أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

فوائد لغوية ﴿22223﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. محمد عبدالله الشدوي.
إجمالي القراءات : ﴿7546﴾.
عدد المشــاركات : ﴿34﴾.

فإنه في يوم من أيام الله المباركة عدت من صلاة الفجر بعد أن حظيت بالصلاة في جماعة المسلمين، وبالحفظ في ذمة الله حتى أمسي تناولت كتاب الله الكريم لأقرأ لي ما تيسر منه في وقت لم يزل الفكر فيه مرتاحًا من صخب الحياة المشتت، وشغلها الذي لا ينبت وقد دعوت ربي من قبل أن يوفقني وينير بصيرتي نحو علم أو طرف علم لم يسبقني له أحد وإن سبقني إليه أحد أن يجعل لي فيه نصيبًا كبيرًا من الإيضاح والبيان.
ولما شاء الله تعالى أن يسوقني إلى ذلك بسوط المشيئة، وبينا أنا أقرأ في كتاب الله خطر في ذهني سؤال عجيب - والأسئلة مفاتيح العلم - كما يقال.
■ وكان مفاد السؤال الذي لمع في ذهني :
ما سر فواتح السور وابتدائها بحروف مقطعة أو بحمد وثناء أو بسؤال أو نداء أو ما أشبه ذلك ؟ ولماذا كان حسنًا بديعًا وداعيًا إلى الاستماع لما يجيء بعده من الكلام ؟ وهل الكلام العربي في شعره ونثره مجبول على مثل هذا الأسلوب ؟
أخذت المصحف الشريف ورفعته على الرف في مكتبتي الخاصة ثم أخذت القلم محاولاً الإجابة عن هذه الأسئلة أو قل التساؤلات المهمة، إلا أن وازعًا في نفسي طرح علي سؤالاً محرجًا كبح جموح نفسي والانخراط في الإجابة مباشرة عن التساؤلات الثلاثة السابقة.
يقول السؤال : من أنت حتى تبحث في سر الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم ؟! أو كلما تعلمت نزرًا من العلم أخذت العزة بالإثم لتبحث في مثل هذه الأمور التي استغلقت على من هو أعلم منك فما كان أمامه إلا أن يعترف بعجزه قائلاً : الله أعلم بمرادها !
ورغم ذلك السؤال الحائر المحير والمؤثر في النفس في آنٍ معًا إلا أنني قلت : لا بد وأن بكون لذلك سر يجب أن أشق عبابه ولو كان كل من وقف أمام موج البحر وهوله خاف وأحجم ما جرت في البحر سفن قط، ولظللن رواكد على ظهره فساقتنا عند ذلك ريح العلم المبارك فاطلعت على أقوال العلماء في ذلك الابتداء المعجز فإذا منهم من يقول في ذلك الابتداء بالحروف أو بالحمد والثناء : إن ذلك " يقرع أسماع الناس بشيء بديع ليس لهم بمثله عهد ليكون ذلك داعية للاستماع لما بعده. وجعل أكثر الابتداءات بالحمد لله لأن النفوس تتشوق للثناء على الله فهو داعية للاستماع " (1) قلت في نفسي : هذا فتح من الله تعالى لموضوع هو في غاية الأهمية ليكون بإذنه نواة لبحث أكبر من قبلي أو قبل غيري للنظر بعين البصيرة وقلب المتبصر في إعجاز اللغة العربية - التي أنزل الله بها قرآنه العظيم - من خلال براعة الابتداء وحسن الاستهلال وبراعة المقطع وحسن الختام إلا أن المحاولات الأولى لا بد أن تكون بعيدة عن كلام الله المنزه حتى لا أقع في ذنب التقصير، أو مغبة الخطأ فكان الشعر هو المنهل الذي يمكن أن أمخر عبابه للوصول إلى بغيتي من غير ذنب ولا مغبة.
والله أسأل أن يلهمني الصواب، وأن يرشدني إلى طرف من العلم الذي فيه خير لي ولأمتي الإسلامية العظيمة.

● التعريف.
