أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

أبلة كوثر ﴿2921﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : خالد حماد العثماني.
إجمالي القراءات : ﴿3459﴾.
عدد المشــاركات : ﴿26﴾.

برناردين شميث : مربية.
■ الآنسة برناردين شميث ملك من ملائكة الرحمة في نظر 250 أسرة من مدينة شيكاغو. فقد كان أبناء هذه الأسر وبناتهم من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة الذين تشأوا ضعاف العقول، مضطربي الوجدان فوُصِم بعضهم بالبله والبعض الآخر بالعته وغير ذلك. وقطعت المدارس الأمل والرجاء في أمر تربيتهم واعتذرت عن قبولهم. وهنا بدأت الفتاة برناردين تستخدم مواهبها، وتخرج ميولها وآمالها من مجرد الرغبة والشعور إلى حيز الفعل والتنفيذ، إذ أسست معهداً وضيعاً لعدد قليل من هؤلاء الأطفال، فقضت ثلاثة أعوام في تربيتهم تربية خاصة، عالجت خلالها هذا الضعف العقلي والاضطراب الوجداني، ثم قضت خمسة أعوام بعد ذلك في إمدادهم بالمواد الدراسية، وسائر نواحي النشاط التي تلائم مداركهم وميولهم. وقد اقتحم هؤلاء الناشئون بعد ذلك ميادين العيش، فكان النجاح حليفهم، بعد أن كان قد كتب عليهم العجز واليأس، وأصبحوا يعولون أنفسهم بعد أن قيل أنهم سيكونون عالة على من سواهم، واتزنت عقولهم واستقر وجدانهم، بعد أن قيل أنهم من الشواذ وأنهم سيظلون كذلك طول أعمارهم.

● كيف حدث ذلك ؟ وما لذي فعلته برناردين ؟
الآنسة برناردين تخرجت من كلية المعلمين بشيكاغو سنة 1931 وكانت في التاسعة عشر من عمرها، قدمت على التدريس، لكن لم تجد مكاناً ووجدت اسمها في ذيل القائمة من بين الطلاب المتقدمين والراغبين في ملء وظائف التدريس، صممت أن تفتح مدرسة على نفقتها، فاستأجرت طابقاً علوياًّ فوق قاعة حانوتي، ودعت من يشاء من الأطفال الذين نبذتهم المدارس الأخرى إلى الالتحاق بمدرستها، وأعلنت ذلك بقولها "إنني في حاجة إليهم وهم في حاجة إليَّ".
وكان منظر تلك المجموعة المتنافرة والمضطربة من الأطفال في اليوم الأول، كافياً أن يبعث اليأس، في نفوس أشد المربين حذقاً وأكثرهم مهارة وأطولهم خبرة. كانت هذه المجموعة مؤلفة من 70 صبياًّ وبنتاً، تتراوح أعمارهم بين السابعة والسادسة عشرة، وتتفاوت مراحلهم الدراسية بين السنة الأولى الابتدائية وحتى الثالثة ثانوي، ويبلغ مقياس الذكاء (I.Q.) عند بعضهم 40 لا غير، مثال ذلك أن الطفل ʺارتشيʺ قد بلغ 12 من عمره ومع ذلك لم ينطق في حياته بأكثر من كلمتين، وهما فنجان وطبق. وآخر عمره 11 سنة، منغولي الملامح، استهل نشاطه المدرسي بتسلق صندوق الآلات وانتشل منه إناءاً مملوءاً بالغراء وصبه على نفسه وملابسه، وكل ما تركه هذا العمل من الأثر في نفسه أنه قال "لزج"، والفتاة "هيلانه" بلغ حظها من الخوف والجبن أنها اندست تحت إحدى الموائد. وغير هؤلاء من الأطفال، كان لا يبدوا على وجوههم أو منظرهم التأخر أو ضعف العقل أو اضطراب الوجدان، ومع ذلك كانوا عاجزين عن لبس أحذيتهم وجواربهم بأنفسهم، أو مجرد الذهاب إلى مكان معين، أو معرفة الطريق المؤدية إلى المدرسة من بيوتهم.
وكانت المسألة الأولى التي وجَّهت إليها الآنسة برناردين شميت عنايتها، تعليم هؤلاء الصغار مبادئ الاستقلال، أي الاعتماد على ذواتهم. وتوصلاً لهذه الغاية أرسلت إلى أمهات الأطفال وآبائهم الإعلان الآتي : (ابتداء من بعد غد أرسلوا ولدكم إلى المدرسة بغير أن يرافقه أحد). وقد تلقت بالطبع احتجاجات عدة، مثال ذلك أن أمًّا كتبت تقول : (ولكن ابنتي الينور لا تستطع الذهاب وحدها إلى مخزن الأدوية الذي لا يبعد عنا سوى بضعة أمتار) فكان جواب برناردين حازما : "إذاً فقد حان لها أن تفعل ذلك".
