من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. عبدالرحمن قاسم المهدلي.
إجمالي القراءات : ﴿4874﴾.
عدد المشــاركات : ﴿76﴾.

مجالس رياض التائبين : المجلس التاسع والعشرون ــ تأملات في قوله تعالى : (إلا من تاب ..).
■ تأملات في قوله تعالى : (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الفرقان : 70).
هذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.
قال ابن عباس : ما رأيت النبي فرح بشيء قط، فرحه بهذه الآية لما أنزلت، وفرحه بنزول : (بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً) (الفتح : 12).
واختلف أهل العلم في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا، أو في الآخرة ؟ على قولين :
● القول الأول : يبدل الله سيئاتهم حسنات في الدنيا؛ قاله ابن عباس وأصحابه : هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيمانا، وبالزنا عفة وإحصانا، وبالكذب صدقا، وبالخيانة أمانة، فعلى هذا معنى الآية : أن صفاتهم القبيحة وأعمالهم السيئة عوضها صفات جميلة وأعمالا صالحة، كما يبدل المريض بالمرض صحة، والمبتلى ببلائه عافية.
● القول الثاني : تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة؛ قاله سعيد بن المسيب وغيره من التابعين، قال ابن قيم (جامعا بين القولين) :
قاعدة : أن الذنب لا بد له من أثر، وأثره يرتفع :
1- بالتوبة تارة.
2- وبالحسنات الماحية تارة.
3- وبالمصائب المكفرة تارة.
4- وبدخول النار ليتخلص من أثره تارة.
وكذلك إذا اشتد أثره ولم تقو تلك الأمور على محوه، فلا بد إذا من دخول النار، لأن الجنة لا يكون فيها ذرة من الخبيث، ولا يدخلها إلا من طاب من كل وجه، فإذا بقي عليه شيء من خبث الذنوب، أدخل كير الامتحان ليتخلص ذهب إيمانه من خبثه، فيصلح حينئذ لدار الملك.
5ـ إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره.
6- تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب.
7- وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار، فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه، أعطي مكان كل سيئة حسنة، فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها، كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة، لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار وأحب إلى الله، وإزالة النار بدل منها وهي الأصل، فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول.

● تأملات في الآية :
في الآية : أن التائب قد بدل كل سيئة حسنه بندمه عليها، إذ هو توبة تلك السيئة، والندم توبة، والتوبة من كل ذنب حسنة، فصار كل ذنب عمله زائلا بالتوبة التي حلت محله، وهي حسنة، فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار، فتأمله فإنه من ألطف الوجوه.
وعلى هذا، فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وقد تكون دونها، وقد تكون فوقها. وهذا بحسب نصح هذه التوبة، وصدق التائب فيها وما يقترن بها من عمل القلب الذي تزيد مصلحته ونفعه على مفسدة تلك السيئة. وهذا من أسرار مسائل التوبة ولطائفها.
وفي الآية : أن ذنب العارف بالله وبأمره قد يترتب عليه حسنات أكبر منه وأكثر وأعظم نفعا وأحب إلى الله من عصمته من ذلك الذنب، من ذل وانكسار وخشية وإنابة وندم وتدارك بمراغمة العدو بحسنة أو حسنات أعظم منه، حتى يقول الشيطان : يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه ! ويندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه ! لكن شتان ما بين الندمين، والله تعالى يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظه، فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة والتدارك وحصول محبوب الله تعالى من التوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال هنا : ما يوجب جعل مكان السيئة حسنة بل حسنات.
وتأمل قوله في الآية : (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الفرقان : 70)، ولم يقل مكان كل واحدة واحدة فهذا يجوز أن يبدل السيئة الواحدة بعدة حسنات بحسب حال المبدل.
فتبارك الله رب العالمين، وأجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، البر، اللطيف، المتودد إلى عباده بأنواع الإحسان وإيصاله إليهم من كل طريق بكل نوع، لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : المدارج (1/378 - 380).


image في علم المستقبل : مجالس رياض التائبين.