بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. أكرم محمد مليباري.
إجمالي القراءات : ﴿4910﴾.
عدد المشــاركات : ﴿26﴾.

الجدل العقيم مثل الصوت الذي يصدره الخلاط الذي يضع فيه المرء الفواكه المفيدة والطازجة، ليصنع عصيراً لذيذاً؛ غير أنه يترك الخلاط يعمل بلا توقف، حيث يكون صوت الخلاط المزعج هو الحاضر فلا هو يوقفه ليصب العصير ويستمتع بمذاقه، ولا هو اختار ترك الفواكه في مكانها، وأكلها من غير عصر. فالجدل العقيم الذي لا يوصل إلى نتائج إيجابية، هو في الحقيقة أشبه بعملية تصفية للأفكار وقتل فعاليتها، وعدم الاستفادة من معطياتها وإضاءاتها، حيث يكون مصيرها الذوبان، إلى الأبد، بسبب طول الجدال الذي يفضي في الغالب إلى شحن القلوب، وإخراج ضغائن النفس، من قبل المجادلين، وضياع الحلول الممكنة وتلاشي الهدف المراد الوصول إليه، تماماً مثل ترك الفواكه في الخلاط، باستمرار عمله مما يسبب الإزعاج، والحرمان من العصير اللذيذ !

■ طاقةٌ مهدورةٌ وشعور بشيء من التهميش.
وكثير من الناس يجادل ليس بهدف الوصول إلى حل ممكن، للقضية موضع النقاش، ولكن لهوى وشهوة في نفسه، قد تشعره بانتصار ذاته على ذوات من يجادلهم، أو إظهارٍ لبلاغته في الكلام ونيل إعجاب من في المجلس. ولكن هو في واقع الأمر يستنفد طاقة وجهداً، بلا طائل، كان من الممكن جداً أن يستفيد منهما بشكل أفضل، في تلمس الخيط الذي يوصل إلى حل أو اقتراح يناهز الصواب، بالحوار الهادئ، والتريث في إصدار الأحكام، بعيداً عن الصخب الذي يسببه كثيرٌ من الجدل.
مما يتراءى لي أن هناك دائماً فجوةٌ في غاية الدقة بين الاعتراف بالخطأ، والإقرار باقترافه، والتأرجح بين سد الفجوات والهفوات؛ بالبحث عن أخطاء للطرف الآخر، تكون بمثابة إسعاف فوري؛ يستخدمه المجادل لإفحامه وتسكيته، بينما تظل أخطاءه هو بعيدة عن الضوء، أو الإنكار الكامل للخطأ، والذي يُعد في نظري أسوء من سابقه.
وقد لا يقف الأمر عند ذلك الحد؛ بل يتهم المجادل أحياناً الطرف الآخر بأنه متحيّز ضده، أو أنه انتقائي لأشياء أو أحداث قد يذكرها الطرف الآخر على سبيل الدفاع عن موقفه، أو الرد بالمثل، أو نوع من التبرير وهكذا. وكل ذلك لا يمثل نوعاً من الجمود وضيق الأفق فحسب؛ بل جهل مركب، لأن الجدل العقيم لا يميت الحلول والأفكار التي يمكن استغلالها في إيجاد الحل الممكن والمناسب للمشكلة، فقط بل يقتل الوقت في تطاحنات ومناظرات، تعرقل مسار الحديث الصحيح، وتجعله غير ذي معنى، وتصبغ الجو العام للمجلس بصبغة العداوة والجفاء، وتجعله أشبه بجو المعارك !