قيل لبعض الحذاق بصناعة الشعر : لقد طار اسمك واشتهر فقال : إني أقللت الحز، وطبقت المفاصل، وأصبت مقاتل الكلام، وقرطست نكت الأغراض بحسن الفواتح والخواتم "وهذا النص أورده ابن رشيق في عمدته 1/388 ومن قول ابن رشيق السابق يتضح لنا أن الفكرة اللطيفة، وإصابة عيون المعاني، والحذق والتخلص إلى حبات القلوب؛ إنما يكون ذلك كله بحسن الاستهلال والمقطع لأن "حسن الافتتاح داعية الانشراح، ومظنة النجاح".
و "خاتمة الكلام أبقى في السمع، وألصق بالنفس لقرب العهد بها فإن حسنت حسن، وإن قبحت قبح والأعمال بخواتيمها كما قال صلى الله عليه وسلم" 1/388.
فما المقصود ببراعة الاستهلال ؟ وما المقصود ببراعة المقطع ؟ وما الذي ينبغي فيهما ؟ أما الاستهلال فسمي كذلك لأن المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته، ورفع الصوت في اللغة هو الاستهلال. يقال : استهل المولود صارخًا إذا رفع صوته عند الولادة، وأهل الحجيج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية وسمي الهلال هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته" معجم البلاغة العربية 1/85.
والاستهلال "أن يكون مطلع الكلام دالاً على غرض المتكلم من غير تصريح بل إشارة لطيفة" بغية الإيضاح 4/151.
ويقول ابن رشيق في عمدته 1/389 : "والشعر قفل أوله مفتاحه، وينبغي للشاعر أن يجود ابتداء شعره فإنه أول ما يقرع السمع منه، وبه يستدل على ما عنده في أول وهلة وليتجنب (ألا) و (خليلي) و (قد) فلا يكثر منها في ابتدائه فإنها من علامات الضعف والتكلان، إلا للقدماء الذين جروا على عرق أي ملكة موروثة وعملوا على شاكلة، وليجعله حلوًا سهلاً، أو فخمًا جزلا".
وأرى أن ابن رشيق كان يفترض أن يحسن الظن في الشعراء اللاحقين وألا يرشدهم إلى تجنب ما ذكر لأن الشاعر قادر ببراعته على توظيف كل مفردة بما تخدم وقد ذكر الرماني أن من مواضع (ألا) "أن تكون تنبيهًا وافتتاحًا للكلام" معاني الحروف ص : 113 وما دام الأمر كما ذكر الرماني فكيف يتجنب الشاعر رافدًا مهمًا من روافد جودة افتتاح الكلام ؟! هذا بالإضافة إلى ذلك المتنفس الكبير الذي يتنفسه الشاعر من خلالها بذلك الصوت الممتد الذي تمتد معه رقبة السامع في إصغاء تام وشغف منقطع النظير لسماع ما أمر عظيم قديم ملفوف في عاطفة الشاعر الدافئة، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها قول أحمد شوقي (الشوقيات ص : 1/100) في رثائه لشهداء العلم والغربة وهم شباب مصري سافروا لتلقي العلم في أوربا فاصطدم القطار الذي يقلهم من أرض إيطاليا فقتل أحد عشر طالبًا جيء بهم إلى مصر جثثًا :
ألا في سبيل الله ذاك الدم الغالي =وللمجد ما أبقى من المثل العالي
ومن مثل ذلك قول البحتري من قبل (ديوانه 1/15) :
ألا هل أتاها بالمغيب سلامي =وهل خبرت وجدي بها وغرامي
حيث يحمل الشاعر استفتاح السابق بألا عاطفة جياشة وتساؤلات تنبي عن نفسية الشاعر المتأججة ببعدها عن أقرب الناس إليها.