وكانت برناردين تسير مع الأطفال جماعات من المدرسة إلى الزاوية التي منها يتجهون إلى منازلهم. وفي اليوم التالي كان حديث الأطفال يدور حول الأماكن التي اتخذوها دليلاً على معرفة الطريق، مثال ذلك صندوق البريد الأخضر اللون، المخبز ذو الرائحة الزكية، كما رسموا خرائط بسيطة تبين الطريق الذي سلكه كل منهم، وراجعوا مواقعهم مع معلمتهم برناردين (مس شميت).
وبعد ثلاثة أيام ذهب الأطفال جميعهم إلى المدرسة - بنين وبنات - ظافرين متحمسين لأن واحداً منهم لم يضل السبيل، وكانوا في أماكنهم قبل الموعد المحدد للدخول، وسرعان ما حلت مس شميت هذا المشكلة حتى وجهت عنايتها إلى مسألة أخرى أطلقت عليها اسم "التعرف على شوارع شيكاغو" وهكذا أخذت ترافقهم في بادئ الأمر إلى الأماكن المجاورة كأقرب دار للسينما وأقرب مخزن للأدوية وأقرب محل تجاري وأقرب ملعب. وبعد قليل جرؤ الشجعان منهم أن يذهبوا إلى الأماكن وحدهم كما ذهب من عدا ذلك جماعات.
ولم يمض زمن طويل حتى اعتاد الأطفال أن يركبوا كلٌّ بمفرده عربات الترام لزيارة جمعية شيكاغو التاريخية، والمرصد الفلكي الشهير، وحديقة الأسماك، وحديقة الحيوانات، وغيرها من الأماكن الواقعة في أقصى جهات المدينة، وقد تعلموا كيفية الوصول إليها بالطريقة عينها التي تعلموا بها كيف يذهبون إلى المدرسة من بيوتهم بأنفسهم. وزيادة للحيطة سلَّحت مس شميت كل طفل بتعليمات وافية، يقدمها إلى سائق الترام أو البوليس، إذا ما ضل الطريق. وبهذه المثابة اضطر الطفل الجبان الخجول إلى الكلام والإفصاح عما يريد، واشتدت رغبته في الذهاب وحده إلى شتى الأماكن أسوة بغيره من الأطفال. وتلا ذلك مشروع "الأسلاك والأجراس" وهذا مشروع خاص باستعمال التليفون، والغرض منه تحسين اللغة الكلامية، وتقوية الثقة بالنفس. وقد استدعت مس شميت موظفاً خاصاً من مصلحة التليفونات (عادة فتاة واضحة النطق عذبة الصوت)، لتعليم الأطفال كيف يديرون الجهاز طبقاً للأرقام التي يطلبونها، وكيف يخاطبون من يريدون الاتصال بهم بوضوح. وأتيح لهم زيارة مركز التليفونات ومشاهدة العاملات، واللوحات الكبيرة التي تظهر عليها الأضواء وتختفي، فيبهرهم منظرها. لذلك قرروا فيما بينهم تقليد هذه اللوحات في غرف الدراسة، فاتخذوا قطعاً من الورق المقوى المدهون باللون الأسود قاعدة، ومدّوا "خطوطاً " تليفونية من المطاط، وقد ساهم طفل في العاشرة من عمره - ومقياس ذكائه 50 - في هذا العمل، بأن أحضر من منزله بطارية، بعد أن علمه أبوه كيف يولد منها ضوءاً، كما أحضر طفل آخر أسلاكاً وقطعتين من الصفيح وصنع منها جهازاً مستقلاُ. وحدث يوماً أنَّ طفلاً أحضر كتاباً مفتوحاً وأراه لمس شميت وأشار إلى صورة قائلاً "هذا تليفون" فأجابت "نعم هذا تليفون" وسرعان ما أدركت أن هذا الطفل هو صاحبنا "ارتشي" الذي كان محصوله اللغوي لا يتجاوز الكلمتين "فنجان وطبق"، فنادته "ارتشي" وهي تحاول أن يكون صوتها طبيعيا هادئا "أتريد أن تقرأ لي شيئاً ؟" وفعلاً قرأ أمامها وهو شديد الوثوق بالنفس صفحة ونصف الصفحة قراءة سليمة.
وهكذا قضت مس شميت 3 سنوات، تعالج مع الأطفال مشروعاً آخر. مثال ذلك أنها حولت حجرة الدراسة إلى مخزن تجاري، اجتمع فيه البائع والمشتري، واكتظت فيه السلع من ملابس ومأكولات محفوظة في العلب، ومجوهرات. كما علمتهم كيف ينتفعون بمكتب قلدوا فيه مكتب البريد، ويديرون مطعماً، ومكتباً للخدمة. وهكذا تذرعت مس شميت بالصبر والحلم وتسلحت بالعطف وكلمات المديح لكل مناسبة. وبذلك استمرت جذوة النشاط في معهدها في الاشتعال وزاد ضوؤها لمعاناً، ولم يأت ربيع سنة 1934 حتى كان "فردى" - ذلك الطفل المنغولي الملامح الذي سبقت الإشارة إلى حادثته في صندوق الآلات - لم يأت ربيع ذلك العام حتى كان في السنة الخامسة من مرحلة الدراسة الابتدائية، وحتى كانت الصبية "هيلانه" (التي تختفي عدة أيام في إحدى الخزائن) في نهاية التعليم الابتدائي. وبالإيجاز أصبح كل من أولئك الذين حكم عليهم بالعجز صالحاً للقيام بالأعمال المدرسية كسائر الأطفال العاديين.
