من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : طارق يسن الطاهر.
إجمالي القراءات : ﴿3358﴾.
عدد المشــاركات : ﴿78﴾.

عودة الرواية الشفوية ــ وقفات علمية.
■ النسبة إلى شفه هو شفهي أو شفوي (المعجم الوسيط ط4 ص488).
والصحيح عند النسب إلى الجمع أن ننسب لمفرد الجمع، لا للجمع، إلا في حالات قليلة، فنقول الرواية الشفوية أو الشفهية، وليس الرواية الشفاهية؛ لأنها هنا تكون نسبة لشفاه، وهي جمع، وهذا غير صحيح.
اصطلاحا فإن الرواية الشفوية هي حفظ المنتج الأدبي، ونقله رواية عبر الكلام، من شخص لآخر.
وكانت هي السائدة قديما منذ العصر الجاهلي؛ لأن الكتابة تأخرت؛ إذ بدأ عصر التدوين في القرن الثاني الهجري، حتى عالميا فقد استخدم (هيرودوت) الرواية الشفوية.
حتى القرآن الكريم كان يُنقل شفويا؛ لأن العرب لم تكن أمة كاتبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتُبُ ولا نحسب) صحيح البخاري رقم 191، ولكن عندما استشهد عدد كبير من حفظة كتاب الله في الجهاد، خشي المسلمون من ضياع القرآن؛ فنقلوه من الصدور للسطور.
اشتهر عدد من الرواة في التاريخ العربي، وذلك قبل أن يبدأ عصر التدوين، وقد كان لبعضهم دور كبير في حفظ النتاج الأدبي الغزير، وذلك لتمتعهم بملكة الحفظ، ومن أشهر الرواة الأصمعي وحماد الراوية وحماد عجرد وخلف الأحمر، والمفضل الضبي وغيرهم، وكان منهم ثقاة، حتى قال الفرزدق - وهو من هو- في أبي عمرو بن العلاء:
ما زلت أفتح أبواباً وأغلقها • • • حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
ولكن بعضهم لم يكن أمينا في نقل الشعر- مثلا-، وروايته، فكانوا يضيفون، وينسبون قصائد لغير أصحابها، لأن منهم من كان زنديقا عربيدا ماجنا، لم يحفظ عقله، حتى يحفظ شعر الآخرين.
ثم سيطرت الرواية الشفوية فترة من الزمن في بدايات العصر الحديث، وهذا كان له خطره؛ إذ ضاعت مراحل مهمة من تاريخ الأمة لأنها لم تدون، ثم اختفت لعدة أسباب منها ظهور الأجهزة الإعلامية الحديثة مثل التلفاز والإذاعات والصحف، وكذلك أجهزة التسجيل التي تحفظ الكلام في أشرطتها.
ولكنها عادت مرة أخرى بسبب الطفرة الرقمية التي حدثت، ولسهولة امتلاك وسيلة تبث للناس دون قيود أو ضوابط.
ولعودة الرواية الشفوية إيجابيات عدة، منها : سهولة الوصول للمعلومة وكذلك سهولة الدخول لعالَمها من قِبل أي أحد، وهي فوق كل ذلك سريعة الانتشار...
ولكن تقابل تلك الإيجابيات عدد من السلبيات، من أبرزها أنها لا يمكن الاعتماد عليها مصدرا للمعلومات، كما أنها تستقبل أي أحد بدون التحقق من قدراته وكفاياته.
أما عن المحتوى الذي يقدمه الرواة الجدد فيتناول التاريخ والأدب، قديما وحديثا، ويتفاوت بين الصحة والخطأ، ففيه خلط كثير، وقليل من المنافع، لذا لا يكون الأخذ بمضمونه آمنًا في جميع الحالات، فلابد من التمحيص والتثبت والرجوع إلى المعلومة التي ترد من هؤلاء الرواة الشفويين في مظانها المعتبرة. فقد رووا قصصا حقيقية، لكن بعضهم روج لكثير من الأكاذيب التي لا تصمد عند البحث العلمي، وليس لها مصدر علمي موثوق به، وتخالف الواقع والتاريخ.

