من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. يحيى علي الزهراني.
إجمالي القراءات : ﴿4543﴾.
عدد المشــاركات : ﴿8﴾.

التربية بين الكواسر والحواسر.
■ في ظل تطورات متتابعة ومتوالية، لا يكاد اللبيبُ أن يُجاوز إحداها حتى يقع في أخراها، ولا يقضي وطراً منها حتى تكون عشرات منهنّ لا ثلاث ينتظرن دورهنّ أو يقضين عليه، فليس معه ولا أمامه مزيد من الخيارات، أما أن يُذلّل صِعابها، أو تَذله صعابها، فالمواجهة حتمية، واللقاء قادم، ويعظم الخطب ويجل الأمر حين تكون هذه المصارع في أمور تتعلق بها أعظم شؤون الحياة وهي التربية.
إن التربية في بيئة غناء، ومحيط مترف، وطلبات مُحققة، ورغبات مقضية، لا تنقص أهمية ولا تقل مسؤولية عن التربية في مجتمع فقير، حسير، كسير، لا يجد غنىً يُغنيه، ولا يُفطن به فيُتصدق عليه، وليت الأمر بقي على غنى وفقر، أو شبع وجوع، أو ظمإ وري، بل هو أخطر وأخطر مما يُتصور، فالسماء ما السماء، مُلِئت كواسر، والأرض ما الأرض، غصّت بالحواسر، وبين كاسر وحاسر، على الجيل أن يتربّى تربية صالحة حتى يعيد لأمة الإسلام مجدها وسؤددها.
إن التربية مهمة الرسل والأنبياء، وهي ما تدور عليه الكتب السماوية، وهي حقيقة العبودية لله رب العالمين، فليس أعظم ولا أجل من أن يتربّى العبد على أن لا يعبد إلا الله، ولا يُشرك به شيئاً، على أن يرفع يديه إذا احتاج لله، وإذا افتقر، وإذا خاف، وإذا أمِن، وإذا ابتُلي، وإذا مرض أو شُفي لله.. فيا لله ما أعظمها والله من تربية!
إن التربية على الإسلام عقيدة وأخلاقاً، وعبادة وتعاملاً.. هو تشريف للعبد قبل أن يكون تكليفاً وامتحاناً وابتلاء، إن حقيقة هذه التربية خلوص المربَّى من براثن الشرك، ونواقض التوحيد، فيكون جميع أمره : {صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له}، وهو ما سيجعل من هذا العبد حرًّا أبياً لا يقبل ضيماً، ولا يرضى حيفاً، ليس أعز عليه أن يرى أخاه مظلوماً فلا ينصره، محتاجاً فلا يُعينه، فقيراً فلا يُواسيه، مريضا فلا يعوده، مصاباً فلا يعزيه، حقيقة غابتْ أو غُيِّبتْ في بعض بلاد الإسلام حتى عاد الإسلام في تلك البلاد غريباً كما بدأ، وسيعود هنا غريباً كما بدأ، وأعوذ بالله أن يُدركني وإياك زمن غربة أهل العقيدة، والعبادة والأخلاق.
في ولوج الناس وخروجهم لمآربهم في الحياة وطلب العيش، قد يغيب عنهم أمر التربية، وهو الأمر الذي به تنسى الأمة ماضيها، وتضيع مستقبلها إذا نُسِّيت أو أُنسِيت حقيقة التربية، ولك أن تتصور مجتمعات قائمة، وأخرى نائمة، وثالثة عائمة بين هذه وتلك، وكل يجد ظمأً، لم يُروِه ماء السماء ولا عيون الأرض، بحثوا حتى بلغوا القمر كما زعموا، وحفروا حتى أتوا قاع البحر كما ذكروا، وصنعوا، وبنوا، وأنتجوا كل ما يُمكنهم لكنهم لم يزالوا في بحث، إذ لم يكن للهفتهم معين روِي يجدون فيه بُغيتهم، فالتربية لا تصنعها التطورات والاختراعات، إنما تصنعها أمة لها كتاب وسنة ومنهج قويم، يتربّى فيه كل فرد ومجتمع حتى يكونوا كالجسد الواحد، وحتى يكونوا كالبنيان المرصوص.
من لطائف اللغة أنها تحمل الأضداد، ولا ترحم الأنداد، فلو قام رجل وألف امرأة، لغلب الرجلُ بتذكيره على مئات النساء، ومن دواوينها التاريخية حضرتْ أحداث طُويتْ صفحاتها، وأزمنة دُرستْ آثارها، لكن أهلها لا زلوا حاضرين، وفاتحين، وبالله مستبصرين، وما وقف على تلك الآكام والآجام منصِفٌ إلا ترّحم عليهم، ودعا لهم، وحمد صنيعهم، وشكر بلاءهم، ومن الأضداد – شئتَ أم أبيتَ – الكاسر والحاسر، وذلك أن الكاسر مفترس متأهِب لصيده الحاسر، الكاشف عن ضعف وقلة حيلة، فمتى رآه انقض عليه، فالتقمه أو ألقمه ما يريد.
