خالد سالم الجابري.
عدد المشاركات : 15
1442/06/01 (06:01 صباحاً).
عدد المشاهدات :: ﴿﴿3252﴾﴾
عنف الكلمة بين غياهب النفس وكمائن الذات.
◄ كثيراً ما نسمع بكلمة العنف تطرق أسماعنا بين حين وآخر, فأكثر ما يتبادر إلى أذهاننا هو العنف الجسدي (المادي), ونبعد أو نتباعد أحياناً عن العنف اللفظي أو النفسي في المدارس, مقللين من أهميته مقارنة بالعنف المادي والذي هو حقيقة أقل ضرراً من العنف اللفظي والنفسي لأنه قد لا يتعدى زمن حدوثه أما اللفظي فيبقى في غياهب النفس وكمائن الذات يتردد بين فترة وأخرى.
أنت غبي، فاشل، ما تفهم، متخلف دراسياً عن زملائك، أخوك أفضل منك، ليس منك فائدة, كلمات تتردد كثيراً في بيوتنا ومدارسنا, وتنطلق من ألسنة أقرب الناس للطفل والداه أو معلميه الذين يمثلون القدوة والشخصية المؤثرة في حياة الطفل.
■ لكن لو تسائلنا عن التأثير التربوي لعنف الكلمة على طلابنا وأبناءنا في مدارسنا وبيوتنا فما حجم ذلك التأثير ؟
البروفيسور أحمد مهدي مصطفى أستاذ علم النفس في جامعة الملك سعود، يحذر المعلمين من قذف طلابهم بعبارات لفظية جارحة، مبيناً أن تكرار العنف اللفظي يؤثر في نمو الطفل بدنياً واجتماعياً وعلمياً وعلى جميع جوانب النمو في شخصيته.
وأكد الأستاذ الدكتور مهدي : أن العنف اللفظي المتكرر يظهر علامات الاضطراب الانفعالي على الطالب الطفل وقد يصيبه بالتبول اللاإرادي وتدهور التحصيل الدراسي ثم القلق والاكتئاب والعدوان، وشدد على أن تأثير الألفاظ الجارحة أكثر إيذاءً وتدميراً من العنف البدني ''الضرب''، لافتاً إلى أن الطالب قد ينسى آلام الضرب بعد دقائق لكنه من الصعب عليه نسيان الإهانة اللفظية التي تترك في نفسه آثاراً سيئة ''لذا فالعنف اللفظي يعد من أشد أنواع العنف خطراً على الصحة النفسية للطفل''.
وأضاف أن آثار العنف اللفظي في الطالب بالغة جداً ومتعددة بخلاف ما سبق، إذ يسهم العنف اللفظي أيضاً في تدني مستوى تقدير الذات وانعدام الثقة بالنفس واكتساب تدمير الذات والسلوك العدواني بضرب زملائه الآخرين.
وأبان أن العنف اللفظي لا يكون بالصراخ على الطالب وتهديده فحسب بل قد يكون بالسخرية منه أمام زملائه أو تمني عدم وجوده في الفصل أو إلقاء اللوم البالغ عليه أو إطلاق ألقاب وأسماء عليه أو استخدام لغة سوقية ضده.
وطالب البروفيسور أحمد مهدي التربويين باستخدام أسلوب التعزيز الإيجابي مع تلاميذهم، مشيراً إلى أنه يولد حالات انتقالية سارة وعادة ما يجعل الطالب يشعر بحالة عالية من الرضا والسعادة وزيادة ثقته بنفسه.
على الصعيد ذاته، قال الدكتور أشرف عبده أستاذ علم النفس المساعد رئيس وحدة التوجيه والإرشاد الطلابي في كلية المعلمين في الرياض، إن هذه السلوكيات من العنف اللفظي من متخصصي التربية في المجال التعليمي والتربوي تترك آثاراً سلبية في البناء النفسي للطالب، ويتمثل في شعور الطالب بالإحباط النفسي الشديد نظراً لاستشعاره أن المعادلة السلوكية غير متوازنة فهو لا يملك من مقومات التوازن في هذه السلوكيات سوى الصمت مخافة الحرمان من درجات الأنشطة وأعمال السنة أو استدعاء ولي الأمر، مضيفاً أن كل هذا يجعل الطالب يستشعر الظلم ويجعله كابتاً لهذا الصراع غير المتوازن ما يستشعر معه رفض المدرسة واستقبال المعلومة وهي بدايات للاكتئاب التعليمي والخطوة الأولى في تدهور المستوى التحصيلي للطالب.
