له، ويطيل المكث في المسجد وقد كان لا يعرفه إلا في الفريضة، ويتخلى عن فضول النظر والكلام والطعام وقد ألف ذلك واعتاده طوال العام. إنه ليس آلة يدار محركها بمجرد إهلال الهلال، بل يحتاج إلى تهيئة ورياضة تعينه على أن يستثمر كل رمضان، فلا يضيع عليه لحظة منه، لكن ما يلبث طويلا حتى يسأم، لكن العلة فيه هو؛ لأنه لم يتهيأ للشهر، ولم يُعِدَّ عدته له، ولم يروض نفسه على الطاعة قبل دخوله..
وفي كل المسابقات الثقافية والرياضية والعسكرية وغيرها لا بدَّ من فترة للتدريب كافية، ومن نافس بلا تدريب فإنه يخسر ولا يربح، ويفشل ولا ينجح.
وكثير من الأعمال في رمضان هي أعمال بدنية تحتاج إلى صبر وتحمل، فمن دخل عليه الشهر ولم يروض نفسه لها فإنه لن يخلو من أحد حالين:
1- إما أن يملَّ من مغالبة نفسه، وقهرها على القراءة ونوافل العبادات، فينقطع عن المتسابقين، ويكتفي بالفرائض مع تقصيره فيها، ويحرم بركة رمضان وفضله، وهذا حال كثير من الصائمين إن لم يكن أكثرهم. تجد الواحد منهم في أول رمضان يحافظ على التراويح، ويقرأ كثيراً من القرآن، ثم يمل ذلك، ويتعب من المجاهدة، فيهجر القرآن، ويتثاقل عن النوافل، وربما فرط في بعض الفرائض، وأمضى أوقاته فيما يضره ولا ينفعه حتى يمضي الشهر وهو بائس يائس خاسر.
2- وإما أن يستمر في مجاهدة نفسه، وقهرها على القراءة والصلاة وأنواع القربات ولو لم تجد لذة لذلك؛ حتى تألف الطاعة بعد مرور أيام وليالي ضاعت عليه في مغالبة نفسه، وهذا خير من الأول.
وخير منهما من لا يدخل عليه رمضان إلا قد روض نفسه على أنواع من الطاعات. ينتظر هلاله ببالغ الصبر وغاية الشوق؛ لينال بركة الشهر، ويستثمر أوقاته، ويغرف من حسناته.
وتأملوا - حكمة الشارع الحكيم حين شرع الصيام في شعبان، حتى كان أكثر صيام النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان، وفي بعض الروايات أنه كان يصوم شعبان كله إلا قليلا منه، وفي روايات أخرى أنه صام شعبان كله.
فكان الصيام في شعبان مقدمة تهيئ المكلف لصيام رمضان، ومعلوم أن من أكثر الصيام في شعبان كف عن كثير من فضول الكلام والنظر وغيرها، وأكثر من قراءة القرآن، وبكر للمساجد؛ لأن صيامه يمنعه مما كان يفعل وهو غير صائم، فلا يدخل عليه رمضان إلاّ قد روض نفسه على الكف عن الحرام والفضول، وألف الصيام والقرآن وكثرة الذكر والصلاة. فروِّضوا أنفسكم -أيها الأخوة- على العبادة أياماً؛ قال عليه الصلاة والسلام «إذا كَانَ أَوَّلُ ليْلَةٍ من شَهرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّياطِينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أبوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ منْهَا بَابٌ، وفُتِحَتْ أَبوَابُ الجَنَّةِ فلمْ يُغْلَقْ منْها بَابٌ، ويُنَادِي مُنَادٍ: يا بَاغِيَ الخَيرِ: أَقْبِلْ، ويا بَاغِيَ الشَّر: أَقْصِرْ، ولله عُتَقَاءُ مِنَ النَّار وذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» رواه الشيخان.
كل عمل يريد صاحبه أن يحقق نجاحا فيه فإنه يحتاج إلى قناعة به، واستعداد نفسي لهن وقدرة جسدية على تحقيقه، والتهيئة النفسية والذهنية والجسدية للعمل الصالح في رمضان قبل دخوله سبب لقوة العزم، والجد في استثمار رمضان، والاجتهاد في أنواع الطاعات.