أما " خليلي " فأقصر رد أرد به على صاحب العمدة رحمه الله تعالى أن الأسلوب أسلوب نداء وهو قريب من مثل ما امتدحه ورآه حسنا نحو قول امرئ القيس : قفا نبك. والذي قال عنه (العمدة 1/389) : "هو عندهم أفضل ابتداء صنعه شاعر" فما "خليلي" إلا منادى حذفت أداته لقرب المنادى إلى نفس الشاعر المنادي، وإني لأرى في ذلك رقة واستعذابًا، واستمالة وتهيئة، واستعطافًا للمنادى، وأهمية لما يوحي من كلام وارد بعد ذلك النداء. ومن ذلك قول كثير عزة (ديوانه 1/36) :
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا =قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
ثم لماذا يكون ذلك حكرًا على القدماء دون غيرهم، والمبدع يجب ألا يقيد بترك شيء أو بإتيانه في أي عصر من العصور ؟! فهذا أبو نواس (في ديوانه ص : 17) يقول :
خليلي بالله لا تحفرا لي =القبر إلا بِقَطرَبُّل
وما من شك أن أسلوب النداء من ابرع وأبلغ الأساليب حسنًا في الابتداء والاستهلال ولو لم يكن الأمر كذلك ما افتتح الله بالنداء بعض سور القرآن الكريم . ومن ذلك قوله تعالى : "يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم" (الحج : 1).
أما "قد" فلا أبلغ ولا أمتع ولا أبرع من استهلال الله بها في بعض سور القرآن الكريم كما في قوله تعالى في (المجادلة : 1) : "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها" وقوله تعالى في أول سورة المؤمنون "قد أفلح المؤمنون" وهي إذا دخلت على الماضي قربته من الحال، وأفادت معه التحقيق.
وما أرانا في غنى عن لفظة أو حرف بعينه بل إنما الأمر عائد إلى براعة القائل وحذقه ومهارته في فن القول بوجه عام والاستهلال على وجه الخصوص، وليس ذلك بموقوف على أحد بعينه من القدماء أو المحدثين.
ولن أتذوق معك ما سأورده عليك من توظيف بعض الشعراء لقد حتى لا أقيدك بما أراه فيها من جمال فلعلك تدرك بنافذ بصيرتك، ورهافة حسك، وحسن ذوقك حسن تلك الاستهلالات وبراعتها.
يقول البحتري (1/26) من ديوانه :
قد فقدنا الوفاء فقد الحمبم= وبكينا العلى بكاء الرسوم
ويقول شوقي في شوقباته (3/ 16) :
لقد لبى زعيمكم النداء =عزاء أهل دمياط عزاء
ويقول في حافظ إبراهيم (الشوقيات 3/18) :
قد كنت أوثر أن تقول رثائي =يا منصف الموتى من الأحياء
أما براعة المقطع فالمقصود بها ما ذكره صاحب الإيضاح (1/ 158) حيث يقول : "ذلك اللفظ الموضوع للدلالة على الانتهاء، ولو في مجرى العرف والعادة كالدعاء والسلام".
ويتضح من التعريف السابق أن مقطع الكلام هو ذلك الموضع الذي ينهي فيه المتكلم كلامه ويقطعه حيث ينبغي أن يكون آخر الكلام الذي يقف عليه المتكلم شاعرًا كان أو ناثرًا مستعذبًا حسنًا لأنه آخر ما يفهمه المتلقي أو السامع ويحفظه من القصيدة أو النص المرسل فيرتسم في نفسه فإن كان مختارًا حسنًا تلقاه بغاية القبول واستلذه استلذاذًا يجبر به ما وقع من تقصير أو ينشأ منه خيط نفسي فكري خفي يشد ما بين استهلال النص وخاتمته ليبقى ماثلاً في صورة فنية حية تنبض بالحياة كلما أعدنا قراءة النص أو أردنا الاستماع إليه، ولعل هذا من أهم الأمور التي تقوى بها وحدة النص الأدبي.
يقول الدكتور بدوي طبانة في معجم البلاغة العربية (1/84) "وأحسن الانتهاء ما أعلم بأن الكلام الذي جعل ذلك آخره قد انتهى والإشارة إلى الانتهاء بأن يشتمل ما جعل آخرًا على ما يدل على الختم ولفظ الانتهاء، ولفظ الكمال وشبه ذلك مما ذكر في براعة المقطع من دعاء وسلام".
يقول ابن رشيق في العمدة (1/415) : "والانتهاء قاعدة القصيدة، وآخرها ما يبقى منها في الأسماع وسبيله أن يكون محكمًا : لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه، وإذا كان أول الشعر مفتاحًا له وجب أن يكو ن آخره قفلاً له".

● ويتضح من قول ابن رشيق ما ينبغي أن تكون عليه براعة المقطع من :
1- الإحكام وعدم تمكن الزيادة عليها.