وأضاف الدكتور أشرف أن العنف اللفظي يلقي بظلاله على شخصية الطالب عندما يكبر، وسيتوحد بهذا العدوان ويقوم بتفريغه على الآخرين باستخدام ''آلية سلوكية التوحد بالمعتدي'' وهذه الصورة نجدها في التنشئة الأسرية فالطفل الذي أبوه يصرخ دوماً في المنزل نجده يقوم بتمثيل الدور فيما بعد أثناء اللعب، ولكن في حضور أبيه مصدر العنف الأساسي فإنه يصاب بالخوف الاجتماعي (Social Phobia).
وبين أنه في حالات طلابية أخرى تعاني من كبت الإحباطات الناتجة من السلوك اللفظي العدواني من المعلم أو التربوي إلى تفعيل هذا الإحباط للخارج بدلاً من طيه إلى داخله (أي الطالب)، ففي هذه الأيام تسود موجة من تبادل سلوك العنف violence سواء اللفظي أو الفيزيقي (الجسدي).
وأسدى الدكتور أشرف نصيحة للتربويين قائلاً : لا ترعبوا طلابكم بالصراخ والألفاظ الجارحة واصبروا عليهم، مشيراً إلى أن أفضل أساليب العقاب التربوي من وجهة النظر العلمية هي الحرمان العاطفي التربوي للطالب، مبيناً أن العملية التربوية يجب أن تقام على الحب.
وأبان أنه إذا نجح المعلم في كسب حب تلاميذه من الحصة الأولى منذ بدء العام الدراسي وحافظ على هذا الحب فهو قد نجح، ويكفي إذا أخطأ الطالب أو أهمل في واجباته أن ينظر المعلم له نظرة تفيد أنه غير سعيد بذلك، وهو أشد أنواع العقاب التربوي القائم على الحب التربوي وهو أسلوب يستخدمه المولى عز وجل يوم القيامة للذين أهملوا واجباتهم في العبادة في الدنيا (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم).
أما المؤمنون من أهل الجنة من أصحاب الدرجات العليا فيتمتعون بنعمة النظر إلى وجهه الكريم وينعمون بنوره، هذا الأسلوب التربوي في العقاب يجب أن يستخدمه كل معلم ماهر ومتمكن من شخصيته وقدراته التربوية والتعليمية ''استخدام لغة الجسد في توصيل العقاب بأسلوب عدم الرضا عن أداء الطالب السلوكي''.
أما ثقافة عنف الكلمة فيرى الدكتور حسن مدني : أنه يجب التمييز بين كلمة وأخرى، ثمة كلمة للحوار وكلمة للعنف، العنف في الأصل هو عنف الخطاب الذي ينتج ممارسة عنيفة بأشكال مختلفة، العنف لا ينشأ من تلقاء ذاته، وإنما ينشأ كنتاج لخطاب يمجد العنف، وتمجيد العنف لا يعني أن يقول أصحاب هذا الخطاب إنهم مع العنف أو يجهروا بالدعوة لممارسته.
وإنما لأن هذا الخطاب يحمل في ثناياه فكرة الإقصاء، إقصاء الآخر، انطلاقاً من الوهم الذي يتجلى في شكل قناعة بتملك الحقيقة المطلقة، الكلية، ومثل هذه القناعة تفترض بالنتيجة أن الرأي الآخر، أو الآراء الأخرى خارج الحقيقة أو ضدها، ولأنها كذلك فإنها مقصاة.
هذا جانب من الأمر، أما الجانب الثاني فإنه داخل في دائرة ما ندعوه بالحوار أو الجدل أو النقاش يمكن أن نميز بين لغتين، حتى داخل الصف الواحد، لغة تتوخى الحوار وتنشده، ولغة أخرى لا تحاور وإنما تهاجم وتقاتل، قوام هذه اللغة هو ما ندعوه عنف الكلمة، وعنف الكلمة بالمناسبة أبلغ تأثيراً وأكثر بعثاً على الأذى من العنف في شكله السافر، لأنه يخلق مناخاً يصبح معه الحوار عصياً، إن عنف الكلمة هو مشارف العنف المباشر في صورته المادية.
