من أحدث المقالات المضافة.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. محمد عبدالله الشدوي.
إجمالي القراءات : ﴿5491﴾.
عدد المشــاركات : ﴿34﴾.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للعالمين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويتمم فيهم مكارم الأخلاق بعد أن تعرضت الفضيلة بين البشر إلى إفراط وتفريط خرج بها من دائرة الفطرة الإلهية الحقة التي ارتضاها الله للناس ليكونوا خلفاء الأرض إلى دوائر الرذيلة والانحلال حيث تزعزعت الفضيلة من الوسطية التي امتدح بها الله أمة محمد بقوله : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة : 143) أي : خيارًا عدولاً أصحاب فضيلة، والفضيلة وسط بين طرفين الإفراط والتفريط ولو أخذنا بعض الشواهد الخلقية التي خالف فيها الناس الفضيلة وانجذبوا إلى أحد الطرفين المذمومين لوجدنا أن الناس فعلاً بحاجة إلى مراجعة لأنفسهم وعودة صادقة إلى دائرة الفضيلة الفطرية التي فطر الله الناس عليها.
إن الكرم فضيلة من الفضائل الفطرية التي يرضاها الله ورسوله في الناس لكن صاحبها إذا انجذب إلى أحد الطرفين المذمومين - البخل أو الإسراف - فإنه بذلك يكون خرج من دائرة الفضيلة إلى بؤرة الرذيلة.
■ البخل ـ الكرم ـ الإسراف.
ولذلك كان التوجيه الرباني للحفاظ على هذه الفضيلة يتجلى في قوله تعالى : (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورا) (الإسراء : 29).

لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بقوى وأبعاد داخلية، وانفرد بلطائفها الربانية التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى وتلك القوى قسمها العلماء والمفكرون إلى :
1- النفس (الذات - الحس - الجسم - الروح).
2- العقل.
3- القلب.
وهذه القوى الثلاث رغم أنها من اللطائف الربانية التي لا يعلم سرها إلا هو سبحانه مما جعل العلماء يختلفون في كنهها إلا أنه سبحانه لطيف بعباده حيث أودع تلك القوى فيهم وجعل لهم عليها منافذ تنميها وتربيها وتقودها إما إلى خير أو إلى شر وفي ذلك يقول تعالى : "إنا هديناه السبيل إما كافرًا وإما شكورا".
فالقلب مثلاً مضغة أودعها الله في الجسد فإن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، وهذا وصف الرسول عليه السلام له حيث يقول : "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله".

■ والنفس جاءت بعدة معان في القرآن الكريم :
1- النفس بمعنى الإنسان. قال تعالى : "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" (المائدة : 45).
و "لا تقتلوا أنفسكم" (النساء : 29) "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" آخر سورة البقرة.
2- النفس بمعنى أصل الخلقة (أي : آدم) قال تعالى : "يا أيها الناس أتقوا ربكم الذي حلقكم من نفس واحدة" (النساء : 1). "هو الذي خلقكم من نفس واحدة" (الأعراف : 189).
3- النفس بمعنى الروح حيث يقول تعالى : "والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم" (الأنعام : 93).
أما الروح فهي الروح التي بها حياة البدن حيث لا يعلم كنهها إلا الله تعالى حيث يقول : "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" والعلماء جميعًا متفقون على أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة كما يقول الإمام ابن القيم في كتابه القيم "الروح".
وخير من كتب في الروح والنفس والعقل والقلب الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين حيث يقول في الروح : "إنه يطلق لعدة معان وما يتعلق منه بغرضه في الكتاب معنيان : أحدهما : جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به" وهذا المعنى هو الذي تتجدد به الحياة والموت في غرض الأطباء.
أما المعنى الثاني للروح عند الغزالي فهو : "تلك اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان وهو الذي أراده الله بقوله : (قل الروح من أمر ربي) وهو أمر عجيب رباني تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقيقته".
وهذا المعنى الرحب الذي أشار إليه الإمام الغزالي، وأنه اللطيفة الربانية العالمة المدركة من الإنسان والتي تطلق على النفس والعقل والقلب أيضًا هي مدار حديثنا من حيث إنها قوى إدراك ربانية يجب الحفاظ عليها وتربيتها كما أراد الله تعالى "واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرًا لأنفسكم" (التغابن : 16).
لقد أودع الله تلك القوى واللطائف الربانية في الإنسان وجعل له حظًا من العلم بما يتعلق بالأعضاء المحسوسة للأطباء وأقصد تلك الأعضاء التي تحمل المسميات والمدلولات ذاتها النفس، القلب، العقل حيث إنهم قد وصلوا في دراسة تلك الأعضاء إلى ما يبهر العقول حيث وجدوا أن هناك تعلق بين القلب الصنوبري والقلب المعنوي وكذلك القول بالنسبة للنفس والعقل مما سيأتي ذكره والوقوف على بعض ما توصل إليه العلماء.
