من أحدث المقالات المضافة إلى القسم.

مثلث الكوتش ﴿4489﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. عمر حسين الجفري.
إجمالي القراءات : ﴿3096﴾.
عدد المشــاركات : ﴿23﴾.

الموظّف المتقاعد طي النسيان.
■ إن «مرحلة التقاعد» هي : نِهاية المطافِ لكل موظّف بعد أن بلغ من العمر عتياً وأرست به سفينة العمل إلى مرفأ النسيان والوحدة وقد أفنى شبابه وأمضى عمره ردحاً من الزمن في خدمة مجتمعه ووطنه، وهذه سُنّة الحياة لكل إنسان لذلك نطرح بعضاً من التساؤلات إزاء ذلك : كيف سيكون حال الموظّف بعد تقاعده ؟ ما نوع الخدمات المقدَّمة له من المجتمع ؟ وما الخدمات التي تقدِّمها له جهة عمله ؟ وما مدى الاستفادة من خبراته وتجاربه ؟ ولعلّنا نكتفي بتقصّي ومناقشة هذه التساؤلات ومحاولة الإجابة عنها لكشف واقع حال الموظّف المتقاعد في مجتمعنا السعودي.

من المعلوم أنّ الموظّف عندما تصل به قاطرة الحياة المهنية إلى محطة التقاعد بعد رحلة زمنية طويلة من التعب والجهد والعطاء لا شك أنّ سِنّه قد تجاوز مرحلة الشباب وانتقل إلى مرحلةٍ جديدةٍ وهي مرحلة الشيخوخة فهو إمّا أن يحال إلى التقاعد إذا بلغ عمره ستين عاماً أو قريباً منها إن أكمل مدة الخدمة النظامية وإمّا تَقَاعَد مبكِّراً بخدمةٍ لا تقل عن عشرين عاماً، وفي كل الأحوال فقد أصبح في سنٍ متقدِّمةٍ وعمرٍ متأخر فهو قد يخرج من الخدمة محمّلاً بأمراضٍ متعدِّدة كالسكري والضغط والآم القلب والروماتيزم وضعف السمع والبصر وغيرها من التغيّرات الصحية الجسمية والنفسية في حين نجد عدم الاهتمام بهم سواءً كانوا مدنيين أو عسكريين وممّا يؤسف أنّه لا يحظى بالعلاج المجاني في المستشفيات إلا ما كان عن طريق المشافي الحكومية والتي غالباً فيها النظام الصحي لا يراعي كبر سِنّه وعدم قدرته الجسدية على الدخول في انتظار منهك والوقوف في الطوابير الطويلة والمواعيد الزمنية التي تمتد بالشهور ممّا يؤخِّر علاجه ويدهور حالته الصحية ويؤثر على حياته فهو في حاجةٍ ماسةٍ للعلاج المستمر والمنتظم هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نرى هناك فئة من المتقاعدين الذين يمتازون بالتأمين الصحي عندما كانوا على رأس العمل, ولكنّهم حرموا من هذه المزيّة حينما تقاعدوا, وهل يعقل أن يكافئوا بالنكران والجحود بعد أن ضحّوا بأجمل سنين عمرهم وافنوا زهرة شبابهم في نهضة وطنهم بسلبهم هذه الحاجة الملحّة في هذا العمر المتقدِّم ؟ وكذلك الحال للفئة التي تمتاز بالسكن أو بدل السكن فإنه ينزع منهم، والأمر المحزن إذا كان المتقاعد لا يمتلك مسكناً يؤويه هو وأفراد عائلته وقد انخفض راتبه ولم يعد كافياً بعد أن سحبت منه كل الامتيازات المالية من بدلات وعلاوات وبقي ثابتاً مجمّداً بلا زيادة حيث أدّى ذلك إلى اختلال في مقياس معيشته وتغيير ظروف حياته رأساً على عقب هذا إن لم يكن مثقلاً بالديون والالتزامات المادية الخانقة ومتطلبات الحياة القاهرة في ظل ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة, وكأنّه بدأ حياةً جديدة مليئة بالتعب والإرهاق والمعاناة بدلاً من الراحة والاستجمام ممّا دفع البعض منهم إلى البحث عن عملٍ جديد ليتمكّنوا من سد احتياجاتهم المعيشية وبالأخص الذين تقلُّ رواتبهم عن عشرة آلاف ريال، وبدلاً من أن يستمتعوا بما تبقّى من حياتهم تجدهم في دوامة يتنقّلون بين إدارات التأمينات الاجتماعية أو مصلحة معاشات التقاعد وجمعيات البر والضمان الاجتماعي لسد رمقهم هم ومن يعولون وتستمر معاناتهم مع المتاعب واستنزاف أوقات طويلة في مراجعة الدوائر الحكومية والاصطفاف في طوابير مع المواطنين والمقيمين لإنجاز معاملاتهم دون مراعاة لتقدُّم سنّهم وتقديراً لشيبتهم وظروفهم وينطبق على حالهم معنى (مت ـ قاعد) لأن هدف التقاعد لم يتحقق في توفير الضمانات المادية والمعنوية لهم ولأسرهم.

