طارق يسن الطاهر.
عدد المشاركات : 74
1442/01/01 (06:01 صباحاً).
عدد المشاهدات : ﴿﴿2905﴾﴾
محاولة تجلية صدأ الأباريق تأملات في قصيدة "صدأ الأباريق" للشاعر محمد سلطان الأمير.
◄ ترددت كثيرا عند محاولة ولوج هذه القصيدة العميقة، فوقفت حائرا من أي بواباتها أدخل؛ فهي قصيدة جميلة اللفظ، محكمة المبني، عميقة المعني، حشد فيها الشاعر كل جماليات الشعر.
القصيدة بعنوان صدأ الأباريق، تذكرت وأنا أتأمل العنوان رائعة شاعرنا السوداني توفيق صالح جبريل، وهو يتغزل في مدينة "كسلا" الوادعة في شرق السودان:
كسلا أشرقت بها شمس وجدي • • • فهي في الحق جنة الإشراقحين قال:
ظلت الغيد والقوارير صرعى • • • والأباريق بِتْنَ في إطراقفأباريق توفيق باتت، وهي مطرقة، وأباريق محمد الأمير قد صدئت. فما قصة شعرائنا مع الأباريق؟!
يبدأ الشاعر قصيدته بالنفي، نفي أن يوجد حلول بعدهم على هذه الأرض، ولكن هنا ليل يطوف بين الفصول، ويغطي وجه الأرض، ويمتد تأثيره للفضاء حتى يغيره، فيصبح الفضاء أرخبيلا.
فهو ليل بهيم خفيٌّ، لكنه سرمدي قوي التأثير، لا يترك أرضا ولا فضاء إلا يغشاه، ويندس ويختبئ ثم يظهر فينحط ويعلو، فيهوي في الوحل، ويضرب – هو وجنوده "أشباحه" – مكتسيا وجها قبيحا فهو مثل الغراب بل مثل الغول. ثم ينعتق من ربقة ذلك الليل ليناجي سليمى، ويبين لها ما فعله لأجلها فهو قد أسرج الوقت، وترحل في الأماني ودافع عنها، وهو الذي وهبها عصارة الحياة الصافية العذبة السلسبيل، وجعل ما بين قلبيهما أريجا معطرا وعبيرا فواحا يحذرها من الميل، وهيهات لها أن تميل.
ثم يقول لها فاتحا نافذة أمل :
إذا توارت الأماني، وهاجمتها المنايا فمواسم الخير النيرة آتية لا محالة، وستلتئم بها جراح قلوبنا العليلة.
فَسَتَأْتِي مَوَاسِمُ نَيِّرَاتٌ • • • وَسَتَرْفُو جِرَاحَ قَلْبِ الْعَلِيلِ
وَسَيَبْقَى الرِّهَانُ أَغْنَى وأقنى • • • فِي كِيَانَي، والبيِّناتُ دَليلي
القصيدة مصرعة المطلع، فقد أتى شاعرنا بحرف الروي اللام في البيت الأول في شطريه :
ما على الْأرْضِ بعدنا من حُلُولِ • • • نصطفيها، عن رِبْقَةِ الْمُسْتَحِيلِ
حشد الشاعر عددا من المفردات من مجموعة واحدة تخدم معنى محددا، فكانت قادرة على توصيل معناه، وحمْل صوره، فعلى سبيل المثال :
• مفردات الطبيعة :
الليل ــ الأرض ــ الوحول ــ السديم ــ الأرخبيل.
• مفردات الزمان :
الوقت ــ الليالي ــ الليل ــ مواسم ــ الفصول ــ فجر.
• مفردات المكان :
بعد ــ مع ــ الأرض ــ الفضاء.
• مفردات الاحتراق :
الضريم ــ أسرجت ــ النار.
• ومفردات النور :
ضوء ــ نيرات.
وأعطى الشاعر نصه بعدًا صوتيا، وذلك من خلال ذكر بعض الأصوات ومنها : هدير ــ عويل. أما الصور الجمالية في النص، فكانت كثيرة جدا، وجاءت عفوا، ولم يقصد إليها الشاعر، ووظفها توظيفا فنيا، ومنها :
• التشبيه في :
كغراب له ملامح غول
وهي صورة أتوقف عندها قليلا
كلاهما قبيح : "الغراب والغول"، وزادهما التشبيه قبحا على قبح.