وتكمن جذور عنف الكلمة، على الأرجح، في التربية القسرية في مجتمعات اعتادت أن تكون حذرة ووجلة تجاه التعبير المخالف بدءاً من الحلقة الأصغر، حلقة العائلة حيث تسود كلمة واحدة لا تحتمل الجدل والنقاش مروراً بالحلقات المتتالية في المجتمع صعوداً إلى العلاقة بين السلطة ومواطنيها.
إن عنف الكلمة لا يتجلى فحسب في حقل السياسة وحقل الفكر وحدهما وإنما في حقل العلاقات الإنسانية المباشرة، بين البشر والأفراد أنفسهم، حين يمكن لكلمة واحدة أن تبدو جارحة، حادة كالسكين في إلحاق الأذى بمن توجه له، وأن تكون من الرقة والرهافة بحيث تذهب بعيداً إلى عمق روحه.
العنف هو ثقافة قبل أن يكون سلوكاً أو ممارسة، وعنف الكلمة هو التجلي المباشر، الفوري، الأولي لثقافة العنف، وإذا كانت سنة الحياة قائمة على تعدد الأفكار والأهواء والأمزجة والاجتهادات، فإن سنة هذه الحياة ذاتها تتطلب تعايش هذه النقائض في سلام لا برغبة التوفيق بينها فهذا متعذر، ولكن لكي تتواجه وتتعارض لكن بالحوار وحده، لا بالعنف، حتى لو كان عنف الكلمة، إذا أردنا بناء أفراد بتكوين سوي يشكلون قوام مجتمع معافى.
|| خالد سالم الجابري : عضو منهل الثقافة التربوية.
عدد المشاهدات :: ﴿﴿3252﴾﴾
عنف الكلمة بين غياهب النفس وكمائن الذات.
◄ كثيراً ما نسمع بكلمة العنف تطرق أسماعنا بين حين وآخر, فأكثر ما يتبادر إلى أذهاننا هو العنف الجسدي (المادي), ونبعد أو نتباعد أحياناً عن العنف اللفظي أو النفسي في المدارس, مقللين من أهميته مقارنة بالعنف المادي والذي هو حقيقة أقل ضرراً من العنف اللفظي والنفسي لأنه قد لا يتعدى زمن حدوثه أما اللفظي فيبقى في غياهب النفس وكمائن الذات يتردد بين فترة وأخرى.
أنت غبي، فاشل، ما تفهم، متخلف دراسياً عن زملائك، أخوك أفضل منك، ليس منك فائدة, كلمات تتردد كثيراً في بيوتنا ومدارسنا, وتنطلق من ألسنة أقرب الناس للطفل والداه أو معلميه الذين يمثلون القدوة والشخصية المؤثرة في حياة الطفل.
■ لكن لو تسائلنا عن التأثير التربوي لعنف الكلمة على طلابنا وأبناءنا في مدارسنا وبيوتنا فما حجم ذلك التأثير ؟
البروفيسور أحمد مهدي مصطفى أستاذ علم النفس في جامعة الملك سعود، يحذر المعلمين من قذف طلابهم بعبارات لفظية جارحة، مبيناً أن تكرار العنف اللفظي يؤثر في نمو الطفل بدنياً واجتماعياً وعلمياً وعلى جميع جوانب النمو في شخصيته.
وأكد الأستاذ الدكتور مهدي : أن العنف اللفظي المتكرر يظهر علامات الاضطراب الانفعالي على الطالب الطفل وقد يصيبه بالتبول اللاإرادي وتدهور التحصيل الدراسي ثم القلق والاكتئاب والعدوان، وشدد على أن تأثير الألفاظ الجارحة أكثر إيذاءً وتدميراً من العنف البدني ''الضرب''، لافتاً إلى أن الطالب قد ينسى آلام الضرب بعد دقائق لكنه من الصعب عليه نسيان الإهانة اللفظية التي تترك في نفسه آثاراً سيئة ''لذا فالعنف اللفظي يعد من أشد أنواع العنف خطراً على الصحة النفسية للطفل''.
وأضاف أن آثار العنف اللفظي في الطالب بالغة جداً ومتعددة بخلاف ما سبق، إذ يسهم العنف اللفظي أيضاً في تدني مستوى تقدير الذات وانعدام الثقة بالنفس واكتساب تدمير الذات والسلوك العدواني بضرب زملائه الآخرين.