واعلم علّمك العليم، أن السيف له وظيفة أساس، ما اشتُهر ولا عُرف إلا بها، كالأسد عُرف بوصفه لا بشعره، ومتى ما ضيّع الأسدُ ذاك وأُغمِد السيفُ، فهما كبقية الدواب بل من سقط المتاع.
وإذا أردت أن تعي واقع الأمم التي اختلتْ تربيتها فانظر لأولئك، الذين خانوا أنبياءهم ورسلهم، والمعجزات والكرامات تقع لهم، وسيل الرحمات يتوالى عليهم، رغم عتوهم وبغيهم وسفههم، لهم أخْون لغير الرسل من الرسل، وأشد بغضا وأكثر حنقا على مَن يُخالفهم ويصبو عن دينهم، فعُلِم أن الخيانة والغدر والفجور والبغي صفة فيهم، وُلِد عليها المعاصرون، وورّثها لهم السابقون، فبئس التربية تربية هؤلاء!
وأكمل الخلق وأحسنهم خُلقا وأوسعهم كرما، وأجلهم قدرا، وأعظمهم أثرا هو رسول الله محمد ﷺ، ومع ذلك خانوه وباعوا وعده، ونقضوا عهده، وسعوا في قتله، وهو الذي نزلتْ عليه : آيات البقرة وآل عمران والمائدة.. فمَن زعم أنه سيجد عندهم ملاذا، ويلقى منهم عونا فهو كمن لا يبصر ولا يسمع ولا ينطق، فالقوم بلا تربية، وأنى لعديم التربية أن يُقيم علاقات وأواصر تدوم.
حقيقة التربية التي تُحقق انتصار الأمة تحتاج لمراعاة أعمال القلوب أولاً، وتحقيق معنى التوحيد في النفوس ولاء وبراء، صدقا وتوكلا، إيمانا لا ترددا، وصخرة أغلقتْ غارا على ثلاثة، ظاهر أعمالهم أنها معاصٍ، وحقيقتها خشية الله ومراقبته حين، خلوا، وقدروا، وملكوا، فتوسّلوا بأعمال صالحة رفع الله بها الصخرة وكشف عنهم الكربة.
والثلاث هذه : حين يخلو العبد من رقابة البشر، وحين يقدر ويكون أمره مطاعا، وحين يملك فيكون ماله وجنده له منقادا، هذه تُظهر صلاح العبد وتقواه، فالمراقَب والمعايش لن تظهر منه غدراته إلا حين يأمن عيون الرقيب، والضعيف أنّى له أن يفعل شيئا، وقد نُزع منه وسُلب إرادة الفعل، وحتى التفوّه بالقول، والمُعدَم لا مال له، ولا يد ولا سلطان، ومن تربى تربية صالحة على ما سبق ذكْره سيجد حلاوة الإيمان، ويذوق طعمه، وينعم به.
ومن جمع هذه الثلات فلينظر نفسه فإنها ذواهب وسيبقى شاهدا ما عاملتَه بها، إن خيرا أو شرا.

إن التربية بين الكواسر والحواسر، تتطلب يقظة وانتباهاً دائمين، ومراعاة لأحوال النفس قبل الآخرين، واستشعاراً لمسؤولية الرقابة على مَن ولاك الله أمرهم، وسيسألك عنهم غداً، زوجة وأولاداً.. ومستقبل أمتنا وجيلها وتربيته وِهمّته.. كلها في خطر مع التيارات الكاسرة، في ظل قلوب حاسرة، تخشى أن تُصيبها فاقرة، إما أن تتقبّل ما وفد، أو ترد ما جد، أو تستجيب لنداء من يرميها بالتأخر وقلة الجهد، أو تتعايش مع الواقع بما يناسب قيمها فتستصلح ما يُمكن استصلاحها، وتُحذر من المنقطع والمعضل، وتقبل الحسن والمرسل، وليس كل مرسل يُقبل، فبعضها كالرياح، وبعضها كالطود، لكن ليس هناك كثير خيارات، فالتيارات القادمة والتغيرات الحاصلة، تستوجب من الأمة أن تُصحِّح عقيدتها، وتكون أوبتها للقرآن والسنة وما كان عليه سلف الأمة حقيقة لا ادعاء.