فالغراب هو نذير الشؤم، وهو من الفواسق التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها في الحل والحرم.
والغول من المستحيلات التي ذكرها الشاعر القديم، وهو حيوان خرافي شط الناس في تقبيح منظره، وتوصيف صورته الكريهة لدرجة أخافوا به الأطفال.
وهنا تشبيه آخر برع فيه الشاعر، واتسعت صورته باتساع المشبه والمشبه به:
يتمطى في مهجة الأرض حتى • • • صار وجه الفضاء كالأرخبيل
• والاستعارات – في النص - كثيرة، فللأرض مهجة، وللفضاء وجه، فمن الاستعارات المميزة:
وأغارت على رؤاها الأماني
حيث شبه الأماني بالجيش الذي يغير على الأعداء، وهنا حيث لا عدو، وإنما هي رؤى!
ونلمح استعارة مميزة وفق فيها الشاعر، في قوله :
وَسَتَرْفُو جِرَاحَ قَلْبِ الْعَلِيلِ
حيث شبه القلب بالثوب، وجراح القلب بالشقوق التي تصيب الثوب المهترئ، وشبه المواسم النيرات بالرفَّاء الذي به تختفي تلك الشقوق وتندمل هاتيك الجراح.
ما أجملها من صورة!
وهناك صورة ممتدة لثلاثة أبيات؛ حيث جاء بها على أسلوب الشرط الذي كانت أداته وفعله في بيت : "إن تكن"، وجوابه بعد بيتين "فستأتي"، وذلك يدل على قدرة الشاعر على الإمساك بخيوط القصيدة وترتيب مكوناتها:
إِن تَكنْ أَغَفَتِ الليالي اِرْتِيَاعًا • • • وَتَوَارَتْ فِي فُلْكِهَا الْمَجْهُولِ
وَأَغارتْ على الأمانِي المَنايا • • • عاصفَاتٍ حتى بطلْعِ النخيل!
فَسَتَأْتِي مَوَاسِمُ نَيِّرَاتٌ • • • وَسَتَرْفُو جِرَاحَ قَلْبِ الْعَلِيلِ
من جماليات القصيدة أيضا الترادف، الذي جاء لتأكيد المعنى ــ ومنه :
ينحط ــ يهوي
والتضاد لتوضيح المعنى، ومنه :
ينحط ــ يعلو
وأيضا الجناس الذي يعطي الكلمات جرسا موسيقيا، فقد وُجد في مواضع مختلفة، ومنها : أغنى وأقنى.
أجاد الشاعر في اختيار مفرداته؛ فهي رقيقة موحية، ومن ذلك :
نسغ ــ يجوس ــ ربقة ــ أغفت ــ صفو.
كذلك برع شاعرنا في توظيف التقديم والتأخير، فقدَّم ما حقه التأخير لتحقيق أغراض بلاغية منها الاهتمام بالمقدَّم، ومنها الاختصاص، وهما لا يكونان إن أخره، ومن ذلك قوله:
لَكِ أَسْرَجْتُ ماخرَ الْوَقْتِ صَحْوًا • • • فِي زَمَانٍ هَدِيرُهُ كَالْعَوِيلِفالترتيب الطبيعي : أسرجت لك.
وكذلك :
للأريجِ الوَضِيءِ ما بين قَلبيْنا • • • هُتافٌ مُحاذِرٌ أنْ تَمِيلي !والترتيب الطبيعي : هتاف للأريج.
القالب الذي يعرض الشعراء معانيهم عبره، ويقدمون به أفكارهم يكون عبر الأسلوبين : الخبر والإنشاء.