♦ هنا أورد بعضا من هذه القصص المكذوبة التي انتشرت من بعض الرواة الشفويين :
يروجون عن سبب مناسبة قصيدة الشاعر السوداني الهادي آدم "أغدا ألقاك" التي غنتها أم كلثوم ويقولون إن الشاعر كان يحب فتاة، ورفض أبوها تزويجه منها، فكان حزينا وجالسا تحت شجرة حين جاءه - أخيرا - خبر الموافقة على الزواج، فأخذ عودا من الشجرة وكتب القصيدة. حقيقةً هذه قصة مختلقة ومفبركة، لكنها انتشرت كالنار في الهشيم.

كذلك عن بيت ينسبونه للشاعر السوداني إدريس جماع، وهو :
السيف في الغمد لا تخشى بواتره • • • وسيف عينيك في الحالين بتار
ويروون في قصة هذا البيت أن الشاعر ذهب إلى لندن في رحلة استشفاء، فأعجبته ممرضة، وتغزل في عينيها، لكنها – تفاديا لنظراته - ارتدت نظارة سوداء؛ لتخفي عينيها، فقال هذا البيت.
والثابت تاريخيا أن جماع لم يذهب مستشفيا للندن، وإنما ذهب للبنان.

قصة ثالثة، وهي قصة "صوت صفير البلبل"، ونسبتها للأصمعي، وهي قصة مختلقة وقصيدة ركيكة، لا يليق بالأصمعي أن يقولها، ثم إن الأصمعي لم يكن في عصر أبي جعفر المنصور أصلا.
وهناك عدد من المعلومات التي ترد عبر هؤلاء الرواة الجدد وهي مغلوطة عقديا ولغويا، مثل نفي كون النبي صلى الله عليه وسلم أمِّيًّا، وإنكار قول "مثوى" لزعمهم أنها كلمة خاصة بالنار، ويرون أنه لا يصح الدعاء بها للميت بأن يجعل مثواه الجنة، وغير ذلك. وقد تناولت بالرد والتفنيد العلمي المستند على القرآن الكريم والسنة النبوية واللغة إحدى وثلاثين معلومة مغلوطة، في كتابي: تنبيه الأحباب لرسائل الواتس أب ط1ــ 2202.
من هؤلاء الرواة من يظهر باسم مستعار يختاره بعناية؛ حتى يسهل انتشاره وتداوله بين الناس، وذلك فكر تسويقي للترويج لمحتواه، ومنهم من يظهر باسمه الحقيقي وبياناته الحقيقية.
وإذا عرجنا على توصيف وتشخيص واقع المتابعات لدى الرواة الجدد، فإننا نجد أن هؤلاء الرواة الجدد يتمتعون بنسب متابعة عالية جدا، وذلك لأنهم يتبعون أساليب تؤدي إلى جذب المشاهدين، ومنها ممارسة حركات بهلوانية أثناء العرض، والتحدث بأسلوب قد يلفت أنظار الكثيرين، ومن ثم ترتفع نسبة المتابعة.
فهم حريصون على جذب الناس ليقنعوهم بمحتواهم، وذلك لبراعتهم في استخدام التقنية من حيث التصوير والإضاءة والمونتاج، ودقتهم في تخير المواقع المميزة للتصوير، كذلك دقتهم في اختيار الموضوعات التي تكون نسبة الجهل فيها عالية لدى بعض الناس، ويعملون على نشرها، وهنا تكثر المتابعات؛ لأن المحتوى صادف عقلا خاليا فتمكن. وذلك كله لا ينفي وجود رواة شفويين يتثبتون في نقل المعلومة، ويجتهدون في توثيقها، وأخذها من مصادرها الصحيحة، لكنهم قلة.
مما سبق تبين لنا الدور المتعاظم للرواية الشفوية في حفظ جزء من التراث العربي، ومدى تأثيرها لدى المتلقي، مع التنبيه على الحرص الواجب على التثبت والتدقيق في المحتوى الذي يُقدَّم فيها.