وأبان أن العنف اللفظي لا يكون بالصراخ على الطالب وتهديده فحسب بل قد يكون بالسخرية منه أمام زملائه أو تمني عدم وجوده في الفصل أو إلقاء اللوم البالغ عليه أو إطلاق ألقاب وأسماء عليه أو استخدام لغة سوقية ضده.
وطالب البروفيسور أحمد مهدي التربويين باستخدام أسلوب التعزيز الإيجابي مع تلاميذهم، مشيراً إلى أنه يولد حالات انتقالية سارة وعادة ما يجعل الطالب يشعر بحالة عالية من الرضا والسعادة وزيادة ثقته بنفسه.
على الصعيد ذاته، قال الدكتور أشرف عبده أستاذ علم النفس المساعد رئيس وحدة التوجيه والإرشاد الطلابي في كلية المعلمين في الرياض، إن هذه السلوكيات من العنف اللفظي من متخصصي التربية في المجال التعليمي والتربوي تترك آثاراً سلبية في البناء النفسي للطالب، ويتمثل في شعور الطالب بالإحباط النفسي الشديد نظراً لاستشعاره أن المعادلة السلوكية غير متوازنة فهو لا يملك من مقومات التوازن في هذه السلوكيات سوى الصمت مخافة الحرمان من درجات الأنشطة وأعمال السنة أو استدعاء ولي الأمر، مضيفاً أن كل هذا يجعل الطالب يستشعر الظلم ويجعله كابتاً لهذا الصراع غير المتوازن ما يستشعر معه رفض المدرسة واستقبال المعلومة وهي بدايات للاكتئاب التعليمي والخطوة الأولى في تدهور المستوى التحصيلي للطالب.
وأضاف الدكتور أشرف أن العنف اللفظي يلقي بظلاله على شخصية الطالب عندما يكبر، وسيتوحد بهذا العدوان ويقوم بتفريغه على الآخرين باستخدام ''آلية سلوكية التوحد بالمعتدي'' وهذه الصورة نجدها في التنشئة الأسرية فالطفل الذي أبوه يصرخ دوماً في المنزل نجده يقوم بتمثيل الدور فيما بعد أثناء اللعب، ولكن في حضور أبيه مصدر العنف الأساسي فإنه يصاب بالخوف الاجتماعي (Social Phobia).
وبين أنه في حالات طلابية أخرى تعاني من كبت الإحباطات الناتجة من السلوك اللفظي العدواني من المعلم أو التربوي إلى تفعيل هذا الإحباط للخارج بدلاً من طيه إلى داخله (أي الطالب)، ففي هذه الأيام تسود موجة من تبادل سلوك العنف violence سواء اللفظي أو الفيزيقي (الجسدي).
وأسدى الدكتور أشرف نصيحة للتربويين قائلاً : لا ترعبوا طلابكم بالصراخ والألفاظ الجارحة واصبروا عليهم، مشيراً إلى أن أفضل أساليب العقاب التربوي من وجهة النظر العلمية هي الحرمان العاطفي التربوي للطالب، مبيناً أن العملية التربوية يجب أن تقام على الحب.
وأبان أنه إذا نجح المعلم في كسب حب تلاميذه من الحصة الأولى منذ بدء العام الدراسي وحافظ على هذا الحب فهو قد نجح، ويكفي إذا أخطأ الطالب أو أهمل في واجباته أن ينظر المعلم له نظرة تفيد أنه غير سعيد بذلك، وهو أشد أنواع العقاب التربوي القائم على الحب التربوي وهو أسلوب يستخدمه المولى عز وجل يوم القيامة للذين أهملوا واجباتهم في العبادة في الدنيا (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم).
أما المؤمنون من أهل الجنة من أصحاب الدرجات العليا فيتمتعون بنعمة النظر إلى وجهه الكريم وينعمون بنوره، هذا الأسلوب التربوي في العقاب يجب أن يستخدمه كل معلم ماهر ومتمكن من شخصيته وقدراته التربوية والتعليمية ''استخدام لغة الجسد في توصيل العقاب بأسلوب عدم الرضا عن أداء الطالب السلوكي''.
أما ثقافة عنف الكلمة فيرى الدكتور حسن مدني : أنه يجب التمييز بين كلمة وأخرى، ثمة كلمة للحوار وكلمة للعنف، العنف في الأصل هو عنف الخطاب الذي ينتج ممارسة عنيفة بأشكال مختلفة، العنف لا ينشأ من تلقاء ذاته، وإنما ينشأ كنتاج لخطاب يمجد العنف، وتمجيد العنف لا يعني أن يقول أصحاب هذا الخطاب إنهم مع العنف أو يجهروا بالدعوة لممارسته.
