من أحدث المقالات المضافة.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : طارق فايز العجاوي.
إجمالي القراءات : ﴿7195﴾.
عدد المشــاركات : ﴿35﴾.

مفهوم الاختلاف : بين التباين والتأصيل ــ ورقة عمل.
■ بداية المتفق عليه عند أرباب الفكر أن اللغة والمعتقد والتاريخ والتقليد والمنتجات بشقيها الذوقي والمعرفي تشكل السمات العامة لأي ثقافة فالاختلاف بين ثقافة وأخرى تحددها هذه السمات وتشكل بمجملها ما يعرف بالظاهرة المحسوسة التي تميز هذه الثقافة عن تلك.
بالضرورة مفردة الاختلاف شاع استخدامها وأضحى لها مفهوما وذلك بفضل بعض العلماء وأرباب الفكر واصبح لها دلالة معرفية ذات أهمية لا يتجاهلها إلا غافل أو تجاوزه قطار المعرفة وهؤلاء المفكرين لم يفعلوا ذلك دائماً من خلال المفهوم ذاته أو تحت مسمى الاختلاف فالدلالة التي اكتسبت بعداً اصطلاحياً شاع استخدامه وانتشر كان نتيجة لتلك الجهود لذلك اصبح على علاقة بمفاهيم رديفة تثريه بطريقة غير مباشرة نذكر منها التأصيل والتحيز اللذين كانا الشغل الشاغل للباحثين وعلى شتى مشاربهم ولكلا منظاره ورؤيته وأساسه الثقافي بكل معطياته ولا شك أن هذا المفهوم على صلة وثيقة بمساقات بحثية شهدت رواجا في الأعوام الأخيرة وشهدت تطوراً ظاهراً مثل نظريات التلقي والدراسات والأبحاث ما بعد الاستعمارية .. الخ، إلى جانب علوم أصيلة عريقة كالدراسات الاجتماعية والنفسية بفروعها المعهودة وما أفرزته من نظريات بأبعادها وما نتج عنها من مصطلحات ومفاهيم وهذا كله ليس حكراً على ثقافة بعينها بل يشمل الثقافات الإنسانية بقضها وقضيضها وبما أنها في المتعدد ثقافات ذلك يحتم أن لكل ثقافة مزايا وخصائص يجعلها مستقلة مختلفة بالضرورة عن الثقافات الأخرى، إذن الأمر منطقي بمعنى أن لكل ثقافة خصوصية واستقلالية وهذا يحتم أيضاً اختلافها عن الأخرى من الثقافات آخذين بعين الاعتبار أن اختلاف الثقافات عن بعضها ليس بذات القدر وعلى العكس فقد يكون التجانس والتشابه والتقارب بين الثقافات أيضاً ليس على نفس القدر والمسافة فدرجة التجانس بين الثقافة العربية والفارسية ليست كالدرجة ذاتها مع الثقافة الفرنسية، وعليه فالتباين بين الثقافات ضرورة لا بد منها ولكنه يضيق ويتسع نتيجة عوامل عديدة نذكر منها الثقافي والتاريخي والجغرافي، إذن بالمجمل أن هذا التباين والتجانس ليس ثابتان بل متغيران نتيجة للعديد من العوامل والظروف، هذا الاختلاف اشبع بحثا ومن جوانب مختلفة وكانت نتيجة ذلك البحث المتعدد تراكماً معرفياً وعلمياً يشار له هنا (ثقافة الاختلاف) ويقابله (الاختلاف الثقافي) الذي يشكل موضوع تأمل ودراسة لثقافة الاختلاف أو تلك الثقافة الناتجة عن دراسة الاختلاف وحقيقة أن هذه ممكن أن تكون علما قائما بذاته إلا انه في الوقت الحاضر له عواقب ومخاطر وهى أيضا مغامرة غير محسوبة النتائج إلا انه غير مستبعد أن يصبح علما في المستقبل تفرضه ضرورات المرحلة.
على كل الأحوال إن استعمال كلمة ثقافة في ثقافة الاختلاف ذو دلالة للثقافة غير تلك المستعملة في الاختلاف الثقافي وضمن هذا الإطار اطلق عليه العلماء - ثقافة عالمة وهى بالتالي حاصل معرفي ناتج عن التأمل والاستنتاج والبحث، إذن هي ثقافة تتأتى من الإدراك المدقق والتعرف وبالمحصلة هي ثقافة ناقدة، وهذا المعنى تحديداً نرمي إليه حين نصف أحدا بأنه مثقف وهي ليست ثقافة ناتجة عن نشاط إنساني جمعي وشعبي وجماهيري كما هو أحد المعاني الأساسية لمفهوم ثقافة المعنى المستعمل هنا في عبارة الاختلاف الثقافي.
الواقع أن وجود اختلاف ضرورة لإنتاج ثقافة الاختلاف والمقصود هنا ليس الاختلاف بالمعنى الذي نعلمه جميعا أو المعنى البديهي للكلمة كاختلاف لغة عن لغة أو قوم عن قوم ولكن المقصود هنا هو ذلك الاختلاف الذي تعدى النواحي الواضحة الجلية وفيه أيضا تبرير لوجود قطائع ثقافية ومعرفية على صعد مختلفة وصور متعددة.
فإذا كان من المسلمات الاختلاف الحاصل بين الثقافات كاختلاف الثقافة الانجليزية عن العربية مثلا فإن قيام الشبه بين الثقافات هو أيضا حاصل لا محالة وذلك بحكم الانتماء للعائلة البشرية جمعاء كالثقافة العربية ومدى قربها من الثقافة الإيرانية مثلاً.