ومن التهيئة النفسية إزالة ما يشغل النفس، ويقلق الفكر، والبعد عنه، فإن كان لا بد منه فيؤجل إلى ما بعد رمضان، وتعطيل المجالس والدوريات التي اعتادها الناس وهي لا تخلوا من قيل وقال ولغو الكلام، وجعل هذا التخفيف لأجل استثمار سيد الشهور، وإقناع النفس أن رمضان موسم إن فات الربح فيه فلا يمكن تعويضه، وأنه أيام معدودات سرعان ما تنقضي كما انقضى في سالف الأعوام، وأنه إن أدرك هذا الرمضان فقد لا يدرك رمضان القابل، وقبل ذلك وبعده عقد العزم على البعد عن المحرمات والملهيات من فضائيات وغيرها؛ فإن مواقعة المحرم سبب للصدود عن الطاعة واستثقالها.
إن هذه التهيئة النفسية تقنعه بأهمية رمضان، وخشية فوات فضله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيهِ رَمَضَانُ ثمَّ انْسَلَخَ قَبلَ أَنْ يُغْفَرَ لَه، رواه الترمذي.
ومن التهيئة الذهنية الانكباب قبيل دخول الشهر على قراءة فضائل رمضان وصيامه وقيامه، وفضائل قراءة القرآن، وفضائل العشر الأخيرة، وفضائل ليلة القدر، وتدبر ما ورد في ذلك كله من الآيات والأحاديث، ومعرفة ما فيها من الفقه والعلم؛ فإن معرفة فضل ذلك تحفز النفس إلى تحصيله، وعدم إضاعة شيء منه.
وللعلماء مؤلفات وأبواب في مصنفاتهم أفردوها في فضل رمضان وصيامه وقيامه وقيام ليلة القدر، وجمعوا النصوص الكثيرة فيها، فحري بمن أراد أن يحفز نفسه على العمل الصالح أن يطالعها قبل دخول الشهر؛ ليكون في شوق بالغ إلى تحصيل هذه الأجور العظيمة، وليطالع حال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وحال سلف هذه الأمة، فلعله يتأسى بهم.
وإذا كان التنافس بين الأسواق محموماً، وكل سوق في مقتبل رمضان يرغب الزبائن في الشراء منه دون غيره بإصدار قوائم بالبضائع المخفضة، والناس يختارون ما كان أقل سعرا ليوفروا شيئاً من المال، ويُولُون ذلك عناية فائقة، فلأن يعتني الناس بما هو أهم من ذلك أولى؛ وذلك بمطالعة ما ورد في رمضان من الأجور العظام؛ لئلا يفرطوا في شيء منها.
ومن التهيئة الجسدية لاستثمار رمضان ترويض النفس قبل دخول رمضان على التبكير للمسجد، والمكث فيه طويلاً قبل الصلاة وبعدها، والمحافظة على نوافل العبادات، والإكثار من الذكر وقراءة القرآن، وكثرة الصوم في شعبان؛ حتى لا يدخل رمضان إلاّ قد روض نفسه على الجد في الطاعات، والمنافسة في اكتساب الحسنات.
ومن التهيئة البدنية التخفف من الصوارف والمشاغل، وسرعة إنجازها قبل دخول الشهر، وتأجيل ما لا يمكن إنجازه، وتوفير ما يحتاجه البيت كل الشهر وللعيد قبل دخول رمضان؛ ليبتعد عن الأسواق ولغطها ومنكراتها طيلة رمضان؛ وليسلم مما يخرق صيامه؛ وليتفرغ لعبادة الله تعالى في رمضان كله، فلا يضيع منه شيئاً أبداً.
اللهم بلغنا رمضان، وسلمه لنا، وسلمنا له، وتسلمه منا متقبلاً.
هذا ما تيسر إيراده، وتوفر إعداده، وأعان الله على ذكره، إن أصبت فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وعفوا إن أطلت، وعذرا إن قصرت وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|| د. عبدالخالق سيد أحمد أبو الخير : عضو منهل الثقافة التربوية.