من أحدث المقالات المضافة.

بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : عبدالله علي الخريف.
إجمالي القراءات : ﴿5661﴾.
عدد المشــاركات : ﴿27﴾.

التقويم الشامل (أضاعوني وأي فتى أضاعوا) !
■ البيت للشاعر العرجي حفيد عثمان بن عفان رضي الله عنه. الشاهد أنه أضيع وأهمل فيما كان ينتظر منه أن يكون مفيداً في الأوقات الحاسمة وهذه بالضبط هي الخلاصة، وبالتالي فإنه يمكنك كقارئ ذي نفس قصير أن تتوقف هنا ! ودون الحاجة إلى الخوض في التفاصيل، هذه التفاصيل التي اطلعت عليها عن كثب على مدى سنوات، هذه السنوات هي التي منحتني فرصة سانحة لأتعرف على التقويم الشامل !
التقويم الشامل الذي حين سألت أحد منظري التربية في جامعة عريقة لدينا وهو أستاذ دكتور كبير بحجم الشمس عنه خلال حديث مطول عن أهمية التقويم لكل عمل أجابني مفصلاً وبدقة متناهية ولكن وللأسف كان يتحدث عن : (التقويم المستمر) !
الأهم، ماذا عن التقويم الشامل ؟ وكيف نشأ ؟ وما هي أهدافه ؟ وكيف تم العمل لتطبيق تلك الأهداف ؟ كيف كانت تقاسيمه حينما كان وليداً ؟ ثم لمّا أصبح يافعاً ؟ ثم كيف ولماذا هرم وشاخ وتعرض للموت فجأة ؟ وكيف تنسج الآن أكفانه ؟ وأين سيدفن !
حكاية طويلة خاض غمار تفاصيلها الكثير من المخلصين، وسهر ليال طويلة أصحاب عقول منتجة وأشرفوا وصنعوا وفكروا كثيراً. كانت الفكرة الرئيسة والهدف العام أن نصنع نظاماً مثل كل الناس الذين يريدون لأعمالهم أن تنموا ولجهودهم أن تثمر ولن يكون ذلك أبداً دون تقويم شامل لها، دون متابعة وعناية.
الكثير من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن تقويم الإنسان، بمعنى متابعة نمو إيمانه، حتى مثاقيل الذر يتم إحصاؤها وتسجيلها، عن اليمين وعن الشمال، وكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
الكثير من التعاليم التي تمنح المؤمن خارطة طريق للتقويم الدائم وفق برنامج عملي مستمر وشامل، يهتم بالقلب وبكل الفروع وبما ينتج عن ذلك من أعمال وأقوال، وإن الخالق - سبحانه وتعالى - لهذا الإنسان يعلم أنه لن يستقيم له أمر إلا هكذا وبالرغم من كل تلك الأدوات الربانية في التقويم الإيماني للإنسان، وكل ذلك الحشد من المراقبة والمحاسبة، فإن أكثر أهل الأرض يضلون عن السبيل.
وبالتالي فإن الأعمال التي تفتقد لهذين العنصرين (الرقابة - المحاسبة) لن تذهب بعيداً، وإن التعويل على حياة الضمير والرقابة الذاتية كالمراهنة على السراب قبل الدخول إلى الربع الخالي بدون ماء ووقود.
نعود إلى الفتى المضيّع، إلى التقويم الشامل. تم تصميم برنامج خضع للتطوير ولنسخ متعاقبة، برنامج إلكتروني يحوي كافة العناصر التي تقوم عليها العملية التعليمية التربوية من المعلم والطاقم الإداري المبنى وما حوله الأدوات، المعامل والمختبرات، الملاعب، الكتاب، الجدران، النوافذ، الطاولات والمقاعد، المياه، المقصف، النوافذ، العاملون، الهواء، وكل التفاصيل الموجودة والمحيطة داخل المدرسة وخارجها، وقبل ذلك وبعده الطالب.
خلال خمسة أيام متتابعة، منذ الدقيقة الأولى للطابور، ومروراً بتضاريس اليوم المدرسي ومناخه يبقى فريق التقويم الشامل داخل المدرسة حملاً ثقيلاً على الجميع وضيفاً متجهماً كما يحلو للبعض أن يعبر، وكما هي الأشياء النافعة والمفيدة دائماً كالدواء والبتر والعمليات الجراحية ومكافحة الفساد والحكم القضائي على السارق، وكل ما فيه قسوة ظاهرة. تعامل الجميع مع التقويم الشامل، ومع الدور الذي يقدمه الإشراف التربوي عبر زيارات ميدانية يقوم بها المشرفون للميدان يقوّمون عبرها عمل المعلمين، فإن ذلك الدور لا يمكن أبداً أن يقارن بما يقوم به التقويم الشامل فلا يمكن قطعاً أن تكون زيارة دقائق أو القليل من الساعات كحد أقصى. مثل فريق يقيم داخل المدرسة لمدة أسبوع أو أكثر فيقوّم عن كثب كل التفاصيل ويعيش حياة المدرسة على طبيعتها وينظر إلى مشكلاتها ويحدد حاجاتها ويضع يده على مواطن القوة والضعف لديها. وخلال هذه الأيام يتعامل فريق التقويم الشامل مع الأمر وفق منهج علمي دقيق فهناك العديد من الشواهد المعدة بعناية. وهناك درجات تبدأ من 1 إلى 5 أمام كل شاهد، حين يغادر الفريق المدرسة يكون قد أحاط بكل التفاصيل وفق نظرة عملية علمية دقيقة، ويتم إعداد التقرير الختامي عن المدرسة ليمنح صاحب الصلاحية أولاً صورة صادقة ودقيقة عن هذه المؤسسة بكل أجزائها، ثم يمنح العاملين في المدرسة مديراً، ووكيلاً، ومرشداً طلابياً، ومعلمين، و .. الخ، صورة صادقة عن أبرز العيوب للعلاج، وصورة عادلة ومشرقة للميزات وخطوط النجاح للتعزيز والتكريم وليكون هذا الفريق بذلك قد قدم أهم وأكثر مراحل التقويم حساسية ودقة وصعوبة وهي مرحلة التشخيص. وهي المرحلة الأولى من مراحل التقويم، ويتعامل الفريق مع المشكلات بحسبها تعاملاً علمياً يندر أن تجده مثله في كل أقسام العمل التعليمي التربوي بل الحكومي عموماً، فهناك مشكلات عاجلة طارئة لا يمكن تأجيلها وتتم الإشارة إليها على هذا الأساس. وهناك مشكلات معيقة تتحول إلى قضايا كبيرة لا بد أيضاً من حسمها واتخاذ قرار فيها. وهناك مشكلات مزمنة كبيرة أو صغيرة لكنها ليست طارئة ولا خطرة فهذه يتم التعامل معها أيضاً لكن وفق خطة هادئة ومحكمة، ولكنّ هذه الجهود الكبيرة وهذا النمط الفعّال من العمل المحكم لم يلق الكثير من الترحيب كما لم يلق الكثير من الدعاية لنشر ثقافة التقويم في كل مكان، بل بقي ينظر إلى هذا العمل - حتى من داخل البيت التربوي للأسف - على أنه ظل ثقيل وعمل بلا هوية !
وأصبح الذين يحترمون هذه القيمة ويقدرون ذلك الدور يرددون على استحياء : نعم التقويم الشامل يقوم بعمل كبير لكنه بدون فائدة، وظلت هذه الفائدة أيضاً بلا هوية لتخبر الدنيا كلها عن نظرتنا كلنا للأعمال التي تؤدى دون ضجيج، وللأعمال الكبيرة التي تنفع لكنها لا تلمع ! وللأعمال التي تتصادم مع الكثير من العقبات التي نشأت في بيئة رطبة من التسيّب والفوضى والتفرد والبعد عن الحسيب والرقيب.