على كل الأحوال البعد والتشابه بين الثقافات ليست محل نقاش وجدال ولكن ما هو محل النقاش والبحث والجدال هو القول أن أوجه الشبه أو أوجه الاختلاف هي من الأهمية بحيث تعدل بالأوجه الأخرى المقابلة إلى حد قولنا أن دراسة ثقافة من الثقافات ينبغي أن تنطلق من ما علمناه من الاختلاف أو التشابه والعكس ليس صحيحا فان هناك من يرى أن أوحه الشبه بين الثقافات والمجتمعات البشرية هي اكثر من أوجه الاختلاف نظرا للجبلة البشرية وان ذلك يجب أن يكون المنطلق للبحث والمعرفة وللمشاريع الحضارية التي يجب أن تكون على هذا الأساس وهذا المبنى وعلينا أيضا أن لا نتردد في تبادل تلك المنتجات الثقافية على اختلافها بحكم ارتفاع المعدل في التشابه الإنساني، وبالمقابل هناك من يرى عكس ذلك تماما ويعتبر أن الثقافات الإنسانية هي متباينة اكثر منها متقاربة وان هذا التباين ظاهرة صحية وليس اقل أهمية من التشابه وعليه فان التبادل الثقافي أو الحضاري عليه أن يبنى على هذه القواعد والأسس وليس العكس.
إذن فان المحاورة والسجال بين التيارين لم يكن مبني على أساس معرفي أو علمي بصورة خالصة وإنما خالطه الكثير من النزعات والميول سواء كانت سياسية أم عقائدية وهذا حدى بهم إلى الجنوح كلا مع هواه ومع ما يعتقد.
الثابت والمثبت أن ثقافة الاختلاف تنتمى إلى ذات البوتقة التي تحوي بمجملها مصطلحات ومفاهيم في الثقافات المختلفة فعلماء الغرب بقيت تشغلهم قضية الاختلاف الثقافي على مر مراحلها المختلفة مما نالت من تطور حضاري ولم يكن ذلك محصورا بالعصور الوسطى - كما يشير البعض ويعتقد - فهي كانت على الدوام في موضع المتلقي والمستقبل للمؤثرات الحضارية الأخرى اكثر من كونها المصدر لتلك المؤثرات وهذا يدركه كل قارئ للتاريخ جيدا ويمكن الإشارة إلى ذلك الاختلاف من باب التدليل لا اكثر. ففي العصر الحديث وهو ليس ببعيد عنا وهذا الشاهد يخص الفن وهو ما وقع من تباين بين النزعة التجريدية في الفن الإسلامي والشرقي عموماً والميل والنزوع إلى المحاكاة في الفنون الغربية وكذلك الاختلاف الأساسي بين ثقافتين كاليابانية والصينية من جانب والثقافات الغربية من جانب آخر والشواهد كثيرة لا يمكن إجمالها بمقال. أما شواهد الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية أيضا كثيرة فقد عرفت حضارتنا الاختلاف وبرزت مصطلحات ومفاهيم كثيرة ولكن اشهرها : (أدب الاختلاف وفقه الاختلاف) وهناك علماء أجلاء تناولوا ذات الموضوع في العصر الحديث ووضعوا فقه الاختلاف ضمن أنواع خمسة من الفقه هي :
1- فقه المقاصد.
2- فقه السنن.
3- فقه الأولويات ومراتب العمل.
4- فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد.
وإن الذين تناولوا هذا الموضوع في إطار الطرح الإسلامي يقصدون بالاختلاف ما يحدث بين المسلمين من تباين في وجهات النظر فيما يخص الدين أولاً وفى موقفهم من الثقافات والأديان الأخرى ثانياً، فالاختلاف هنا هو اختلاف العلماء أو اختلاف المذاهب والفرق الإسلامية تحديدا في المسائل الفقهية وفى مسائل العقيدة وما يتصل بذلك من أمور الدين والدنيا وعلمائنا اجمعوا على أن هذا الاختلاف على قسمين :
● الأول : المذموم وهو ذلك الاختلاف المؤدى إلى زرع الفرقة والتنازع ويشار عادة إليه بالخلاف دلالة على تمييزه عن الاختلاف.
● الثاني : المحمود وهو يصدر عن توافق في الأصول ويرمي إلى تحقيق ذات الأهداف ولقد تناوله ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين عن الاختلاف فقال : (وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وقوى إدراكهم. ولكن المذموم بغى بعضهم على بعض وعدوانه)، وعليه يدرك كل ممعن ومنعم للنظر أن شرعية الاختلاف - ما يخص حضارتنا العربية الإسلامية - عندما كانت في أوجها باعتقادي كان الاختلاف مقبولا ولكن حين اصبحنا ضعفاء أضحى الاختلاف الداخلي غير مقبولا على الإطلاق وذلك لكى نقف صفا واحدا من المتربصين والأعداء، أما محاورة الآخر فضرورة وضرورة ملحة ولأسباب كثيرة يطول شرحها على اعتبار أن الإسلام فتح باب الحوار على مصرعيه وبأرقى شروطه ومقوماته قال تعالى : (وجادلهم بالتي هي احسن) على كل الأحوال أن موضوع الاختلاف الثقافي كان وما زال بصمة في التاريخ الإنساني ويصعب التشكيك فيه وبأهميته وهو فعلاً بحاجة إلى تقصى وتأمل وبحث وكافة الدراسات أجمعت على ذلك وسيبقى القضية الإشكالية بأبعاده المختلفة وسيبقى بابه مفتوح على مصرعيه، والله من وراء القصد.