
د. محمد الصفى بن عبدالقادر
عدد المشاركات : ﴿65﴾
التسلسل الزمني : 1439/04/01 (06:01 صباحاً)
عدد القراءات : ﴿5294﴾
تنامي ظاهرة أطفال الشوارع بين لغة الإكراهات وحنين المعاناة.
◄ هم أطفال بلادي، يجوبون الْمَقَاهِي والشوارع الرئيسية داخل المدن بحثا عن لقمة عيش مؤدين فاتورة الفقر والتهميش والتفكك الأسري.
براعم بنظرات بريئة، ملابس متسخة، بطون فارغة وعقول مقرقبة ومصير مجهول، هم أطفال الشوارع مجردين من طفولتهم معرضين أكثر من غيرهم للتعسفات الجنسية والاستغلال بأبشع طرقه، أطفال مشردون تنكروا للمجتمع الذي أفسدهم، ونفض يده منهم، شهادات بريئة لأطفال أبرياء، حالات صادفتهـا وأخرى سمعت عنها، من هنا وهناك، عبر ربوع هذا الوطن. الحالة واحدة والأسماء متعددة، قد تتشابه أحيانا وقد تتباين لتبقى الحالة واحدة، الساحة وطن والوضعية مشردين بدون هوية ولا عنوان والخسارة فادحة في مجال القيم الروحية والإنسانية، خسارة وطن في شعبه.
لعل من السمات التي أضحت تؤثث شوارع مدينة آزمور وأزقتها بشكل ملفت للنظر خلال السنوات الأخيرة، ظاهرة الأطفال المشردين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 10 و 17 سنة يجوبون الشوارع ليل نهار في طوابير تجمع بين الجنسين محملين بألوان المعاناة واللامبالاة البادية على ملامحهم وأسمالهم وهم يتنعمون بشمات مادة اللصاق "السيلسيون"، أطفال انقطعت صلاتهم بذويهم وأقاربهم نتيجة ظروف معيشية أو عائلية اضطرتهم للمبيت خارج البيت متخذين من السوق الأسبوعي وسوق لغزل وبعض المطاعم والمقاهي و "السناكات" مصدرا للقمة عيشهم من فضلاتها ومن حدائق المدينة وجنباتها مرتعا لهم بالنهار، أما بالليل فتكون بعض الخرب وجنبات العمارات وأسطح بعض المؤسسات مركز مبيت لهم، وأحيانا تجدهم ملقون تحت قنطرة نهر أم الربيع بأفواههم المشرعة بعد جولاتهم بالليل عبر شوارع المدينة مستغلين خلوة المكان وسكون الليل لينطلقوا في فيالق تزعج الناس وهم نيام.
وترتبط ظاهرة أطفال الشوارع هذه بجوانب اقتصادية واجتماعية تساهم فيها عوامل متعددة تتمثل في نزوح ساكنة القرى الفقيرة للاستقرار بتخوم المدينة في أحياء عشوائية غير مهيكلة كدوار دراعو ودوار سواني الموس والمصلى وغيرها وهناك حالات خرجت للشارع عن طواعية إثر انفصال الأبوين أو نتيجة تفكك أسري قائم على الفراغ أدى إلى خلق آثار مؤذية للطفل تجعله يعاني عادة من التحصيل الدراسي ويقوده إلى التأخر ثم الاستسلام ثم المغادرة المدرسية في سن مبكرة، كما عبر عن ذلك طفل لم يتجاوز بعد العاشرة من عمره وهو يجوب أرجاء السوق بأكياس بلاستيكية "خرجت للشارع بسبب والدي الذي لا يفارق الخمرة، كان كلما دخل البيت إلا وانهال على أمي بالضرب وعلى إخوتي مطالبا إياهم بالخروج للبحث عما يأكلونه، لقد حول بيتنا لمرتع للسكارى والمنحرفين لدرجة أنهم بدؤوا يتحرشون بأمي وإخوتي على مرأى من أبي الشيء الذي دفع بأمي للهروب رفقة أختي الصغيرة بينما أنا غادرت الدراسة وهربت بدوري تاركا له المكان بحثت عن أمي لكن لم أعرف مكانها وهي لم تسأل عني، كانت وجهتي الدار البيضاء لكنني لم أتحمل كبرها وخطر مشرديها فجئت إلى هنا وربما غدا قد أتحول لوجهة أخرى إلى أن يفعل الله ما يريد".