وإنما لأن هذا الخطاب يحمل في ثناياه فكرة الإقصاء، إقصاء الآخر، انطلاقاً من الوهم الذي يتجلى في شكل قناعة بتملك الحقيقة المطلقة، الكلية، ومثل هذه القناعة تفترض بالنتيجة أن الرأي الآخر، أو الآراء الأخرى خارج الحقيقة أو ضدها، ولأنها كذلك فإنها مقصاة.
هذا جانب من الأمر، أما الجانب الثاني فإنه داخل في دائرة ما ندعوه بالحوار أو الجدل أو النقاش يمكن أن نميز بين لغتين، حتى داخل الصف الواحد، لغة تتوخى الحوار وتنشده، ولغة أخرى لا تحاور وإنما تهاجم وتقاتل، قوام هذه اللغة هو ما ندعوه عنف الكلمة، وعنف الكلمة بالمناسبة أبلغ تأثيراً وأكثر بعثاً على الأذى من العنف في شكله السافر، لأنه يخلق مناخاً يصبح معه الحوار عصياً، إن عنف الكلمة هو مشارف العنف المباشر في صورته المادية.
وتكمن جذور عنف الكلمة، على الأرجح، في التربية القسرية في مجتمعات اعتادت أن تكون حذرة ووجلة تجاه التعبير المخالف بدءاً من الحلقة الأصغر، حلقة العائلة حيث تسود كلمة واحدة لا تحتمل الجدل والنقاش مروراً بالحلقات المتتالية في المجتمع صعوداً إلى العلاقة بين السلطة ومواطنيها.
إن عنف الكلمة لا يتجلى فحسب في حقل السياسة وحقل الفكر وحدهما وإنما في حقل العلاقات الإنسانية المباشرة، بين البشر والأفراد أنفسهم، حين يمكن لكلمة واحدة أن تبدو جارحة، حادة كالسكين في إلحاق الأذى بمن توجه له، وأن تكون من الرقة والرهافة بحيث تذهب بعيداً إلى عمق روحه.
العنف هو ثقافة قبل أن يكون سلوكاً أو ممارسة، وعنف الكلمة هو التجلي المباشر، الفوري، الأولي لثقافة العنف، وإذا كانت سنة الحياة قائمة على تعدد الأفكار والأهواء والأمزجة والاجتهادات، فإن سنة هذه الحياة ذاتها تتطلب تعايش هذه النقائض في سلام لا برغبة التوفيق بينها فهذا متعذر، ولكن لكي تتواجه وتتعارض لكن بالحوار وحده، لا بالعنف، حتى لو كان عنف الكلمة، إذا أردنا بناء أفراد بتكوين سوي يشكلون قوام مجتمع معافى.
|| خالد سالم الجابري : عضو منهل الثقافة التربوية.
◄ كثيراً ما نسمع بكلمة العنف تطرق أسماعنا بين حين وآخر, فأكثر ما يتبادر إلى أذهاننا هو العنف الجسدي (المادي), ونبعد أو نتباعد أحياناً عن العنف اللفظي أو النفسي في المدارس, مقللين من أهميته مقارنة بالعنف المادي والذي هو حقيقة أقل ضرراً من العنف اللفظي والنفسي لأنه قد لا يتعدى زمن حدوثه أما اللفظي فيبقى في غياهب النفس وكمائن الذات يتردد بين فترة وأخرى.
أنت غبي، فاشل، ما تفهم، متخلف دراسياً عن زملائك، أخوك أفضل منك، ليس منك فائدة, كلمات تتردد كثيراً في بيوتنا ومدارسنا, وتنطلق من ألسنة أقرب الناس للطفل والداه أو معلميه الذين يمثلون القدوة والشخصية المؤثرة في حياة الطفل.
■ لكن لو تسائلنا عن التأثير التربوي لعنف الكلمة على طلابنا وأبناءنا في مدارسنا وبيوتنا فما حجم ذلك التأثير ؟
البروفيسور أحمد مهدي مصطفى أستاذ علم النفس في جامعة الملك سعود، يحذر المعلمين من قذف طلابهم بعبارات لفظية جارحة، مبيناً أن تكرار العنف اللفظي يؤثر في نمو الطفل بدنياً واجتماعياً وعلمياً وعلى جميع جوانب النمو في شخصيته.
