من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. المصطفى رحيب.
إجمالي القراءات : ﴿5401﴾.
عدد المشــاركات : ﴿5﴾.

بيداغوجيا الإدماج ضمن محطاتها التجريبية.
■ من الإشكاليات التي واجهت النظام التربوي في بلادنا - كغيره من الأنظمة التربوية في العالم - مشكلة تجزئة المعارف التي ميّزت المناهج السابقة؛ إذ تضمّ في ثناياها قائمة من المفاهيم يجب على المتعلم تعلّمها، وبعض المهارات عليه اكتسابها في كل مادة من المواد الدراسية .. والنتيجة هي تراكم المعارف لدى المتعلم دون إقامة روابط بينها، مّما يحول دون امتلاكه لمنطق الإنجاز والاكتشاف وتملك كفايات ممتدة. بعبارة أخرى، يجد نفسه يتعلّم من أجل أن يتعلّم، وليس لفعل شيء ما أو تحليل واقع ما أوالتكيّف معه استنادا على ما تعلّمه وراكمه.
وكحلّ لهذه الإشكالية، تمّ اعتماد المقاربة بالكفايات كاختيار بيداغوجي يرمي إلى الارتقاء بالمتعلم، من منطلق أنّ هذه المقاربة تستند إلى نظام متكامل ومندمج من المعارف، الخبرات، والمهارات المنظّمة والأداءات، والتي تتيح للمتعلم ضمن وضعية تعليمية / تعلمية إنجاز المهمّة التي تتطلّبها تلك الوضعية بشكل ملائم.
ومن ثمّ، تغدو هذه المقاربة بيداغوجيا وظيفية تعمل على التحكم في مجريات الحياة بكل ما تحمله من تشابك في العلاقات وتعقيد في الظواهر الاجتماعية، وبالتالي فهي اختيار منهجي يمكّن المتعلم من النجاح في الحياة من خلال تثمين المعارف المدرسية وجعلها صالحة للاستعمال في مختلف مواقف الحياة.

■ إنّ هذه المقاربة كتصوّر ومنهج منظِّم للعملية التعليمية / التعلمية تستند إلى ما أقرّته النظريات التربوية المعاصرة وبخاصّة النظرية البنائية التي تعدّ نظرية نفسية لتفسير التعلم وأساساً رئيساً من الأسس النفسية لبناء المنهاج المدرسي الذي ينطلق من كون المعرفة :
1- تُبنى ولا تنقل.
2- تنتج عن نشاط .
3- تحدث في سياق.
4- لها معنى في عقل المتعلم وتمثلاته.
5- عملية تفاوضية اجتماعية.
6- تتطلّب نوعاً من التحكم.

من هنا : فالمناهج - ومن خلالها مختلف المواد الدراسية - تستهدف تنمية قدرات المتعلم العقلية والوجدانية والمهارية ليصبح مع الأيام وبمرور المراحل الدراسية مكتمل الشخصية قادراً على الفعل والتفاعل الإيجابيين في محيطه الصغير والكبير، وعموماً في حياته الحاضرة والمستقبلية، ولكي تكون المناهج في خدمة هذا التوجّه كان من الضروري التركيز على الكيف المنهجي بدلاً من الكم المعرفي من خلال نظام الوحدات الذي يمكّن المتعلم من التركيز على مضامين بعينها تتوفّر فيها شروط التماسك والتكامل تمكّن المتعلم من كيفية الاعتماد على النفس وتفجير طاقاته وإحداث تغيّرات ضرورية في ذاته لتكيّف مع حاجات طارئة. إنّه مسعى يمكّن المتعلم من اكتساب كفاءات ذات طبيعة مهارية وسلوكية تتكيّف مع الواقع المعاصر سواء في عالم الشغل أو المواطنة أو الحياة اليومية.
هذا النوع من المناهج يركّز على بيداغوجيا الإدماج باعتبارها مسار مركب يمكّن من تعبئة المكتسبات أو عناصر مرتبطة بمنظومة معينة في وضعية دالة، قصد إعادة هيكلة تعلّمات سابقة وتكييفها مع متطلّبات وضعية ما لاكتساب تعلم جديد ومن ثمّ فالمنهاج المبني على هذه البيداغوجيا يقود المتعلم نحو تأسيس روابط بين مختلف المواد من ناحية، وربط هذه الأخيرة بخبراته وقيمه وكفاءاته وواقع مجتمعه من جهة أخرى.

■ وعموماً فإنّ المناهج ذات الطبيعة الإدماجية تعمل على جعل المتعلّم :
1- يعطي معنى للتعلمات التي ينبغي أن تكون في سياق ذي دلالة، وفائدة بالنسبة له، وذات علاقة بوضعيات ملموسة قد يصادفها فعلاً.
2- يتمكّن من التمييز بين الشيء الثانوي والأساسي والتركيز عليه لكونه ذا فائدة في حياته اليومية أو لأنّه يشكّل أُسساً للتعلّمات التي سيقدم عليها.
3- يتدرّب على توظيف معارفه في الوضعيات المختلفة التي يواجهها.
4- يركّز على بناء روابط بين معارفه والقيم المجتمعية والعالمية، وبين غايات التعلمات، كأن يكون مثلاً مواطناً مسؤولاً عاملاً كفؤاً، شخصاً مستقلاّ.
5- يقيم روابط بين مختلف الأفكار المكتسبة واستغلالها في البحث بل واستصدارها في التصدي للتحديات الكبرى لمجتمعه، وما يضمن له التجنيد الفعلي لمعارفه وكفاءاته.