2- عدم الإتيان بعدها بأحسن منها.
3- هي آخر شيء في النص.
وأنا أقول : يا معشر الشعراء والكتاب إن المتلقي لما تنظمون أو تكتبون غرثان فأربكوا له. أربكوا له ببراعة الاستهلال حتى يعي مقصدكم من أول وهلة فيبقى قلبه معلقًا بالعمل الإبداعي حتى نهايته، ثم أربكوا له وأحسنوا ببراعة المقطع فإن ذلك آخر ما يبقى لكم من أثر فيه، فإن أحسنتم براعة المقطع فارقتم صاحبكم وقد علق بنفسه ما أردتم أن يعلق بها، وأوصدتم باب خياله وفكره على ما حرصتم أن يوصد عليه.
وغاية الغايات في براعة المقطع مقاطع الكتاب العزيز في خواتم سوره الكريمة حيث وردت في أحسن وجوه البلاغة وأكملها. ومن العرب من يختم القصيدة كما يقول ابن رشيق (1/417) فيقطعها والنفس بها متعلقة، وفيها راغبة ومشتهية، ويبقى الكلام مبتورًا كأنه لم يتعمد جعله خاتمة، كل ذلك رغبة في أخذ العفو، وإسقاط الكلفة وقد استشهد ابن رشيق لكلامه السابق بقول امرئ القيس في نهاية معلقته حسب الصورة التي وصلتنا عليها :
كأن السباع فيه غرقى عشية =بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
وذكر ابن رشيق أن الشاعر لم يجعل لمعلقته قاعدة مقطعًا كما فعل أصحاب المعلقات الأخرى !
وأنا أقول : وما يدرينا فلعل البيت السابق لم يكن آخر بيت في معلقة امرئ القيس، ولو افترضنا جدلاً أنه آخر بيت في المعلقة فإنني أرى للشاعر حسن مخرج غير ما ذهب إليه ابن رشيق رحمه الله من أخذ العفو وإسقاط الكلفة فأقول : إن الشاعر إذا جعل النفس متعلقة بالقصيدة وراغبة فيها ومشتهية فإن ذلك يعد من براعة الشاعر في مقطع قصيدته، نعم قد يعمد الشاعر إلى ذلك ليجعل نفس المتلقي تسرح وتسبح في خيالات مشروعة لا يقيدها خيال الشاعر ولا عاطفته وما يدريك أن امرئ القيس أراد بذلك أن يجعل المتلقي يسرح بخياله مع تلك اللوحة الفنية الرائعة لتلك السباع التي غرقت في سيول المطر عشيًا فأصبحت منقعرة مدفونة في مجراه لا يرى منها إلا بعضها ملطخة بالطين والكدر فهي كأصول البصل البري الذي يحمل الشكل نفسه، وإني لأرى أن مثل هذا المقطع أو قل مقل تلك النهاية التي تسمح بالامتداد الخيالي للمتلقي إن شاء ذلك تؤدي إلى تنمية الحس والخيال وإعمال الفكر في توقع نتائج أخرى يشارك المتلقي بها مبدع النص الأدبي، أما ترى أن كثيرين من كتابنا وشعرائنا المحدثين يميلون أحيانًا كثيرة إلى ختم نصوصهم الأدبية بسؤال أو شبهه ليجعلوا المتلقي يشارك المبدع في وضع نهاية صالحة لحل مشكلة أو خروج من مأزق تدور حوله معالم النص وهذا يعد من حسن براعة المقطع من وجهة نظري لكنه لا يتأتى إلا لمبدع منحه الله القدرة على ضمان ارتباط نفس المتلقي بعمله الأدبي وإشراكه الناس لعواطفه وأحاسيسه ومشاعره.
وإنما يكون سوء المقطع في تلك الخاتمة التي لا يشعرنا بنهاية قصيدة ولا يجعلنا مشدودين إلى ربط السابق بما يمكن أن يتوقعه السامع ويتخيله من لاحق صالح لمعنى القصيدة وما تحمله من أفكار حيث نجد بعض القصائد تنتهي منبتة ساقطة ضعيفة لا معنى أدت ولا خيال أبقت.