في نص محمد الأمير كان حظ الخبر أكبر، فجاءت جميع الأبيات خبرية ما عدا بيتا واحدا، جاء إنشائيا طلبيا بالنداء:
يا سُليمى مَا كَان لِلنَّارِ تَخْبُو • • • بَيْنَ إلفَينِ فِي السَّدِيمِ الطَّوِيلِ
الجمل في القصيدة تراوحت بين الاسمية والفعلية، والمعلوم أن الجملة الاسمية توحي بالثبوت والاستمرار، والفعلية توحي بالحدوث والتجدد، فنجح شاعرنا في اختيار القالب المناسب للمعنى:
فيأتي بالاسمية؛ حيث أراد ثبوتا ـــ ويأتي بالفعلية؛ حيث يريد حركة.
وقد تواردت ثلاثة أفعال في بيت واحد، أعطت النص بُعدًأ حركيا متماوجا :
وَهُوَ يَنْحَطُّ تَارَةً ثُمَّ يَعْلُو • • • ثُمَّ يَهْوِي مُضرَّجاً بالْوُحُولِ
القصيدة من بحر الخفيف، وهو من أجمل بحور الشعر، وأكثرها خفة ورقّة، وموسيقية، فهو الخفيف الذي خفت به الحركات؛ لذلك أكثرَ الشعراء من النظم عليه، وهو مناسب للتعبير عن مشاعر الفرح والحزن والرثاء والتصوير النفسيّ للانفعالات والخلجات، وهو بحر ثنائيّ التفعيلة، مزج بين تفعيلتي الرمل والرجز: فاعلاتن مستفعلن.
بدا جليا تأثر الشاعر بالقرآن الكريم في عدة مواضع من النص، ومن ذلك أَغْنَى وأقنى، وهي من قوله تعالى: (وأنه هو أغنى وأقنى) [النجم 48].
وأيضا كلمة يجوس، بمعنى يطوف ويتحرك، فهي كلمة قرآنية: (فجاسوا خلال الديار) [الإسراء 5].
وكذلك كلمة نصطفيها، فقد وردت في: (إن الله اصطفى آدم ونوحا ...) [آل عمران 33].
كانت تلك تأملات خجولة، حول نص باذخ، لشاعر مجيد، أرجو أن أكون قد فتحت الباب، وتركته مواربا؛ ليلج منه نقاد آخرون يقتحمون مجاهل هذا النص المكتنز.
|| طارق يسن الطاهر : عضو منهل الثقافة التربوية.
عدد المشاهدات : ﴿﴿2905﴾﴾
محاولة تجلية صدأ الأباريق تأملات في قصيدة "صدأ الأباريق" للشاعر محمد سلطان الأمير.
◄ ترددت كثيرا عند محاولة ولوج هذه القصيدة العميقة، فوقفت حائرا من أي بواباتها أدخل؛ فهي قصيدة جميلة اللفظ، محكمة المبني، عميقة المعني، حشد فيها الشاعر كل جماليات الشعر.
القصيدة بعنوان صدأ الأباريق، تذكرت وأنا أتأمل العنوان رائعة شاعرنا السوداني توفيق صالح جبريل، وهو يتغزل في مدينة "كسلا" الوادعة في شرق السودان:
يبدأ الشاعر قصيدته بالنفي، نفي أن يوجد حلول بعدهم على هذه الأرض، ولكن هنا ليل يطوف بين الفصول، ويغطي وجه الأرض، ويمتد تأثيره للفضاء حتى يغيره، فيصبح الفضاء أرخبيلا.
فهو ليل بهيم خفيٌّ، لكنه سرمدي قوي التأثير، لا يترك أرضا ولا فضاء إلا يغشاه، ويندس ويختبئ ثم يظهر فينحط ويعلو، فيهوي في الوحل، ويضرب – هو وجنوده "أشباحه" – مكتسيا وجها قبيحا فهو مثل الغراب بل مثل الغول. ثم ينعتق من ربقة ذلك الليل ليناجي سليمى، ويبين لها ما فعله لأجلها فهو قد أسرج الوقت، وترحل في الأماني ودافع عنها، وهو الذي وهبها عصارة الحياة الصافية العذبة السلسبيل، وجعل ما بين قلبيهما أريجا معطرا وعبيرا فواحا يحذرها من الميل، وهيهات لها أن تميل.
ثم يقول لها فاتحا نافذة أمل :
إذا توارت الأماني، وهاجمتها المنايا فمواسم الخير النيرة آتية لا محالة، وستلتئم بها جراح قلوبنا العليلة.