وأمّا إذا أراد الاقتراض من أحد البنوك فإن طلبه يرفض وإن رغب التقسيط من كبرى الشركات لشراء سيارة أو تأمين حاجة ضرورية لا يسمح له بذلك وقد يصل الحال بهؤلاء المتقاعدين إلى شبح العوز والفاقة وهذا يتنافى مع خطط الدولة في القضاء على الفقر وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل حتى جهة عمله أهملت دوره وجهده بعدم التواصل معه والاستفادة على الأقل من خبراته وتجاربه من خلال توجيه دعوة له أو طلب مشاركته في اللقاءات أو المناسبات أو الاحتفالات ولكنه أصبح في طي النسيان ومن ذكريات الماضي وقد طال التناسي حتى أولئك الذين كانوا يتبوءون مراكز قيادية رفيعة وقد بذلوا جهوداً مضنية وقدَّموا تضحيات فائقة ونتاجاً وافراً وربّما كانت لهم بصمات جليلة وتأثيراً بالغاً في مجتمعهم حقاً إنّه مجتمع دفّان؛ كيف ستكون أحوالهم وأوضاعهم ؟ لا شك أنّ مردود ذلك سينعكس سلباً على حياتهم ومشاعرهم ونفسياّتهم فنظرتهم وإحساسهم نحو الحياة لابد أن تتغيّر عندما يتخلّى عنهم المجتمع ويقذفون في أتون صراعات الفراغ والقهر عندما يتذكرون ماضيهم وقد كانوا صنّاعاً له واليوم أصبحوا في قارعة العزلة وفي زوايا وأركان المنزل وعلى هامش الحياة ويشتدّ عليهم البؤس والخناق في كيفية قضاء أوقاتهم المظلمة حيث لا يجدون مراكز أو مقارّاً يجتمعون فيها أو متنفّساً للترويح كالأندية الرياضية والاجتماعية يمارسون فيها بعضاً من الرياضات المناسبة والملائمة ويزاولون كافة الأنشطة فتأخذهم العبرات والآهات وتزداد آلامهم وأوجاعهم وتتّسع جراحاتهم وتنهزم روحهم المعنوية وتتكالب عليهم الهموم والغموم ويتملّكهم الشعور بعدم القيمة والحاجة إليهم والإحساس بعدم الأهمية من قبل المجتمع.