بعد ذلك بدأت مس شميت صفحة أخرى في حياتها، فقد التحقت بإحدى الجامعات لتلقى دراسة عليا لمدة سنة واحدة، أصبحت بعدها معلمة في معهد خاص بأطفال دون العاديين مقدرة كان قد يئس غيرها من المعلمين والمعلمات في أمر تربيتهم. وقد اختارت مس شميت لهذا المعهد 254 صبياً وبنتاً تتراوح أعمارهم بين 12- 14 سنة، وكان أذكاهم لا يتجاوز مقياسه 69 (الطفل المتوسط العادي رقمه الذكائي 100) وكان متوسط أرقامهم الذكائية 7ر51، ومن المعلوم أن كل طفل ينقص عن 70 يمكن أن يوصف بكونه ضعيف العقل. وكانت مهمة مس شميت أن تطبق طريقتها السالفة الذكر على هذا العدد من الأطفال، فقد استعانت في هذه المرة بإحدى عشرة معلمة أخرى. وكانت نظرتها بوجه عام كالآتي أن الطفل السليم العادي يتعلم المشي والكلام وغيرها من المسائل المعقدة التي تتطلبها الحاجة من تلقاء ذاته. أما ضعيف العقل ففي حاجة إلى الإرشاد، وهذه مهمتها ومهمة المعلمات اللاتي تعاوننها.
ومن أغرب ما توصلت إليه من النجاح بعد ثماني سنوات في هذه التجربة الفريدة، أن نحو 81% من الأطفال زادت أرقام ذكائهم بمقدار 30 وحدة، أي أن الطفل الذي كان مقياسه 60 ارتفع إلى 90، وهذا نجاح لا يصدق، خصوصاً وأن أكثر علماء النفس لا يزالون يعتقدون أن الرقم الذكائي أقرب إلى الثبات منه إلى التغير. ولم يفشل في هذه التجربة سوى 7% من الأطفال، إذ بقي هؤلاء رغم كل علاج ضعفاء العقول. ومما يثير الإعجاب أن 25% من العدد الذي التحق بهذا المعهد (أي 254 طفلاً) قد تمكن من إتمام دراسته الثانوية، والتحق بعض هؤلاء بدراسات عليا ليلية. وقد تمكن أكثرهم 80% من إيجاد عمل ودخل جيد.
ومن ذكريات مس شميت في هذه التجربة الفريدة أن إحدى الأطفال واسمها "كارولين" عند بدء حياتها المدرسية وأول عهدها بمس شميت، كان يغما عليها كلما طلب إليها أن تقرأ سطراً. ولكنها أخذت تتقدم باطراد، حتى أنها في السنة النهائية يوم توزيع الشهادات، اختيرت رئيسة تشريفات في الحفلة، وقدمت المدير العام للتعليم في شيكاغو أمام جمهور عدده 1200.
ومن الحوادث التي تفاخر بها مس شميت أن "بطرس" أحد هؤلاء الأطفال حضر إليها أخيراً ليودعها، فقد عزم الذهاب مع أمه وأخته إلى فلوريدا لتمضية عطلة فصل الشتاء هناك. وكان مسافراً إلى تلك الولاية البديعة في سيارته الجديدة الخاصة، وقد اصبح موظفاً في مصنع سيارات، ويتقاضى دخلا أسبوعيا مرتفعاً، ومن الغريب أن مس شميت كانت تخشى أن "بطرس" هذا لن يفلح، فقد قضى زمناً لا يستطيع فيه أن يتهجأ كلمة تزيد على حرفين، وكان كل ما ينطق به عند التحاقه بمدرستها "كاكا ـ كاكا".

هذه قصة مس شميت، وقد ظهرت لأول مرة في مقال نشرته مجلة المدرسة والاجتماع الأمريكية فاهتزت لها دور التربية، وتطرق الشك إلى أذهان الكثيرين من المربين، وارتابوا في صحة ما سمعوه خصوصاً ارتفاع مقياس الذكاء إلى ذلك الحد، وقد اختارت ولاية انديانا مس شميت أخيراً، فكلفتها أن تدرب المعلمات في كلية التربية فيها على طريقتها الخاصة حتى يساهمن في الغاية بهذه الفئة من الأطفال الذين يطلق عليهم اسم ضعفاء العقول.
◄ مجلة : التربية الحديثة - أكتوبر 1947 - السنة 21 - العدد 1.