بسم الله الرحمن الرحيم

اسمُ الكاتب : د. أحمد محمد أبو عوض.
إجمالي القراءات : ﴿4455﴾.
عدد المشــاركات : ﴿722﴾.

لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «2».
تطور نظرية تشومسكي :
يعتبر ما قال به تشومسكي في نظريته الحديثة التي أسماها الإبداع أو الابتكار امتداداً لنظريته السابقة, النظرية الفطرية, يقول بعض الباحثين : (لقد أضاف تشومسكي ما أسماه بنظرية الإبداع والابتكار, ويراد بها تلك الصفة النفسية التي تتوافر عند من يتكلم لغـة معينة ويستطيع استخدامها بيسر وسهولة, وبناء على هذه النظرية الجديدة، فإن الطفل يكتسب لغة الأم عـن وعي وإدراك حتى في سن مبكرة جدًّا, وأنه حالما يستوعب القواعد المختلفة التي تعتمد عليها اللغة تتكون عنده القدرة على الإبداع والابتكار, التي تمكنه من توليد الجمل المختلفة التي يريدها في الوقت والظرف المناسبين).
ووفقاً لما ذهب إليه تشومسكي من أن الطفل لا يولد وذهنه صفحة بيضاء, بل يولد مزوداً بقـدرة خاصة تمكنه من تعلم اللغة, ويحاول أن يضع ما يسمعه من ألفاظ اللغة التي يعـيش بين أهلها في القوالب العامة ومن ثم فالطفل لا يكون عنصراً يقتصر دوره على التلقي والأخذ والتقليد, وإنما يمثل عنصراً إيجابياً يستخدم قدراته العقلية (الإبداعية) أثناء اكتسابه للغة, وتوليد نماذجها المختلفة.

■ ملامح نظرية تشومسكي (الإبداع والابتكار) :
لقد كان من أهم الملامح لهذه النظرية (الإبداع والابتكار) الأخذ بمبدأ التمييز بين كل من القدرة "Competence", والأداء الفعلي "Performance". وهذا يذكرنا بما صنعه دي سوسير عندما فرق بين اللغة Langue والكلام Parole.
تقول "J. Green" والإشكالية الأساسية في هذه التفرقة أنه قد لا يكون هناك دائماً توافق دقيق بين المتعلم وقوانين اللغة.
وأهم مقومات هذه اللغة أو القدرة هي معرفة الفرد بالقواعد الصرفية والنحوية التي تربط المفردات بعضها ببعض في الجملة بالإضافة إلى معرفة قواعد التحويل "Transformational Rules" وهي التي تعمل على تحويل البنيات العميقة للجملة إلى الشكل الخارجي للأداء (السطحي) الذي يعبر عنه بأصوات الكلام, ومن ثمّ يكون المقصود بالأداء هو الأصوات اللغوية المنطوقة بالفعل.

■ موقف اللغويين الغربيين من آراء تشومسكي (التوليدية والتحويلية) :
لقد امتدح كثير من الغربيين جهود تشومسكي في اللغة بوجه عام على سبيل المثال ما قاله بالمر "Palmer" إنّ نظرية تشومسكي هي أكثر النظريات اللغوية أثراً في الوقت الراهن, ولا تسمح لأي دارسٍ جادٍّ بإغفالها.
وقال "Robins" : لعل أهم تغيير في اتجاه اللسانيات الوصفية والنظرية الذي حدث في السنوات الأخيرة هو الذي وقـع على يد تشومسكي منذ أن ظهر كتابه الأول عن هذه النظريـة عام 1957م .. ورغماً من ذلك المديح, فلم تعدم هذه النظرية من ينتقدها ويصفها بأنها نظرية جدّ معقّدة وشبه رياضية.
وقد لاقت افتراضات تشومسكي والآراء التي ذهب إليها في هذه النظرية نقداً من قبل علماء النفس اللغوي, الذين ذهبوا إلى أنه باستثناء عموميات قليلة في التركيب اللغوي, فإنه ليس هناك وجود واضحٌ أو واسع لهذه الافتراضات, والشيء الوحيد الذي أقره هؤلاء هو أن الكائن البشري لديه استعداد بيولوجي (فطري) للتفاعل مع البنية (التركيب اللغوي) على أسس شكلية وليست عقلية بحتة.

