من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : أحمد إبراهيم الهزازي.
إجمالي القراءات : ﴿3816﴾.
عدد المشــاركات : ﴿29﴾.

صماء .. لكن إنسانة.
فيما يلي أقدم لكم مقتطفات من رسالة (ورقة عمل) قدمتها خبيرة لغة الإشارة وهي معاقة سمعياً في المؤتمر الثامن للهيئات الراعية للصم قبل ما يقارب العشر سنوات ولكن هنا أحببت أن تكون بين يدي رواد منهل الثقافة التربوية خلال فعاليات أسبوع الأصم الـ ( 35 ).

1 ـ ففي الوقت الذي يحصل فيه المعوقين حول العالم على حقوق وامتيازات، وصلت إلى أن شغل الكثير منهم منصب أستاذ جامعة، مازال المجتمع العربي يرزح بأبنائه من ذوى الحاجات الخاصة تحت نير الجهل والفقر والمرض، ومع ذلك ليس هذا محور حديثنا.
وفي الوقت الذي صار الباحثين يصبون فيه جل اهتمامهم حول الوقاية من المرض والإعاقة، ما زلنا هنا في المنطقة العربية نلهث وراء إدراك ما يمكن إدراكه من علاج بعد مرض وتأهيل بعد أعاقه، وسوف أطرح هذا جانبا.
وفي الوقت الذي أصبحت حقوق المرأة السياسية والاقتصادية، ومشاركتها الفعالة في بناء وتنمية المجتمع الذي تحيا فيه أصبحت هذه الأمور من البداهة بمكان بحيث لا محل للحديث عنها في الغرب، نجد المرأة العربية ما زالت في بعض الأقطار غير معترف لها بأهلية الانتخاب أو العمل وأحياناً التعليم، ولن أعقب على هذه القضايا الآن.
وبينما يقضى الإسلام الحنيف بأن النساء شقائق الرجال، وأن الله لا يضيع أجر عامل من ذكر أو أنثى. وصار من الحقائق أن المرأة في ميدان العمل والإنتاج (في حدود ما يناسبها) تتساوى مع الرجل بل وقد تتفوق عليه ما دام مناط التفوق هو الاجتهاد والإتقان.

2 ـ إنني في هذه الورقة لن أتحدث عن الحقوق السياسية للمرأة الصماء، ولن ابحث عن دورها المفتقد في المجتمع والحياة الاجتماعية، ولا عن حقوقها المسلوبة في التعليم أو العمل أو // أو ولن أتعرض إلى الغبن الشديد الذي تتعرض له حتى ظلمها داخل الجمعيات الأهلية الخاصة بالصم والتي من المفترض أنها أنشئت لترعاها.
إنني سأطرح كل هذا جانباً وسؤال واحد فقط سأطرحه عليكم : أين حقى كفتاة صماء في أن أحيا كإنسانة داخل أسرتي ؟**! هل تستغربون السؤال ؟ أم تستنكرون الحق ؟

3 ـ بقى علىّ قبل أن أبدأ أن أقرر بأن ما ستسمعونه هو جماع وخلاصة العديد والعديد من القصص التي عاشتها فتيات وأمهات صم استمعنا إليهم ورصدنا معاناتهم ولخصناها في هذه السطور على لسان فتاة صماء تدعى حسناء، فهي ليست سيرة ذاتية لفتاة واحدة، وإنما هي مجموعة من السير الذاتية لمجموعة من الفتيات والسيدات الصم، حتى إنكم إن عرضتم هذه السطور على أي فتاة صماء كبرت أم صغرت ستجدونها تنطبق عليها كلياً أو جزئياً بل وربما وجدتم ما هو أكثر قسوة.

● منذ البداية .. أمي والإشارة :
تقول حسناء : على الرغم من أنني أصبت بالصمم منذ طفولتي المبكرة، وعلى الرغم من عدم وجود وسيلة أخرى لأتعامل بها مع الغير سوى لغتي لغة الإشارة، وعلى الرغم من أن أمي متعلمة ويقال مثقفة، على الرغم من هذا وذاك فإن أمي لم تتعلم من الإشارات سوى القدر القليل، فقط مجموعة من الإشارات الركيكة بالنسبة للغتنا، إشارات تافهة بدائية لا تنتمى إلى لغة الإشارة في شيئ، ولا تكفى أبدا لأن أجلس معها وأحادثها وأبثها ما بداخلي فتبثني خبراتها ونصائحها، فهي حتى لم تحاول أن تقتبس منى الإشارات على امتداد سنوات عمري التي تعددت 25 عاماً، ولم تستجب أبداً لرجائي المتتابع في أن اعلمها إياها، وكأنها أسقطتني من حساباتها كابنة لها.