● ولتمكّن المتعلم ممّا سبق ذكره، يستلزم أنشطة تعلم ذات الخصائص الآتية :
1- اعتبار المتعلم محور العملية التعليمية / التعلمية.
2- التركيز على إدماج الكفاءات المستعرضة في الأنشطة التعليمية/ التعلمية.
3- الاهتمام بتنمية الأنشطة الفكرية والتحكم في توظيف المعارف.
4- جعل المتعلم يوظّف مجموع الإمكانات المتنوعة (معارف، قدرات ـ معارف سلوكية ـ بل وكفايات).
5- إدماج التعلمات يقاس كمّا بعدد الأنشطة التي تتدخل في تحقيقه، ويقاس نوعيّا بكيفيات تنظيم التعلمات.

● ولكي يتمّ إنجاز النشاط بالشكل المأمول والعمل على تحقيق الهدف منه، على المدرس أن يتيح للمتعلم :
1- الانهماك الفعال، وذلك بتوفير الوقت الكافي للمتعلم لتأمين انخراطه في عمل يفضّله ويرغب فيه، ويشعر بأنّه يستجيب لحاجاته، أي وضعية يمارس فيها تعلّمه بكيفية نشطة : وموظّفا طاقاته المختلفة، مع اعتماد الوسائل والمعينات اللازمة لكل وضعية تعلمية.
2- الانغماس : من خلال توفير محيط وفضاء تعليمي غني بالوسائل المسهّلة للقيام بالنشاط التعلمي المستهدف، مفعم بظروف الحياة المدرسية.
3- التملك : بمعنى جعل المتعلم يشعر بأنه صاحب النشاط التعلمي أو ما ينتج عنه، وذلك بحكم اختياره وإنجازه للنشاط في شكله ومحتواه.
4- النمذجة : بمعنى تمكين المتعلم من أن يرى توضيحاً عملياً من المدرس للكفايات المستهدفة.
5- الاستجابة المشجّعة : أي أنّ أداء المتعلم يجب أن يتبعه ردّ من المدرس ليشعر بأنّه محلّ رعاية واهتمام، وأن يكون الرد بنّاء ومشجّعاً.

وهذا التعليم / التعلم : يحتاج إلى طرائق تدريس نشطة، من بينها التدريس بالمشكلة، إذ يوضع المتعلم أمام وضعيات تعلّم باعتبارها نشاطات معقّدة تطوّر لديه روح الملاحظة، الإبداع، الفعل، وبمعنى آخر إنجاز مهمّات مثل : (كتابة رسالة شفهية أو كتابية، حلّ مشكل في الرياضيات) وتعتبر الوضعيات بمنظور بيداغوجيا الإدماج :
1- وضعيات للتعلّم : فيها يقترح على المتعلم إنجاز هدف خاص لدرس أثناء تعلمات منهجية تقوده إلى صياغة موضوع، فكرة، استنباط، تعريف، عرض قاعدة .. الخ، وهذه الوضعيات تُنمَّى من خلال نشاطات ملموسة تستجيب لحاجات المتعلم.
2- وضعيات للإدماج : بحيث تختبر أثناء مهلة توقّف للمتعلم خلال التعلمات المنتظمة، هذه المهلة هي ما يطلق عليه "لحظة الإدماج" حيث يقوم أثناءها المتعلم بتجنيد مختلف المعارف، حسن الأداء، وعلى أساس لحظة الإدماج هذه وبناء عليها يتمّ تطوير المعرفة السلوكية.
3- وضعيات للتقويم : ذلك أنّ وضعيات التقويم تماثل وضعيات الإدماج، إذ كلّما حقّق المتعلم نجاحاً في عملية الإدماج، نال ما يعبّر عن هذا النجاح.

■ وأخيراً :
فأساليب التعليم والتعلم تغيّرت، وبتغيّرها أصبح دور المدرس يرتكز على مساعدة المتعلم بجعله في قلب منظومة التعلم، إذ يقوم بتعلّماته بنفسه اعتمادا على طرائق تدريس نشطة تمكّنه من تجاوز اكتساب المعارف، إلى الوعي بالذات واكتساب الكفايات، اكتساب قيم واتجاهات، تنمي لديه القدرة على التفكير المنطقي، حلّ المشكلات، تقييم المفاهيم، الثقة بالنفس، الاستقلالية، وذلك هو الهدف الجوهري الذي تسعى إلى تحقيقه مختلف الأنظمة التربوية في العالم ومنها منظومتنا المغربية.
إذا كانت بيداغوجية الإدماج تستدعي التقريب من منظور التطور الذي تشهده الساحة التعليمية فقد يكون من الضروري التتبع الواعي للتحليل الديداكتيكي لها من خلال، دروس عملية تطور الثقافة التربوية من خلال النقص في التكوين المستمر، الذي تعانيه هيئات التدريس من جراء الانفتاح على البيداغوجيات الحديثة، وهذا ما تحاول تقريبه الأيام التكوينية التي تشهدها كل الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والنيابات الإقليمية، سعياً لإرساء التعامل مع بيداغوجية الإدماج في شقها الإجرائي، باعتماد الوضعيات البانية كمنهجية عملية، كما أن إعدادها يستدعي إعدادا لنشاط إدماج التعلمات، والعمل على التحكم في محكاتها ومعاييرها بشكل متدرج، مع التدبير المتحكم في محطات التقويم والدعم، وحتى لا نغرق في النسقية التي تذهب الروح عن المؤشرات النوعية لبيداغوجية الإدماج لا بد من اعتماد خط مسترسل من التجاوب والقابلية التي تغذي صيرورة الإصلاح التي ننشدها في بعدها الوطني والكوني.