■ الفكر اللغوي العربي وتوليد الطفل للغة :
يرى كثير من اللغويين المحدثين أن علماء العربية القدامى قد ألمحوا لكثير من المسائل اللغوية التي اشتملتها آراء تشومسكي فيما يخص توليد اللغة خاصة فيما يتعلق بالتمييز بين البنيتين العميقة والسطحية من ناحية, والفرق بين القدرة والآراء من ناحية أخرى, بيد أن مثل هذه الإشارات لم تلق ما هي حقيقة به من الاهتمام والتطوير من قبل اللغويين المتأخرين. وسنعرض هنا لبعض تلك الآراء عند ابن خلدون من القدامى, ومحمد خلف الله أحمد من المحدثين؛ لأن كل منهما كان يُعنى باكتساب الطفل للغة وتوليده لها.

■ رأي ابن خلدون :
تتولد معرفة اللغة عند الطفل فيما يراه العلامة ابن خلدون عن طريق ملكة أو صفة راسخة تقترب من مفهوم الكفاية اللغوية عند أصحاب الفكر التوليدي. يقول ابن خلدون في مقدمته : (يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيُلقَّنُها أولاً ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقّنُها كذلك, ثم لا يزال سماعُهُم لذلك يتجدد في كل لحظةٍ ومن كل متكلمٍ, واستعمالُه يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكةً وصفة راسخةً, ويكون كأحدهم, هكذا تصيَّرت الألسُـنُ واللغات من جيل إلى جيل وتعلَّمها العَجَمُ والأطفال).
ويعلق أحد الباحثين على ما ذكره ابن خلدون قائلاً : (إن الملكة اللسانية بذلك هي الأساس في لغة المنشأ حيث يترعرع الإنسان, وهي بالتالي تكون تامة في اللغة الأم, ويصعب على الإنسان اكتساب ملكة لسانية أخرى تكون تامة وراسخة مضافة إلى ملكته اللسانية الراسخة التي اكتسبها من البيئة التي ترعرع فيها, وتقتصر هذه الملكة الراسخة على لغـة المجتمع الذي يولد فيه الطفل (أي اللغة الأم), ولا علاقة لها بالجنس أو العرق, بل تتكون عند الطفل خلال نموه في المجتمع الذي يتكلمها).
ويشير ابن خلدون إلى العلاقة القائمة بين الملكة اللسانية وبين صناعة العربية, فيقول : (ذلك أن صناعة العربية هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة, فهو علم بكيفية وليس نفس كيفية).
ومن الواضح هنا أن ابن خلدون يميز بين الملكة اللسانية الفطرية وبين صناعة العربية المكتسبة بالتعلم، وهذا التمييز يقـارب إلى حد كبير ما قام به تشومسكي من التفـرقـة بين "Competence" أي الكفايـة, و "Performance" الأداء, حيث إن هذه الكفاية اللغوية أو الملكة اللسانية لا تعدو أن تكون أمراً ذهنياً يتولد منه الكلام, إذ هي معرفة ضمنية بالقواعد التي تنتج الجمل, أما الأداء الكلامي أو الاستعمال الفعلي فإنما يتمثل تطبيقاً واستعمالاً آلياً لهذه المعرفة الضمنية بالقواعد أثناء عملية توليد الكلام, وهو يتم عبر قواعد الكفاية اللغوية. وبالموازنة بين مفهوم الملكة اللسانية عند ابن خلدون والكفاية اللغوية عند تشومسكي, نجد أن ابن خلدون في نظرته إلى الملكة اللسـانية, قد اقترب من مفهوم الكفايـة اللغوية عند تشومسكي؛ لأن الملكة اللسانية في نظر ابن خلدون هي في نهايـة المطاف المقدرة على صناعة العربية, إذ يكفي اللجوء إلى قوانينها لكي يصوغ العربي الكلام العربي الصحيح, كما أن الكفاية اللغـوية في نظريـة تشومسكي هي المقـدرة على تكلم اللغـة أو كتابتها. ومما لا يصح إغفاله هنا هو أن ابن خلدون يركز على صناعة اللغة أو كتابتها في حين أن النظرية التوليدية لتشومسكي تركز على الأداء الكلامي بصورة عامة لقد أدرك ابن خلدون أيضا دور العملية الإبداعية حين أشار إلى أنّ سماع الطفل يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم, (واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم).
تظهر مجالات الإبداع هنا من خلال تنوع الكلام وتجدده حتى تُمكِّن مقدرة الإبداع أو الابتكار الطفل من توليد أنماط اللغة بصورة متجددة, وفي ظروف ومواقف متجددة أيضاً عن أفكار لا حصر لها؛ لأن ملكة الإبداع تولد ما لا يحصى من الجمل للتعبير عمّا لا يحصى من الأفكار من خلال القدرة على استخدام النظام التقليدي المعتمد على الكفاءة والمقدرة الذهنية.

لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «1».
لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «2».
لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «3».
لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «4».
لغة الطفل بين الاكتساب والفطرة «5».