وأكد الأستاذ الدكتور مهدي : أن العنف اللفظي المتكرر يظهر علامات الاضطراب الانفعالي على الطالب الطفل وقد يصيبه بالتبول اللاإرادي وتدهور التحصيل الدراسي ثم القلق والاكتئاب والعدوان، وشدد على أن تأثير الألفاظ الجارحة أكثر إيذاءً وتدميراً من العنف البدني ''الضرب''، لافتاً إلى أن الطالب قد ينسى آلام الضرب بعد دقائق لكنه من الصعب عليه نسيان الإهانة اللفظية التي تترك في نفسه آثاراً سيئة ''لذا فالعنف اللفظي يعد من أشد أنواع العنف خطراً على الصحة النفسية للطفل''.
وأضاف أن آثار العنف اللفظي في الطالب بالغة جداً ومتعددة بخلاف ما سبق، إذ يسهم العنف اللفظي أيضاً في تدني مستوى تقدير الذات وانعدام الثقة بالنفس واكتساب تدمير الذات والسلوك العدواني بضرب زملائه الآخرين.
وأبان أن العنف اللفظي لا يكون بالصراخ على الطالب وتهديده فحسب بل قد يكون بالسخرية منه أمام زملائه أو تمني عدم وجوده في الفصل أو إلقاء اللوم البالغ عليه أو إطلاق ألقاب وأسماء عليه أو استخدام لغة سوقية ضده.
وطالب البروفيسور أحمد مهدي التربويين باستخدام أسلوب التعزيز الإيجابي مع تلاميذهم، مشيراً إلى أنه يولد حالات انتقالية سارة وعادة ما يجعل الطالب يشعر بحالة عالية من الرضا والسعادة وزيادة ثقته بنفسه.
على الصعيد ذاته، قال الدكتور أشرف عبده أستاذ علم النفس المساعد رئيس وحدة التوجيه والإرشاد الطلابي في كلية المعلمين في الرياض، إن هذه السلوكيات من العنف اللفظي من متخصصي التربية في المجال التعليمي والتربوي تترك آثاراً سلبية في البناء النفسي للطالب، ويتمثل في شعور الطالب بالإحباط النفسي الشديد نظراً لاستشعاره أن المعادلة السلوكية غير متوازنة فهو لا يملك من مقومات التوازن في هذه السلوكيات سوى الصمت مخافة الحرمان من درجات الأنشطة وأعمال السنة أو استدعاء ولي الأمر، مضيفاً أن كل هذا يجعل الطالب يستشعر الظلم ويجعله كابتاً لهذا الصراع غير المتوازن ما يستشعر معه رفض المدرسة واستقبال المعلومة وهي بدايات للاكتئاب التعليمي والخطوة الأولى في تدهور المستوى التحصيلي للطالب.
وأضاف الدكتور أشرف أن العنف اللفظي يلقي بظلاله على شخصية الطالب عندما يكبر، وسيتوحد بهذا العدوان ويقوم بتفريغه على الآخرين باستخدام ''آلية سلوكية التوحد بالمعتدي'' وهذه الصورة نجدها في التنشئة الأسرية فالطفل الذي أبوه يصرخ دوماً في المنزل نجده يقوم بتمثيل الدور فيما بعد أثناء اللعب، ولكن في حضور أبيه مصدر العنف الأساسي فإنه يصاب بالخوف الاجتماعي (Social Phobia).
وبين أنه في حالات طلابية أخرى تعاني من كبت الإحباطات الناتجة من السلوك اللفظي العدواني من المعلم أو التربوي إلى تفعيل هذا الإحباط للخارج بدلاً من طيه إلى داخله (أي الطالب)، ففي هذه الأيام تسود موجة من تبادل سلوك العنف violence سواء اللفظي أو الفيزيقي (الجسدي).
وأسدى الدكتور أشرف نصيحة للتربويين قائلاً : لا ترعبوا طلابكم بالصراخ والألفاظ الجارحة واصبروا عليهم، مشيراً إلى أن أفضل أساليب العقاب التربوي من وجهة النظر العلمية هي الحرمان العاطفي التربوي للطالب، مبيناً أن العملية التربوية يجب أن تقام على الحب.