■ بعضُ المسلّمات التي يعتقدها بعض المجادلين.
وكثيراً ما يلاحظ على من اتخذ من الجدل العقيم منهجاً وأسلوباً في التواصل مع الآخرين؛ نوعاً من التصلب في التفكير؛ حيث يعمدُ كثيراً إلى إطلاق الأحكام بشكل نهائي وعام على الأشياء والأشخاص؛ فيستخدم عبارات مثل : (الفكرة الفلانية غير قابلة للتطبيق، الكلام في الموضوع الفلاني ليس منه أي فائدة، فلان غبي لا يحسن عمل أو فهم أي شيء، المشكلة الفلانية لا يمكن حلها بأي شكل من الأشكال. وهكذا) ولا يخلو كذلك وصفه من المبالغات والإضافات غير المستساغة والحقيقية، والرؤية المبتسرة، والسلبية في التعامل مع الآخرين هي كثيراً ما تكون شاهدة على أشخاص مثل هؤلاء. ويلاحظ كذلك عدم اكتراثهم بالجديد، من الأفكار ومما يمكن أن يكون له إضافة مفيدة لحل من الحلول، بل كثيرٌ منهم يتشبثون بالماضي، ويشعرون بالحنين له بشكل مستمر؛ حيث يلاحظ ذلك في أغلب تصرفاتهم وكلامهم، وحكمهم على الأشخاص والسلوك، ويكون ذلك بناء على معطيات قديمة، وغير دقيقة.

■ روحُ الأنانية تطغى في أكثر الأحيان بين المجادلين.
والغالبية العظمى ممن يجادلون جدلاً عقيماً، يأخذون الكلام والأفعال على عواهنها، بدون شيئ من التمحيص والتركيز، ويبنون على ذلك أفكارهم ومعتقداتهم بشكل ثابت، ومتحجر؛ فلا يقيمون لاختلاف الآراء، وتعدد الرؤى أي وزن، ولا يحترمون في أغلب الأحيان وجهات النظر الأخرى والتي يكون لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالموضوع، وربما ينتهي الجدل بدون أن تؤخذ الآراء الأخرى في عين الاعتبار، ويبقى كل الأطراف متمسك برأيه حتى ولو كان غير صحيح. ومما يؤسف له أن الجدل يترك مواقف تركم كثيراً من الأحقاد والكراهية في نفوس المجادلين، وتحول العلاقات إلى تحزبات، وتخلق تحيزاً واضحاً، يستمر أمداءاً وفترات طويلة من الزمن، وتشيع الرغبة في إلغاء الطرف الآخر وإلجامه بحيث لا يجد له مجالاً حتى للدفاع عن نفسه في أغلب الأحيان.

■ المنهج ُالربانيُ هو المرشد الأقوم.
والإشارة الحكيمة التي وردت في القرآن الكريم، ترشد إلى التوسط والتعقل في التواصل مع الآخرين، إذا تحوّل الكلام إلى جدل واحتدم النقاش؛ بأن يؤطّر المجادلون كلامهم بإطار الحسنى، والمحافظة على أدبيات الحوار قال الله تعالى : (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل : 125)، ومن ذلك اتخاذ الكلام اللين والهدوء، وعدم التلفظ بالكلمات المقذعة، وأسلوب الأوامر، أو ألتراس للمجلس، كأن لا يترك مجالاً للآخرين بأن يدلوا بدلوهم في الموضوع قيد النقاش، ولا يحترم تعدد الثقافات ومستويات الفهم لبقية الحاضرين، مما يترك في نفوسهم الإحساس بالدونية، والشعور بالنفور، من المتحدثين، والميل إلى مغادرة المكان؛ اتقاء لأي مكروه قد يقع !

■ لم يستلذ بعض الناس بجدال لا فائدة منه ؟
قد تكون هناك عدة أسباب لميل بعض الناس إلى جدالٍ عقيمٍ لا يساعد على زرع فوائد، أو وضع نقاط على حروف أو حتى تحتها؛ وقد يعود إلى الشعور بالتهميش وعدم الاهتمام من قبل المجتمع لهؤلاء، فهم بذلك - أي بجدالهم - يحاولون جذب الانتباه من قبل الغير لهم، لما يشعرون به في نفسياتهم من إحباط وعدم فاعلية ودور بارز يؤدونه، يثبت كياناتهم، ويشبعون به حاجاتهم النفسية والاجتماعية ويعزز انتماءاتهم، أو تحقيق ذواتهم، فتلك الاحتياجات تتفجر وتظهر على السطح، على شكل انفعالات حادة، وقد يكون أحد أشكالها ذلك الجدل غير المجدي.