القصيدة مصرعة المطلع، فقد أتى شاعرنا بحرف الروي اللام في البيت الأول في شطريه :
حشد الشاعر عددا من المفردات من مجموعة واحدة تخدم معنى محددا، فكانت قادرة على توصيل معناه، وحمْل صوره، فعلى سبيل المثال :
• مفردات الطبيعة :
الليل ــ الأرض ــ الوحول ــ السديم ــ الأرخبيل.
• مفردات الزمان :
الوقت ــ الليالي ــ الليل ــ مواسم ــ الفصول ــ فجر.
• مفردات المكان :
بعد ــ مع ــ الأرض ــ الفضاء.
• مفردات الاحتراق :
الضريم ــ أسرجت ــ النار.
• ومفردات النور :
ضوء ــ نيرات.
وأعطى الشاعر نصه بعدًا صوتيا، وذلك من خلال ذكر بعض الأصوات ومنها : هدير ــ عويل. أما الصور الجمالية في النص، فكانت كثيرة جدا، وجاءت عفوا، ولم يقصد إليها الشاعر، ووظفها توظيفا فنيا، ومنها :
• التشبيه في :
كغراب له ملامح غول
وهي صورة أتوقف عندها قليلا
كلاهما قبيح : "الغراب والغول"، وزادهما التشبيه قبحا على قبح.
فالغراب هو نذير الشؤم، وهو من الفواسق التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها في الحل والحرم.
والغول من المستحيلات التي ذكرها الشاعر القديم، وهو حيوان خرافي شط الناس في تقبيح منظره، وتوصيف صورته الكريهة لدرجة أخافوا به الأطفال.
وهنا تشبيه آخر برع فيه الشاعر، واتسعت صورته باتساع المشبه والمشبه به:
• والاستعارات – في النص - كثيرة، فللأرض مهجة، وللفضاء وجه، فمن الاستعارات المميزة:
وأغارت على رؤاها الأماني
حيث شبه الأماني بالجيش الذي يغير على الأعداء، وهنا حيث لا عدو، وإنما هي رؤى!
ونلمح استعارة مميزة وفق فيها الشاعر، في قوله :
وَسَتَرْفُو جِرَاحَ قَلْبِ الْعَلِيلِ
حيث شبه القلب بالثوب، وجراح القلب بالشقوق التي تصيب الثوب المهترئ، وشبه المواسم النيرات بالرفَّاء الذي به تختفي تلك الشقوق وتندمل هاتيك الجراح.
ما أجملها من صورة!
وهناك صورة ممتدة لثلاثة أبيات؛ حيث جاء بها على أسلوب الشرط الذي كانت أداته وفعله في بيت : "إن تكن"، وجوابه بعد بيتين "فستأتي"، وذلك يدل على قدرة الشاعر على الإمساك بخيوط القصيدة وترتيب مكوناتها:
من جماليات القصيدة أيضا الترادف، الذي جاء لتأكيد المعنى ــ ومنه :
ينحط ــ يهوي
والتضاد لتوضيح المعنى، ومنه :
ينحط ــ يعلو
وأيضا الجناس الذي يعطي الكلمات جرسا موسيقيا، فقد وُجد في مواضع مختلفة، ومنها : أغنى وأقنى.
أجاد الشاعر في اختيار مفرداته؛ فهي رقيقة موحية، ومن ذلك :
نسغ ــ يجوس ــ ربقة ــ أغفت ــ صفو.
كذلك برع شاعرنا في توظيف التقديم والتأخير، فقدَّم ما حقه التأخير لتحقيق أغراض بلاغية منها الاهتمام بالمقدَّم، ومنها الاختصاص، وهما لا يكونان إن أخره، ومن ذلك قوله:
وكذلك :
القالب الذي يعرض الشعراء معانيهم عبره، ويقدمون به أفكارهم يكون عبر الأسلوبين : الخبر والإنشاء.