وتستفحل الظاهرة لدى معاشرة ومخالطة رفاق أشبه بوضعه يعيشون نفس المعاناة فتبدأ الممارسات الشاذة والسلوكات المنافية لكل الأعراف والقوانين كنوع من التذمر والعصيان الرافض للعيش داخل المجتمع كسلوك انتقامي بدءا من تناول المخدرات بكل أشكالها الشيء الذي يزيد من حدة التصرف الفردي للمتشرد خصوصا في جانبه النفساني، فيما جاء تصريح طفل آخر في ربيعه الثاني عشر حيث عبر لنا أن غياب الحنان وافتقاره لأجواء البيت الهادئ كانا هما السبب لانخراطه في قوقعة التشرد حيث أنه كان يعيش وباقي إخوته وسط جو عائلي يفتقد لكل أواصر المحبة والحنان، سيما بعد وفاة والدته ومجيء زوجة الأب "ماما الغول" التي أصبحت تقاسمهم البيت ولأنها لم تكن تنجب فما كان منها إلا أن صبت عليهم غضبها حيث كانت تكيل لهم السب والشتم والضرب بدون سبب وحرمانهم من التغذية واللباس أمام صمت الأب الذب أصبح مغلوبا على أمره أمامها، مما اضطره إلى مغادرة البيت ومعانقة الشارع الذي وجد فيه ضالته وحريته التي طالما بحث عنها وبات من المدمنين على "السيلسيون" رافضا كل من يتوسط له بالعودة للبيت الذي أصبح بالنسبة له قاعة احتضار بطيء.
لتبقى حالة الفتاة ذات السابعة عشرة كحالة فريدة لكونها أول فتاة بآزمور تعانق الشارع من بابه الواسع وأول فتاة ترتبط بالسيلسيون لمدة تزيد عن الست سنوات حيث تبدأ يومها بجولة عبر المقاهي استجماع قسط من النقود قصد شراء عدتها اليومية "أنابيب سيلسيون" ثم تبدأ بعدها في ملاطفة هذا وذاك، فهناك من يتقبل مزاحها هذا ومنهم من ينهرها وقد يتجرأ على ضربها أحيانا أخرى، وحسب ما عبرت عنه في غفلة أنها تتعرض يوميا لتحرشات جنسية من أناس لهم مكانتهم في المجتمع. فيما حالة الهارب رقم أربعة في جولتنا هذه والذي كان منزويا على سور المدينة العتيقة يداعب "ميكته" فقد كان بالفعل هاربا من منزلهم فحالته لها من الدلالات ما يجعل هذا الظاهرة في تصاعد يومي ولها من المسببات ما يكفي في خضم مجتمع تلاشت فيه أواصر العائلة، كونه حسب ما أخبرنا به أن والده يرغمه على الاشتغال بدل الذهاب للمدرسة وضرورة تحصيل عشرة دراهم في اليوم على الأقل وفي حالة عدم الإتيان بها يكون جزاؤه الضرب والحرمان من الأكل ومكان للنوم مما حدا به للهروب ذات ليلة ومعانقة الشارع بكل متطلباته جاعلا بيع السجائر وسيلة للاقتيات والتلذذ بكل ما يخدر الدماغ لا يهمه من هذه الحياة إلا الشعور بطعم الاستنشاق ومعانقة الأقران.
ظاهرة شدت انتباه كل الساكنة و طرحت العديد من الأسئلة حول دور السلطات المحلية ومجلس المدينة وجمعيات المجتمع المدني للتصدي لها بخلق فضاءات خاصة لهذه الشريحة كمحاولة لإدماجهم في مدينة تفتقد لمثل هذه المؤسسات الإيوائية الخاصة بالأطفال المشردين والأطفال المتخلى عنهم.