وأبان أنه إذا نجح المعلم في كسب حب تلاميذه من الحصة الأولى منذ بدء العام الدراسي وحافظ على هذا الحب فهو قد نجح، ويكفي إذا أخطأ الطالب أو أهمل في واجباته أن ينظر المعلم له نظرة تفيد أنه غير سعيد بذلك، وهو أشد أنواع العقاب التربوي القائم على الحب التربوي وهو أسلوب يستخدمه المولى عز وجل يوم القيامة للذين أهملوا واجباتهم في العبادة في الدنيا (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم).
أما المؤمنون من أهل الجنة من أصحاب الدرجات العليا فيتمتعون بنعمة النظر إلى وجهه الكريم وينعمون بنوره، هذا الأسلوب التربوي في العقاب يجب أن يستخدمه كل معلم ماهر ومتمكن من شخصيته وقدراته التربوية والتعليمية ''استخدام لغة الجسد في توصيل العقاب بأسلوب عدم الرضا عن أداء الطالب السلوكي''.
أما ثقافة عنف الكلمة فيرى الدكتور حسن مدني : أنه يجب التمييز بين كلمة وأخرى، ثمة كلمة للحوار وكلمة للعنف، العنف في الأصل هو عنف الخطاب الذي ينتج ممارسة عنيفة بأشكال مختلفة، العنف لا ينشأ من تلقاء ذاته، وإنما ينشأ كنتاج لخطاب يمجد العنف، وتمجيد العنف لا يعني أن يقول أصحاب هذا الخطاب إنهم مع العنف أو يجهروا بالدعوة لممارسته.
وإنما لأن هذا الخطاب يحمل في ثناياه فكرة الإقصاء، إقصاء الآخر، انطلاقاً من الوهم الذي يتجلى في شكل قناعة بتملك الحقيقة المطلقة، الكلية، ومثل هذه القناعة تفترض بالنتيجة أن الرأي الآخر، أو الآراء الأخرى خارج الحقيقة أو ضدها، ولأنها كذلك فإنها مقصاة.
هذا جانب من الأمر، أما الجانب الثاني فإنه داخل في دائرة ما ندعوه بالحوار أو الجدل أو النقاش يمكن أن نميز بين لغتين، حتى داخل الصف الواحد، لغة تتوخى الحوار وتنشده، ولغة أخرى لا تحاور وإنما تهاجم وتقاتل، قوام هذه اللغة هو ما ندعوه عنف الكلمة، وعنف الكلمة بالمناسبة أبلغ تأثيراً وأكثر بعثاً على الأذى من العنف في شكله السافر، لأنه يخلق مناخاً يصبح معه الحوار عصياً، إن عنف الكلمة هو مشارف العنف المباشر في صورته المادية.
وتكمن جذور عنف الكلمة، على الأرجح، في التربية القسرية في مجتمعات اعتادت أن تكون حذرة ووجلة تجاه التعبير المخالف بدءاً من الحلقة الأصغر، حلقة العائلة حيث تسود كلمة واحدة لا تحتمل الجدل والنقاش مروراً بالحلقات المتتالية في المجتمع صعوداً إلى العلاقة بين السلطة ومواطنيها.
إن عنف الكلمة لا يتجلى فحسب في حقل السياسة وحقل الفكر وحدهما وإنما في حقل العلاقات الإنسانية المباشرة، بين البشر والأفراد أنفسهم، حين يمكن لكلمة واحدة أن تبدو جارحة، حادة كالسكين في إلحاق الأذى بمن توجه له، وأن تكون من الرقة والرهافة بحيث تذهب بعيداً إلى عمق روحه.
العنف هو ثقافة قبل أن يكون سلوكاً أو ممارسة، وعنف الكلمة هو التجلي المباشر، الفوري، الأولي لثقافة العنف، وإذا كانت سنة الحياة قائمة على تعدد الأفكار والأهواء والأمزجة والاجتهادات، فإن سنة هذه الحياة ذاتها تتطلب تعايش هذه النقائض في سلام لا برغبة التوفيق بينها فهذا متعذر، ولكن لكي تتواجه وتتعارض لكن بالحوار وحده، لا بالعنف، حتى لو كان عنف الكلمة، إذا أردنا بناء أفراد بتكوين سوي يشكلون قوام مجتمع معافى.
|| خالد سالم الجابري : عضو منهل الثقافة التربوية.