في نص محمد الأمير كان حظ الخبر أكبر، فجاءت جميع الأبيات خبرية ما عدا بيتا واحدا، جاء إنشائيا طلبيا بالنداء:
الجمل في القصيدة تراوحت بين الاسمية والفعلية، والمعلوم أن الجملة الاسمية توحي بالثبوت والاستمرار، والفعلية توحي بالحدوث والتجدد، فنجح شاعرنا في اختيار القالب المناسب للمعنى:
فيأتي بالاسمية؛ حيث أراد ثبوتا ـــ ويأتي بالفعلية؛ حيث يريد حركة.
وقد تواردت ثلاثة أفعال في بيت واحد، أعطت النص بُعدًأ حركيا متماوجا :
القصيدة من بحر الخفيف، وهو من أجمل بحور الشعر، وأكثرها خفة ورقّة، وموسيقية، فهو الخفيف الذي خفت به الحركات؛ لذلك أكثرَ الشعراء من النظم عليه، وهو مناسب للتعبير عن مشاعر الفرح والحزن والرثاء والتصوير النفسيّ للانفعالات والخلجات، وهو بحر ثنائيّ التفعيلة، مزج بين تفعيلتي الرمل والرجز: فاعلاتن مستفعلن.
بدا جليا تأثر الشاعر بالقرآن الكريم في عدة مواضع من النص، ومن ذلك أَغْنَى وأقنى، وهي من قوله تعالى: (وأنه هو أغنى وأقنى) [النجم 48].
وأيضا كلمة يجوس، بمعنى يطوف ويتحرك، فهي كلمة قرآنية: (فجاسوا خلال الديار) [الإسراء 5].
وكذلك كلمة نصطفيها، فقد وردت في: (إن الله اصطفى آدم ونوحا ...) [آل عمران 33].
كانت تلك تأملات خجولة، حول نص باذخ، لشاعر مجيد، أرجو أن أكون قد فتحت الباب، وتركته مواربا؛ ليلج منه نقاد آخرون يقتحمون مجاهل هذا النص المكتنز.
|| طارق يسن الطاهر : عضو منهل الثقافة التربوية.
◄ ترددت كثيرا عند محاولة ولوج هذه القصيدة العميقة، فوقفت حائرا من أي بواباتها أدخل؛ فهي قصيدة جميلة اللفظ، محكمة المبني، عميقة المعني، حشد فيها الشاعر كل جماليات الشعر.
القصيدة بعنوان صدأ الأباريق، تذكرت وأنا أتأمل العنوان رائعة شاعرنا السوداني توفيق صالح جبريل، وهو يتغزل في مدينة "كسلا" الوادعة في شرق السودان:
كسلا أشرقت بها شمس وجدي • • • فهي في الحق جنة الإشراق
حين قال:ظلت الغيد والقوارير صرعى • • • والأباريق بِتْنَ في إطراق
فأباريق توفيق باتت، وهي مطرقة، وأباريق محمد الأمير قد صدئت. فما قصة شعرائنا مع الأباريق؟!يبدأ الشاعر قصيدته بالنفي، نفي أن يوجد حلول بعدهم على هذه الأرض، ولكن هنا ليل يطوف بين الفصول، ويغطي وجه الأرض، ويمتد تأثيره للفضاء حتى يغيره، فيصبح الفضاء أرخبيلا.
فهو ليل بهيم خفيٌّ، لكنه سرمدي قوي التأثير، لا يترك أرضا ولا فضاء إلا يغشاه، ويندس ويختبئ ثم يظهر فينحط ويعلو، فيهوي في الوحل، ويضرب – هو وجنوده "أشباحه" – مكتسيا وجها قبيحا فهو مثل الغراب بل مثل الغول. ثم ينعتق من ربقة ذلك الليل ليناجي سليمى، ويبين لها ما فعله لأجلها فهو قد أسرج الوقت، وترحل في الأماني ودافع عنها، وهو الذي وهبها عصارة الحياة الصافية العذبة السلسبيل، وجعل ما بين قلبيهما أريجا معطرا وعبيرا فواحا يحذرها من الميل، وهيهات لها أن تميل.
ثم يقول لها فاتحا نافذة أمل :
إذا توارت الأماني، وهاجمتها المنايا فمواسم الخير النيرة آتية لا محالة، وستلتئم بها جراح قلوبنا العليلة.