لذا، كان من الواجب على أصحاب القرار والمسئولين في مختلف الجهات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني بجميع أطيافه ومجالاته وكل من لهم شأن في الوطن القيام بالدور المطلوب تجاه هذه الشريحة الكريمة والعزيزة إلى نفوسنا من رعاية واهتمام ومساندة والعناية بهم وتقصّي أوضاعهم وأداء حقوقهم نظير ما قدَّموه من جهود كبيرة وخدمات عظيمة لأوطانهم وأمّتهم طوال حياتهم، ولا يسعنا إلا أن نقدِّم بعضاً من التوصيات المقترحة تقديراً وعرفاناً لهذه الفئة الغالية على قلوبنا، كما يلي :
1ـ رفع رواتب المتقاعدين كحدٍ أدنى سبعة آلاف ريال، ومنحهم مكافأة نهاية خدمة لا تقل عن مئة ألف ريال وبدل سكن وتأمين طبي يشتمل على توفير العلاج المجاني والرعاية الصحيّة المنزليّة تقديراً لجهودهم وخدماتهم وتضحياتهم.
2ـ منحهم بطاقات خاصة لتقديم الخدمة اللائقة بهم في كافة القطاعات والمرافق والمستشفيات تتضمّن تخفيضات مجدية ومزايا وخصومات مجزية سواءً في شركات الطيران أو المؤسسات التجارية أو خدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي وغيرها.
3ـ توفير سيارات خاصة عن طريق الجمعيات التعاونية ومراكز الأحياء تقوم على تلبية احتياجات المتقاعدين وخدمتهم في النقل والتوصيل وخصوصاً كبار السن والمرضى أو العاجزين.
4ـ إنشاء صندوقاً خاصاً بالمتقاعدين تحت إشراف ومظلة وزارة المالية يخصّص له ميزانية سنوية يقدِّم قروضاً ميسّرة تلبّي متطلّبات حياتهم وينتفعون منها في قضاء حوائجهم وديونهم.
5ـ إنشاء مراكز وأندية رياضية للمتقاعدين في المدن والمحافظات يقضون فيها أوقات فراغهم ويروِّحون عن أنفسهم ويمارسون الأنشطة والبرامج المختلفة التي تلبّي رغباتهم وتشبع حاجاتهم.
6ـ حثّ الجهات الحكومية بمختلف قطاعاتها على توجيه دعوة للمتقاعدين لحضور الاحتفالات والمناسبات والاستفادة من خبراتهم ومعلوماتهم وتجاربهم من خلال إرسال بطاقات دعوى للمشاركة والحضور في الندوات والاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات بأجورٍ مقطوعةٍ تشجيعاً لهم على المزيد من العطاء والبذل وتعزيزاً لمكانتهم وأهمية دورهم كمواطنين وعناصر فاعلة وحاضرة.
7ـ تخصيص مكاتب ونوافذ (شبابيك) خاصة بالمتقاعدين في جميع الدوائر الحكومية لقضاء مصالحهم وإنجاز معاملاتهم بيسرٍ وسهولةٍ بعيداً عن الازدحام والطوابير الطويلة.
8ـ إقامة دورات وبرامج مجّانية للمتقاعدين في كيفية قضاء أوقات فراغهم وتوظيف طاقاتهم وقدراتهم في المشاريع النّافعة والمثمرة لتعزيز أهميّة الحياة التقاعديّة إلى غير ذلك من المواضيع ذات الصِّلة.

وقبل أنْ أُنهي المقال يسرّني توجيه رسالة إليك أخي المتقاعد : اعلم أنّ التقاعد ليس نهاية المسيرة وتوقّف الحياة وانتهاء العمل، وهي مرحلة ليست للنوم والدّعة فحسب ولكنّها بداية رحلةٍ جديدةٍ وصفحةٍ جميلة فالمؤمن مأمور بالعمل وبذل الجهد والأخذ بالأسباب والسعي في أرض الله وأوصيك أولاً بالمحافظة على الصلوات الخمس ونوافلها وسنن الوتر والضّحى والأوراد النبوية والأذكار الصباحيّة والمسائيّة وتعهّد حفظ وقراءة القرآن الكريم واعلم أنّ مجالات الحياة رحبة ومتنوِّعة؛ فلك أن تنتقي ما يحقِّق طموحاتك ويشبع رغباتك وعليك باستغلال طاقاتك وقدراتك في مشاريع الحياة إمّا في مجال التعليم والمعرفة أو التجارة أو الصناعة، وخصِّص من وقتك جزءاً لممارسة الرياضة، وأُذكِّرك بصلة الأرحام والتواصل مع الأصدقاء والزملاء وإفساح المجال لإيجاد علاقات اجتماعية مع كل فئات المجتمع وألا تضع نفسك في دائرة مغلقة وضيّقة واستمتع بالحياة وروِّح عن نفسك فيما أباح الله لك بعد عناء ومشقّة الوظيفة والتزاماتها ومعاناتها، وقدِّم يد العون والمساعدة لذوي الحاجة وساهم في الأعمال التطوّعية وشارك إخوانك في جمعيّات البرّ والمؤسسات الخيريّة حينها تدرك معنى التقاعد وتشعر بطعم الحياة وجمالها.
هذا والله من وراء القصد.