لم أكتب هذه الكلمات بدافع شخصي، فلم يكن التقويم الشامل يوماً ما ضمن دفتر العائلة، ولم يكن أيضاً ضمن الأقسام التي تمنح لمنسوبيها الكثير من المزايا، فقد كان رحمه الله قسماً خجولاً منزوياً ولم يؤثر عن أصحابه لا في الوزارة ولا في الإدارات أنهم التحقوا بالمزيد من البرامج، ولا حضروا مؤتمرات، ولا ذهبوا في دورات خارجية ولا داخلية، وكانوا يعملون بصمت، وبالكاد فإن احدهم كان يدفع التهم ويرد الأباطيل، وفي أحسن الأحوال يخبر الآخرين عن هوية قسم كبير في عالم صغير.

يمكنكم أن تعتبروا هذه الكلمات تأبيناً متأخراً لقسم التقويم الشامل، ويمكنها أيضاً أن تكون عتباً للجميع لأنهم أضاعوه يافعاً بعد أن أصابته شيخوخة باكرة محبطة، الجديد في الأمر أنني علمت أن الوزارة وفقها الله وكل من فيها تعمل الآن على التعاقد مع شركات أو مؤسسات أو ما شابه للقيام بعمل مشابه لما كان يقوم به التقويم الشامل. ومع دعائي لهم بالتوفيق فإنني أجزم يقيناً أن الاستفادة من كل تلك الخبرات في التقويم الشامل وتلك الجهود ستكون أثمر وأينع، والله ولي التوفيق.