إن التربية بين الكواسر والحواسر لتُذكِّرنا بالمثل المروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما في مصنف ابن أبي شيبة : أُكلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض. فبين يديك يوم، وغداً أيام إن أدركتها فانظر ما أنت صانع فيها، حقيقة الصراعات اليوم، اليوم يُؤكل الثور الأبيض وغدا الثور الأسود، اليوم نارٌ في البحر وغدا في البر، رسائل المناهِض لتربية الأمة تربيةً صحيحةً واحدةٌ، وأهدافه معلنة لمن له قلب، وأي تربية لا تترك في النفس شعوراً يدفعها نحو نصرة مظلوم، والأخذ على يدي سفيه؟
إن تربية الأمة اليوم لأجيالها أشد صعوبة من ذي قبل، فعليها مسؤوليات عظام نحو أعضائها، فهي وهم كالجسد الواحد، وفي هذه الأحوال هناك جيل عاصر الأحداث، وآخر وُلِد في المعمعة، فإن لم يكن الجيل الوالد مستشعراً لمسؤولياته التربوية فسيكون مستقبل تربية الناشئين في خضم انفتاح وغياب كفاح في خطر محدق، وحين ترى سكوتَ الأمة وهوانها وعجزها عن نصرة أعضائها، وتقصيرها في تربيتهم. فهل يُقال إن الأمة خانتْ دينها وأخلاقها، وتخّلتْ عن مبادئها؟
إن تربية إيمانية لا تُحرّك في قلب صاحبها شعرة من الغيرة على مآل المسلمين في بلاد الجهاد، وحالهم مع قنوات الإفساد، ولا تتأثّر بما ترى وتسمع وتقرأ هي تربية جوفاء، وأقل أحوالها النقص، ومَن نظر لمآسي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولم تتأثر مشاعره ولم يجد لتربيته إرشاداً لنفسه في مثل هذه المواقف، وتأثّيراً يظهر في معاملته، وعبادته، وسلوكه، سلوكا يدفعه للسعي لنصرة إخوانه، في مفاوضات، وصفقات، ومعاهدات، وتحالفات، لأمور تُنذر بشؤم السكوت وتباطئ الإفاقة، فسكرة الليل إن طالت أعمتْ وأغوتْ وأضلّتْ.
إن الغيرة على الأمة وعلى جراحها، والتأثر بمصابها هو هدي نبيها ﷺ وصحبه الكرام، كما أن الفرح لها هو فرح للنفس، وإلا فما معنى التربية الإيمانية التي نتحدث عنها وندّعيها!
إن من أعظم التحديات التي تواجه الأمة اليوم، والجيل القادم تحديدا هو التربية، التربية على الإسلام عقيدة وأخلاقا، عبادات وتعاملاً، إن المولود الذي وُلِد في زمن قتْل فرعون لذكور تلك السنة لمصيره القتل أو أن يقبع في السفول ذليلاً متخفياً متوجساً، ويُنجِّي اللهُ موسى من الطاغية، وموسى كان مُحقّقاً لـ لا إله إلا الله، ثم ظهرتْ منه ونتيجة لذلك التحقيق أخلاقُ مَن تربّى تربية صالحة، فكان قوياً في الحق، ناصرا للمستضعَف، مجيبا للمستغيث، حافظا للحرمات، كريما شهما ذا مروءة، لم تُسوِّل له حاجة المرأة وفتوته، وغربته، وقوته، أن يقع فيما لا يجوز له، بل أسدى معروفه ثم تولّى وهو غير مَانٍّ على ربه ولا عباده، غير مفتخر بعمله، ولا إحسانه، لم يبتغِ من أحد جزاء ولا شكورا بل قال، ورحمه الله ما أعظم ما قال : {رب إني لما أنزلتَ إليّ من خير فقير}، لم يمنعه مطاردة العدو وجبروته وشدة بطشه أن ينقلب لأرض أخرى، بل ويرعى الغنم، ويظل فيها عشرا، أو أكثر.
إن البقاء بأرض يَذل فيها الكريمُ لأرض سوء، والارتحال منها مخرجٌ حتى يجعل الله بعد عسر يسرا، أُخرج نبي الله محمد ﷺ من مكة فأنار الله به الدنيا وأخرج به من الظلمات إلى النور وذلك حين استقر بطيبة.
إن إرغام الحر على القيد يقتله، ألم تر أن الصقّار يُعمّي عين صقره حتى لا يموت كمدا في قيد لم يتربّ عليه، وحين تألف النفسُ القيدَ ترى أن الكون كله كمفحص قطاة، فيا أيتها الأمة الأبية، والسلالة الآدمية، إن كنتِ راغبة في ذكرٍ حسن، وأثرٍ طيب، وتجارة لن تبور، فاجتهدي في تربية جيلك تربية صالحة، يُصلح الله بها ما شابه فساد، ويرفع بها أصدق العباد لأعلى عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقطار الزمن ماضٍ، ولا عزاء معه وفيه للكسالى والبطالين، فارفعي يا أمة الإسلام راية الجد والكفاح، وكوني أمة تقود بأخلاقها، قبل شعاراتها، وبأعمالها قبل أقوالها.