فَسَتَأْتِي مَوَاسِمُ نَيِّرَاتٌ • • • وَسَتَرْفُو جِرَاحَ قَلْبِ الْعَلِيلِ
وَسَيَبْقَى الرِّهَانُ أَغْنَى وأقنى • • • فِي كِيَانَي، والبيِّناتُ دَليلي
وَسَيَبْقَى الرِّهَانُ أَغْنَى وأقنى • • • فِي كِيَانَي، والبيِّناتُ دَليلي
القصيدة مصرعة المطلع، فقد أتى شاعرنا بحرف الروي اللام في البيت الأول في شطريه :
ما على الْأرْضِ بعدنا من حُلُولِ • • • نصطفيها، عن رِبْقَةِ الْمُسْتَحِيلِ
حشد الشاعر عددا من المفردات من مجموعة واحدة تخدم معنى محددا، فكانت قادرة على توصيل معناه، وحمْل صوره، فعلى سبيل المثال :
• مفردات الطبيعة :
الليل ــ الأرض ــ الوحول ــ السديم ــ الأرخبيل.
• مفردات الزمان :
الوقت ــ الليالي ــ الليل ــ مواسم ــ الفصول ــ فجر.
• مفردات المكان :
بعد ــ مع ــ الأرض ــ الفضاء.
• مفردات الاحتراق :
الضريم ــ أسرجت ــ النار.
• ومفردات النور :
ضوء ــ نيرات.
وأعطى الشاعر نصه بعدًا صوتيا، وذلك من خلال ذكر بعض الأصوات ومنها : هدير ــ عويل. أما الصور الجمالية في النص، فكانت كثيرة جدا، وجاءت عفوا، ولم يقصد إليها الشاعر، ووظفها توظيفا فنيا، ومنها :
• التشبيه في :
كغراب له ملامح غول
وهي صورة أتوقف عندها قليلا
كلاهما قبيح : "الغراب والغول"، وزادهما التشبيه قبحا على قبح.
فالغراب هو نذير الشؤم، وهو من الفواسق التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها في الحل والحرم.
والغول من المستحيلات التي ذكرها الشاعر القديم، وهو حيوان خرافي شط الناس في تقبيح منظره، وتوصيف صورته الكريهة لدرجة أخافوا به الأطفال.
وهنا تشبيه آخر برع فيه الشاعر، واتسعت صورته باتساع المشبه والمشبه به:
يتمطى في مهجة الأرض حتى • • • صار وجه الفضاء كالأرخبيل
• والاستعارات – في النص - كثيرة، فللأرض مهجة، وللفضاء وجه، فمن الاستعارات المميزة:
وأغارت على رؤاها الأماني
حيث شبه الأماني بالجيش الذي يغير على الأعداء، وهنا حيث لا عدو، وإنما هي رؤى!
ونلمح استعارة مميزة وفق فيها الشاعر، في قوله :
وَسَتَرْفُو جِرَاحَ قَلْبِ الْعَلِيلِ
حيث شبه القلب بالثوب، وجراح القلب بالشقوق التي تصيب الثوب المهترئ، وشبه المواسم النيرات بالرفَّاء الذي به تختفي تلك الشقوق وتندمل هاتيك الجراح.
ما أجملها من صورة!
وهناك صورة ممتدة لثلاثة أبيات؛ حيث جاء بها على أسلوب الشرط الذي كانت أداته وفعله في بيت : "إن تكن"، وجوابه بعد بيتين "فستأتي"، وذلك يدل على قدرة الشاعر على الإمساك بخيوط القصيدة وترتيب مكوناتها:
إِن تَكنْ أَغَفَتِ الليالي اِرْتِيَاعًا • • • وَتَوَارَتْ فِي فُلْكِهَا الْمَجْهُولِ
وَأَغارتْ على الأمانِي المَنايا • • • عاصفَاتٍ حتى بطلْعِ النخيل!
فَسَتَأْتِي مَوَاسِمُ نَيِّرَاتٌ • • • وَسَتَرْفُو جِرَاحَ قَلْبِ الْعَلِيلِ
وَأَغارتْ على الأمانِي المَنايا • • • عاصفَاتٍ حتى بطلْعِ النخيل!