■ فإلى متى سيبقى سؤال بهذا الحجم في سلة الانتظارات التي لا تنتهي.
|| د. محمد الصفى بن عبدالقادر : عضو منهل الثقافة التربوية.
◄ هم أطفال بلادي، يجوبون الْمَقَاهِي والشوارع الرئيسية داخل المدن بحثا عن لقمة عيش مؤدين فاتورة الفقر والتهميش والتفكك الأسري.
براعم بنظرات بريئة، ملابس متسخة، بطون فارغة وعقول مقرقبة ومصير مجهول، هم أطفال الشوارع مجردين من طفولتهم معرضين أكثر من غيرهم للتعسفات الجنسية والاستغلال بأبشع طرقه، أطفال مشردون تنكروا للمجتمع الذي أفسدهم، ونفض يده منهم، شهادات بريئة لأطفال أبرياء، حالات صادفتهـا وأخرى سمعت عنها، من هنا وهناك، عبر ربوع هذا الوطن. الحالة واحدة والأسماء متعددة، قد تتشابه أحيانا وقد تتباين لتبقى الحالة واحدة، الساحة وطن والوضعية مشردين بدون هوية ولا عنوان والخسارة فادحة في مجال القيم الروحية والإنسانية، خسارة وطن في شعبه.
لعل من السمات التي أضحت تؤثث شوارع مدينة آزمور وأزقتها بشكل ملفت للنظر خلال السنوات الأخيرة، ظاهرة الأطفال المشردين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 10 و 17 سنة يجوبون الشوارع ليل نهار في طوابير تجمع بين الجنسين محملين بألوان المعاناة واللامبالاة البادية على ملامحهم وأسمالهم وهم يتنعمون بشمات مادة اللصاق "السيلسيون"، أطفال انقطعت صلاتهم بذويهم وأقاربهم نتيجة ظروف معيشية أو عائلية اضطرتهم للمبيت خارج البيت متخذين من السوق الأسبوعي وسوق لغزل وبعض المطاعم والمقاهي و "السناكات" مصدرا للقمة عيشهم من فضلاتها ومن حدائق المدينة وجنباتها مرتعا لهم بالنهار، أما بالليل فتكون بعض الخرب وجنبات العمارات وأسطح بعض المؤسسات مركز مبيت لهم، وأحيانا تجدهم ملقون تحت قنطرة نهر أم الربيع بأفواههم المشرعة بعد جولاتهم بالليل عبر شوارع المدينة مستغلين خلوة المكان وسكون الليل لينطلقوا في فيالق تزعج الناس وهم نيام.
وترتبط ظاهرة أطفال الشوارع هذه بجوانب اقتصادية واجتماعية تساهم فيها عوامل متعددة تتمثل في نزوح ساكنة القرى الفقيرة للاستقرار بتخوم المدينة في أحياء عشوائية غير مهيكلة كدوار دراعو ودوار سواني الموس والمصلى وغيرها وهناك حالات خرجت للشارع عن طواعية إثر انفصال الأبوين أو نتيجة تفكك أسري قائم على الفراغ أدى إلى خلق آثار مؤذية للطفل تجعله يعاني عادة من التحصيل الدراسي ويقوده إلى التأخر ثم الاستسلام ثم المغادرة المدرسية في سن مبكرة، كما عبر عن ذلك طفل لم يتجاوز بعد العاشرة من عمره وهو يجوب أرجاء السوق بأكياس بلاستيكية "خرجت للشارع بسبب والدي الذي لا يفارق الخمرة، كان كلما دخل البيت إلا وانهال على أمي بالضرب وعلى إخوتي مطالبا إياهم بالخروج للبحث عما يأكلونه، لقد حول بيتنا لمرتع للسكارى والمنحرفين لدرجة أنهم بدؤوا يتحرشون بأمي وإخوتي على مرأى من أبي الشيء الذي دفع بأمي للهروب رفقة أختي الصغيرة بينما أنا غادرت الدراسة وهربت بدوري تاركا له المكان بحثت عن أمي لكن لم أعرف مكانها وهي لم تسأل عني، كانت وجهتي الدار البيضاء لكنني لم أتحمل كبرها وخطر مشرديها فجئت إلى هنا وربما غدا قد أتحول لوجهة أخرى إلى أن يفعل الله ما يريد".