■ ما الذي يمكن أن يخفف من حدة انفعال المجادلين ؟
قد لا تكون مهمة سهلة من قبل أحد الأطراف في تخفيف حدة النقاش والجدال الذي يبتعد كثيراً عن تحقيق الهدف المرجو؛ وذلك لعدة أسباب نذكر منها ما يلي :
1- إصرارُ المجادلين أو أحدهم على صواب ما يقولونه، وقد يكون ذلك من أكثر الأسباب وأشيعها بين المتجادلين، مهما كانت الأسباب.
2- محاولة أحد المجادلين الإيقاع بالطرف الآخر، والعمل على إظهاره بأنه مخطئ وغير ملم بالمشكلة أو الموضوع الذي يتحدثون عنه، أو أنه مثلاً لا يتمتع بالثقافة والعلم الكافيين، الذين يتمتع بهما هو وهكذا.
3- محاولة قلب الحقائق وإيجاد التحيز ضد الطرف الآخر، أو العمل على كسب أكبر عدد من الأصوات؛ مما يساند ويدعم موقف أحد المجادلين، أو الحجة والموضوع الذي ينافح عنه، وقد لا يكون بالضرورة صحيح، وربما يفتقر للموضوعية.
4- عدم الإلمام بشكل كامل بالموضوع الذي يتم مناقشته من قبل أحد الأطراف، أو ممن يريدون تخفيف جو التوتر الذي يسببه الجدال الحاد بين المجادلين؛ والذي قد يجعل من يريد التدخل لتخفيف التوتر، يحجم عن اتخاذ ذلك القرار بشكل فوري، اتقاء الوقوع في إحراجات.
5- قد يكون ذلك الجدال هو في واقع الأمر تصفية حسابات بين المجادلين، يظهر على شكل جدال عقيم، ينفّس من خلاله المجادلين عن أحقاد وترسبات من الماضي، كوّنها كل منهم عن الآخر أو شيء من هذا القبيل.
6- وأعتقد أنه لا بد لنا ونحن نفكّر في ثمة موضوع؛ أن لا نغفل جانباً مهماً وهو أن هناك عوامل كثيرة تتحكم في المجادلين، ومنها : كونهم أناس يؤثّرون ويتأثرون بالمحيط الذي يعيشون فيه، ومن ذلك التربية التي تلقوها منذ نشأتهم، والبنية الثقافية التي يمتلكونها، والتي تراكمت وتشكلت عبر الزمن، ونوعية العلاقات التي لديهم وما إذا كانت هناك هواجس وطموحات وأحلام لم يحققوها، كل ذلك يسهم في بلورة الشخصية العامة وأبعادها لديهم.

■ ما هو الحل ؟
قد لا يكون هناك حل كوني يمكن اتخاذه، أو ليس هناك ما يمكن أن يسمى حلاً لقضية كهذه، لا سيما وأن كثيراً ممن يهدرون أوقاتهم وطاقاتهم في الجدل العقيم، لا يرون في ذلك أدنى مشكلة، بل يعدون ذلك من باب التسلية وقتل أوقات الفراغ! أو للأسباب التي ذكرناها.
ولكن يمكن إبداء النصح والتوجيه بطريقة مناسبة لهم، أو دعوتهم إلى التزام الهدوء وعدم التسرع في إصدار الأحكام على الأشخاص أو العلاقات، ودعوتهم إلى رؤية أشمل وتبصر أعم للأمور. وبمراعاتنا للظروف التي ذكرناها، قد نحافظ على أرضية مشتركة تجمعنا بهم عليها، ومن هنا يمكن أن نؤثر الإعذار على اللوم، والتسامح بدلاً من أن نكن أحقاداً في أنفسنا تجاههم، وذلك شيء من كرم الأخلاق، وروح العفو والتكامل. والله ولي الأمر والتدبير.
image الفلسفة التطبيقية : فن المقاربة.