فَسَتَأْتِي مَوَاسِمُ نَيِّرَاتٌ • • • وَسَتَرْفُو جِرَاحَ قَلْبِ الْعَلِيلِ
من جماليات القصيدة أيضا الترادف، الذي جاء لتأكيد المعنى ــ ومنه :
ينحط ــ يهوي
والتضاد لتوضيح المعنى، ومنه :
ينحط ــ يعلو
وأيضا الجناس الذي يعطي الكلمات جرسا موسيقيا، فقد وُجد في مواضع مختلفة، ومنها : أغنى وأقنى.
أجاد الشاعر في اختيار مفرداته؛ فهي رقيقة موحية، ومن ذلك :
نسغ ــ يجوس ــ ربقة ــ أغفت ــ صفو.
كذلك برع شاعرنا في توظيف التقديم والتأخير، فقدَّم ما حقه التأخير لتحقيق أغراض بلاغية منها الاهتمام بالمقدَّم، ومنها الاختصاص، وهما لا يكونان إن أخره، ومن ذلك قوله:
لَكِ أَسْرَجْتُ ماخرَ الْوَقْتِ صَحْوًا • • • فِي زَمَانٍ هَدِيرُهُ كَالْعَوِيلِ
فالترتيب الطبيعي : أسرجت لك.وكذلك :
للأريجِ الوَضِيءِ ما بين قَلبيْنا • • • هُتافٌ مُحاذِرٌ أنْ تَمِيلي !
والترتيب الطبيعي : هتاف للأريج.القالب الذي يعرض الشعراء معانيهم عبره، ويقدمون به أفكارهم يكون عبر الأسلوبين : الخبر والإنشاء.
في نص محمد الأمير كان حظ الخبر أكبر، فجاءت جميع الأبيات خبرية ما عدا بيتا واحدا، جاء إنشائيا طلبيا بالنداء:
يا سُليمى مَا كَان لِلنَّارِ تَخْبُو • • • بَيْنَ إلفَينِ فِي السَّدِيمِ الطَّوِيلِ
الجمل في القصيدة تراوحت بين الاسمية والفعلية، والمعلوم أن الجملة الاسمية توحي بالثبوت والاستمرار، والفعلية توحي بالحدوث والتجدد، فنجح شاعرنا في اختيار القالب المناسب للمعنى:
فيأتي بالاسمية؛ حيث أراد ثبوتا ـــ ويأتي بالفعلية؛ حيث يريد حركة.
وقد تواردت ثلاثة أفعال في بيت واحد، أعطت النص بُعدًأ حركيا متماوجا :
وَهُوَ يَنْحَطُّ تَارَةً ثُمَّ يَعْلُو • • • ثُمَّ يَهْوِي مُضرَّجاً بالْوُحُولِ
القصيدة من بحر الخفيف، وهو من أجمل بحور الشعر، وأكثرها خفة ورقّة، وموسيقية، فهو الخفيف الذي خفت به الحركات؛ لذلك أكثرَ الشعراء من النظم عليه، وهو مناسب للتعبير عن مشاعر الفرح والحزن والرثاء والتصوير النفسيّ للانفعالات والخلجات، وهو بحر ثنائيّ التفعيلة، مزج بين تفعيلتي الرمل والرجز: فاعلاتن مستفعلن.
بدا جليا تأثر الشاعر بالقرآن الكريم في عدة مواضع من النص، ومن ذلك أَغْنَى وأقنى، وهي من قوله تعالى: (وأنه هو أغنى وأقنى) [النجم 48].
وأيضا كلمة يجوس، بمعنى يطوف ويتحرك، فهي كلمة قرآنية: (فجاسوا خلال الديار) [الإسراء 5].
وكذلك كلمة نصطفيها، فقد وردت في: (إن الله اصطفى آدم ونوحا ...) [آل عمران 33].
كانت تلك تأملات خجولة، حول نص باذخ، لشاعر مجيد، أرجو أن أكون قد فتحت الباب، وتركته مواربا؛ ليلج منه نقاد آخرون يقتحمون مجاهل هذا النص المكتنز.
|| طارق يسن الطاهر : عضو منهل الثقافة التربوية.