أما بالنسبة للعقل فهو مصطلح يستعمل عادة لوصف الوظائف العليا للدماغ البشري خاصة تلك الوظائف التي يكون فيها الإنسان واعيًا بشكل شخصي مثل : الشخصية، التفكير، الجدل، الذاكرة، الذكاء وحتى الانفعال العاطفي يعده بعض العلماء من وظائف العقل، ولقد سمعت في الإذاعة السعودية بتاريخ : 1328/12/2هـ خبرًا مفاده أن العلماء اكتشفوا أن الدماغ يحوي في جزئه الأمامي غدتين مسؤولتين عن المشاعر والسلوك فتذكرت بذلك الخبر العلمي قوله تعالى : "كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)" (العلق).
هذا فيض من غيض مما تعج به العلوم التشريحية الحديثة، وما وعدت به من ذكر ما توصل إليه علماء الأحياء سوف يكون في معرض حديثنا إذ دراستنا هذه تهتم كما ذكرت سابقًا في أكثر من موضع بالقوى الثلاث باعتبارها لطائف ربانية فكيف نصونها وننظفها مما علق بها من أدران وصلت إليها من خلال منافذ أخرى محسوسة لنا وهي :
1- السمع.
2- البصر.
3- التذوق.
4- اللمس.
5- الشم.
6- منافذ خارجية (الثقافة ـ المعاملة ـ الحوادث والآفات).
وكم هي الأدلة والشواهد الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال العلماء والحكماء والشعراء التي تدعو إلى تنزيه هذه المنافذ والتي هي بحق القنوات التي تتغذى منها وبها اللطائف الربانية والقوى الإنسانية التي أودعها الله فينا معشر البشر وفضلنا بها على كثير ممن خلق فله الحمد كثيراً وله الشكر واصباً.
إن الله قد أمر بتنمية قدرات العقل والقلب في قوله تعالى : "فاتقوا الله يا أولي الألباب" (المائدة : 100).
وقوله : "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" (ق : 37) وبعث روح الحياة في القوتين المفكرة (العقل) والذاكرة (القلب) بمجرد انكبابها على تناول الغذاء الروحي وهو معرفة الله وتوحيده بالعبادة والعلم به تعالى وبأحكامه، ثم الحفاظ على النفس الإنسانية والذات الآدمية فلا تطعم إلا طيبًا ولا تشرب إلا سائغًا منزهًا.
لقد مرت البشرية على مدى تأريخها الطويل بحالات من الإفراط والتفريط أضاعت فيهم الفضيلة الفطرية التي ارتضاها الله لخلقه حيث فتحوا منافذهم الخلقية المتنوعة التي أنعم الله بها عليهم لتكون عونًا لهم على الحفاظ على قوى إدراكهم التي تقودهم على الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله لهم في الدنيا والآخرة، وجعله مناط دعوتهم له آناء الليل وأطراف النهار "اهدنا الصراط المستقيم" وقال : "أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم" (الملك : 22).
ولو أخذنا الأمة العربية مثالاً بارزًا لحال إنسان عربي جبل على حب الفضائل ونشأ على تقديسها وأشرب حبها وتعظيمها كحب الكرم وصلة الرحم والشجاعة والنجدة ونصرة المظلوم والصدق والوفاء والعفاف وذلك ما كانت عليه العرب لصفاء فطرتهم ولكون الاعتصام بالفضائل الخلقية من بقايا تعاليم الخليل جد الحجازيين إلا أنهم - ولما كانت كل فضيلة وسطًا بين طرفين - أمعنوا في كل فضيلة حتى بلغوا أطرافها العليا دون الدنيا لجهلهم بضوابط الفضائل وحدودها المعتدلة.
فقد ذموا البخل باعتباره الطرف الأدنى للكرم وجاوزوا حد الكرم وبلغوا حد التبذير،
كما ذموا الجبن وتعدوا حد الشجاعة فبلغوا حد التهور، وذموا الجمود وترك النكاح وأكثروا منه بإباحتهم الأنكحة الفاسدة فجاء الإسلام لمجرد معالجة ردهم عن البلوغ بالفضائل إلى أطرافها العليا لأنها رذائل وبين لهم ضوابط الفضائل تلك التربة الصالحة لقوى الإدراك الإنساني ولا شك أن الأمة التي تبالغ في الإمعان في الفضائل إلى الدرجات العليا يمكن ردها إلى حد الاعتدال.
ومن ثم بعث الله فيهم رسولاً منهم يجلو عن تلك المعادن ما علق بها من غش فيقول صلى الله عليه وسلم : "الناس معدن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" (أخرجه مسلم).
إن الأمة العربية رغم ما كانت عليه من شرك وجدب في الأخلاق أدى إلى نضوب العقل وطيشه، وإلى قسوة القلب وجهله، وإلى ترغيب النفس والتنزي بها في مهاوي العثرات إلا أنها كانت تحمل بقايا أخلاق حميدة تجعل العقل يفقه وإن طاش، والقلب يتدبر وإن أحكمت أقفاله، والنفس ترغب إلى معالي الأمور ولو تخفت لفعل السيئ من القول والعمل، وليس أدل على صدق هذا القول من حرص صناديد قريش رغم كفرهم على السماع للقرآن حتى أن أحدهم وهو الوليد بن المغيرة قال قولته الشهيرة في القرآن الكريم، والتي تضمنت أنه كلام ليس من كلام البشر ولا الجن وإن أسفله مغدق ، وإن أعلاه لمثمر، وأنه يعلو ولا يعلى عليه !