● عند التسوق :
كثيراً ما اصطحبتني أمي أنا وشقيقتي إلى السوق لشراء متطلباتنا في المناسبات المختلفة، وتعجز الكلمات عن وصف شعوري وأنا أسير معهما أو بالأحرى (خلفهما) كالتابع الذليل أو الخادمة، فلم يكن أبداً لتلك الصماء - التي هي أنا - رأى فيما تتسوقه الأسرة، أو حتى ما ستبتاعه من ملابس أو أغراض خاصة بي أنا.
كنت أرى أمي تتشاور مع شقيقتي الصغرى في الأسعار والخامات، وأنا أقف بينهما، لا أفهم ما تقولان ولم تحاول أي منهما الاستجابة لي فتشركني في الحديث والمشاورات والتي بالتأكيد يخصني منها جانب.
حدث ولا حرج عن مما كان يكتنفني من شعور بعد كل مرة نخرج فيها، وما كان يدور في رأسي من أفكار ثم صدمت بالحقيقة التي فهمتها بعد زمن، فأمي لم تكن تأخذني معها إلى التسوق إلا لسبب واحد، وهو خوفها من أن تتركني وحدى في المنزل فأكسر شيئا أو أفسد جهازا، حتى في هذا كان خوفها على سلامة الأشياء والأجهزة يطغى على خوفها علىّ، فلم يخطر على بالها ما قد يهدد سلامتي من خطر بسبب وجودى كطفلة صغيرة صماء دون وجود شخص أكبر مني في المنزل.

● حضن لم أنعم به :
وصل الأمر بأمي إلى أن تدفع بي لأقضى أياماً لدى خالي، ثم عمي أو عمتي وهكذا، كأنها تقول لهم شاركوني هذا البلاء، وهكذا لم أنعم بحضن أمي كأي فتاة، ولم أشعر منها أبداً بحنان الأم وعشت أتنقل بين منازل أقاربي لأرى وأشاهد كيف ينعم أبناؤهم بحنان الأم ورعاية الأب وأنا بينهم كيتيمة الأبوين أو كالطفل الفقير الذي لم يشتر ملابس العيد وينظر إلى أقرانه وهم في ملابسهم الجديدة ! بألم صامت فأنا لا أملك سوى الألم بل وحتى البكاء في صمت.
وها هي مراحل حياتي تمر أمام عيني كفيلم ممل ولا أجد لأمي دور فيه سوى دورها في بدايته وهي تلدني، بعدها لم أجد لها أدنى أثر في صناعة الأحداث أو الاشتراك فيها.