وتستفحل الظاهرة لدى معاشرة ومخالطة رفاق أشبه بوضعه يعيشون نفس المعاناة فتبدأ الممارسات الشاذة والسلوكات المنافية لكل الأعراف والقوانين كنوع من التذمر والعصيان الرافض للعيش داخل المجتمع كسلوك انتقامي بدءا من تناول المخدرات بكل أشكالها الشيء الذي يزيد من حدة التصرف الفردي للمتشرد خصوصا في جانبه النفساني، فيما جاء تصريح طفل آخر في ربيعه الثاني عشر حيث عبر لنا أن غياب الحنان وافتقاره لأجواء البيت الهادئ كانا هما السبب لانخراطه في قوقعة التشرد حيث أنه كان يعيش وباقي إخوته وسط جو عائلي يفتقد لكل أواصر المحبة والحنان، سيما بعد وفاة والدته ومجيء زوجة الأب "ماما الغول" التي أصبحت تقاسمهم البيت ولأنها لم تكن تنجب فما كان منها إلا أن صبت عليهم غضبها حيث كانت تكيل لهم السب والشتم والضرب بدون سبب وحرمانهم من التغذية واللباس أمام صمت الأب الذب أصبح مغلوبا على أمره أمامها، مما اضطره إلى مغادرة البيت ومعانقة الشارع الذي وجد فيه ضالته وحريته التي طالما بحث عنها وبات من المدمنين على "السيلسيون" رافضا كل من يتوسط له بالعودة للبيت الذي أصبح بالنسبة له قاعة احتضار بطيء.
لتبقى حالة الفتاة ذات السابعة عشرة كحالة فريدة لكونها أول فتاة بآزمور تعانق الشارع من بابه الواسع وأول فتاة ترتبط بالسيلسيون لمدة تزيد عن الست سنوات حيث تبدأ يومها بجولة عبر المقاهي استجماع قسط من النقود قصد شراء عدتها اليومية "أنابيب سيلسيون" ثم تبدأ بعدها في ملاطفة هذا وذاك، فهناك من يتقبل مزاحها هذا ومنهم من ينهرها وقد يتجرأ على ضربها أحيانا أخرى، وحسب ما عبرت عنه في غفلة أنها تتعرض يوميا لتحرشات جنسية من أناس لهم مكانتهم في المجتمع. فيما حالة الهارب رقم أربعة في جولتنا هذه والذي كان منزويا على سور المدينة العتيقة يداعب "ميكته" فقد كان بالفعل هاربا من منزلهم فحالته لها من الدلالات ما يجعل هذا الظاهرة في تصاعد يومي ولها من المسببات ما يكفي في خضم مجتمع تلاشت فيه أواصر العائلة، كونه حسب ما أخبرنا به أن والده يرغمه على الاشتغال بدل الذهاب للمدرسة وضرورة تحصيل عشرة دراهم في اليوم على الأقل وفي حالة عدم الإتيان بها يكون جزاؤه الضرب والحرمان من الأكل ومكان للنوم مما حدا به للهروب ذات ليلة ومعانقة الشارع بكل متطلباته جاعلا بيع السجائر وسيلة للاقتيات والتلذذ بكل ما يخدر الدماغ لا يهمه من هذه الحياة إلا الشعور بطعم الاستنشاق ومعانقة الأقران.
ظاهرة شدت انتباه كل الساكنة و طرحت العديد من الأسئلة حول دور السلطات المحلية ومجلس المدينة وجمعيات المجتمع المدني للتصدي لها بخلق فضاءات خاصة لهذه الشريحة كمحاولة لإدماجهم في مدينة تفتقد لمثل هذه المؤسسات الإيوائية الخاصة بالأطفال المشردين والأطفال المتخلى عنهم.
■ فإلى متى سيبقى سؤال بهذا الحجم في سلة الانتظارات التي لا تنتهي.
|| د. محمد الصفى بن عبدالقادر : عضو منهل الثقافة التربوية.