● يوم الصاعقة في حياتي :
في يوم من الأيام لاحظت حركة غير طبيعية في منزلنا، وعندما تساءلت عن السبب، كان الجواب أن أمرتني أمي بالمكوث داخل حجرتي وألا أغادرها، لأن اليوم خطبة شقيقتي الصغرى ولا يجب أن يراني أهل العريس حتى لا يعلموا أن للعروس أخت خرساء فتفشل الزيجة بسببي خوفاً منهم من أن يكون الصمم في أذني وراثة في عائلتنا.
قالتها هكذا دون مراعاة لشعوري، قالتها بلا مبالاة، بل بحرص وتأكيد على كل حرف فيها.
وماذا عن زواج شقيقتي أو خطبتها ألم يسبقه زيارات وترتيبات وجلسات وحوارات يعلمها جميع من في الأسرة سواي، فها أنا أخر من يعلم، وها أنا يعتم حولى وكأني مصدرا للعار، كأني بهم يدفعونني دفعاً لكراهية نفسى قبل كراهيتهم.
والآن ننتقل إلى أحداث واقعية أخرى تختلف في ملابساتها وأحداثها وأشخاصها لكنها تصل بنا إلى كشف أسرار لا يدركها سوانا نحن الصم إنها تصل بنا إلى كشف المستور، ذلك الجهل المطبق الذي يعاني منه المجتمع ! جهل احتياجات أبنائه من ذوى الفئات الخاصة ! جهل جعل أفراد الأسرة الواحدة بل وأبناء البطن الواحدة يتنافرون إذا ضمهم محفل عام واحد، ولنتابع ذلك المشهد مع السيدة الصماء "نادرة".
ذهبت السيدة "نادرة" إلى حفل زفاف ابنة أختها لتستقبلها أم العروس "شقيقة نادرة" في ترحاب شديد، لم لا واليوم فرح وبهجة بالزفاف الميمون، ولم لا ولم يكن هناك ما يعكر صفو العلاقة بين الشقيقتين.
انضمت الخالة "نادرة" إلى الحفل والمدعوين من الأقارب والمعارف، ولأن الخالة صماء فقد كان الحديث يدور من خلال لغة الإشارة وكان أبنها يتولى ترجمة ما يستلزم تدخله تاركا والدته "نادرة" تعيش الموقف من خلال إمكاناتها المفروضة عليها قدر الإمكان، ولم يكن هناك صعوبة تذكر في التواصل بينها وبين القريبات اللائي أحطن بها لما تتمتع به من حنان شديد وابتسامه هادئة تنبئ عن نفس راضية كل الرضى فيرتاح إليها كل من يراها.
إلى أن لاحظت الشقيقة "أم العروس" أن أختها "نادرة" تتجاذب أطراف الحديث في جمع من المعارف من خلال تلك اللعينة (لغة الإشارة).
فانتفضت واتجهت صوبها كالسهم وهي في ذلك الاندفاع كان عقلها يعمل بسرعة البرق، فحاولت رسم ابتسامة على وجهها المذعور وطلبت من إبن شقيقتها الصماء أن يكف هو وأمه عن استعمال الإشارات حتى لا يراهم أهل العريس فيظنوا أن الصمم وراثيا مما يهدد الزيجة بالفشل.
ولكم أن تتخيلوا وقع هذه الكلمات على الشاب المسكين "إبن الصماء" الذي حاول تهدئة الموقف لا لصالح خالته "أم العروس" ولكن خوفاً من أن يجرح شعور والدته إن أدركت ما قالته الخالة، فحاول رسم ابتسامة على وجهه فخرجت باهتة تعبر عما يحمله في صدره، ثم رد قائلاً لخالته بصوت مفعم بمزيج من الألم والسخرية وهو مازال ممسكاً بابتسامته الباهتة : خلاص أنطقيها أنت وإحنا نبطل إشارات !
ثم انتحى بأمه ركن من أركان الصالة، وأجلسها على إحدى المقاعد الموجودة مدعياً لأمه أن خالته أشفقت عليها من الوقوف وطلبت منه ذلك لراحتها. وما زال صدى كلمات خالته يقرع رأسه بشدة دون أن يجرؤ على إخبار أمه أبداً.

● لا أريد هذه الأسرة العاقة :
بعد كل هذا هل تظنون أنني أستطيع البحث عن مكاني في المجتمع ؟ إنني لن أخرج إلى هذا المجتمع خشية أن يرفضني كما رفضتني أسرتي ! فكلما أردت الخروج لعمل أو لعلم أتسائل هل سأصدم كما صدمت في أهلي ؟ وهل هؤلاء الذين أعيش معهم يعدون أهلاً ؟ ! وهل هذه تعتبر أماً ؟ أين الخلل ؟

● رسالة إلى كل أم لديها طفل معوق :
إلى كل أم لديها طفل له حاجات خاصة أقول لها : إن هذا الطفل يملك من العواطف والأحاسيس ما يجعله مدرك لما يدور حوله، فهو يشعر بالحب والكراهية ويشعر بالاهتمام واللامبالاة بل ويتفاعل مع ذلك فيحب من يحبه وبالطبع يكره من لا يهتم به.
إنه إنسان مفرط الحساسية يجب أن تتعاملي معه بحساب وأن تغمريه بعاطفة الأمومة، وأعلمي أنه بمقدار تقبلك لإعاقة أبنك وتعاملك معه على أساس من الفهم لاحتياجاته الخاصة سيتقبل نفسه وسيتقبله المجتمع ويتعامل معه أما إن كنت ترفضين هذا الطفل فلا تنتظري من المجتمع أن يتقبله ويعامله أفضل من معاملتك إياه.